الأمانة والقوة من الصفات الحميدة التي تتصدر القيم البشرية الفاضلة ومكارم الأخلاق في كل مكان وزمان وعند جميع الثقافات والأديان، وتشكلان أهم الركائز التي تُبنى عليها إنجازات وأمجاد الأمم الرائدة. بيد أن هاتين الخصلتين لا تنفعان وتعودان بالخير ولا تثقلان في الميزان إلا إذا كانتا مقترنتين ومتلازماتين في ترابط تام لا يفصل بينهما حاجز أو مانع ولا حتى حرف عطف “إن خير من استأجرت القوي الأمين” – الآية.
ويُعدُّ انفصال هذين الزوجين – القوة والأمانة – السبب الرئيسي لانحطاط الأمم والحضارات وتدهور المجتمعات وتشرد أفرادهم ووقوعهم في دوامة الاستئثار والفساد والفتن، مثلما يحصل لأطفال بعض البيوت والعائلات التي تفقد تماسكها بعد طلاق الأبوين.
بين خيانة القوي وضعف الأمين
في زمن يَعِزُّ فيه القوي الأمين يصعب التفاضل بين الكفاءة والثقة، ومن الطبيعي أن يحاول كل من القوي بدون أمانة والأمين بدون كفاءة التذرع بمقوماته وإبرازها لستر نقائصه وتواضع مؤهلاته الأخرى، وقد ينخدع بعض الناس بهذا أو ذاك بسبب الإفراط في تقويم بعض الجوانب والتفريط في الباقي، ولكن انخداع الحكام وأصحاب الرأي والعزم هو الأخطر، والكارثة الكبرى تقع لما يقتنع هؤلاء باستراتيجية التمكين للضعيف المنصاع ذي الأمانة الهشة.
“إلى الله أشكو ضعف الأمين وخيانة القوي”. هكذا كان يردد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان الفاروق يقول أيضا: “لست بالخب ولا الخب يخدعني”. فلا عجب في التميز الإستثنائي لحكمه الراشد الذي يعتبره الكثيرون نموذجا فريدا من نوعه ومرجعا للبشرية كلها.
فالأمانة بدون قوة قد تستغوي لأن قبل علاجها فإن تشخيصها غالبا ما يكون مستعص بسبب الاشتباه لدى البعض بين السذاجة والرزانة وبين الغفلة والحكمة وبين التخاذل والتسامح وبين التفريط والوسطية وبين الانتهازية والواقعية، بينما تجد من يتخوف ويتهم النبوغ والفطنة بالحيلة والمناورة أو بالتشدد بل حتى بالخيانة.
مصادر الخب والخداع متنوعة وليست كلها خارجية بل إن أخطرها ينبع من النفس ضعفا أو إعجابا وغرورا. عمر بن الخطاب كان يؤدب نفسه بالإذلال كلما شعر بإعجاب تُجاهها وهكذا استطاع أن يتنزه عن كل أشكال العاطفة والمحسوبية في اختيار المسؤولين وبَحَث عن القوة والأمانة حيث ما وُجدت. ولم يتردد في تعيين أبي مريم الحنفي قاضيا في البصرة مع أنه هو الذي قتل شقيقه الأكبر زيد بن الخطاب. أما الرسول صلى الله عليه وسلم فرفض بصرامة طلب تكليف أبي ذر الغفاري ذلك الصحابي الجليل الزاهد أحد السباقين للإسلام والذي كان لا يخشى في الله لومة لائم “ياأبا ذر إنك ضعيف وإنها لأمانة وإنها يوم القيامة خزي وندامة”.
ليس العيب في الضعف بل في الإضعاف والتعويق
خُلق الإنسان ضعيفا وللنفس حظ جلي في ضعفه، وكُرِّم بعقل وهدي أصيلين لكسب عناصر القوة والأمانة وتهذيب غريزته. وأصول القوة والأمانة تتفاعل مع عدة مؤثرات فتزيد أو تتراجع حسب المقومات الذاتية للإنسان والظروف المحيطة به في مناخه الإجتماعي والثقافي والإعلامي وعلى وجه الخصوص حسب المشهد السياسي القائم في البلد.
تسليط الأضواء على السياسيين وصلاحياتهم الواسعة مكنتهم من التفوق على غيرهم في رسم المعايير السلوكية وأصبحوا يقودون مجتمعاتهم بمثابة القدوة نحو الأفضل أو الأسوأ مؤثرين تحفيزا وتخويفا. فالأمانة والرقابة الذاتية تتدعمان حتما في ظل نظام عام يراقب الجميع بعدل ونزاهة كما أن الإرتباط بين عناصر القوة والأمانة قد لا يصمد أمام الإغراءات المستمرة في ظل الفساد ومؤثراته المتنوعة فتتراخى دفاعات الضعفاء ويهتز مفهوم التعفف والورع عندهم. وهذا ما حصل في التجربة التعددية الحديثة في بعض الدول العربية، إذ أن استراتيجية الترغيب والترهيب التي اعتمدتها الأنظمة استطاعت احتواء كثيرا من رموز المعارضة والإيقاع بهم، وكل قطب يُقتدى به من هؤلاء يجر وراءه بعض الأتباع ويُسبب خيبة لدى البعض الآخر، وإن كسب أنصارا جدد فهم بالأرجح من المؤيدين الظرفيين. ومما زاد الطين بلة هي فتنة الزعامة والطموح الضيق اللذان تسببا في انشقاقات وانقسامات حزبية عديدة. ولعل هذا هو السبب الرئيسي لتراجع منسوب القيموالأمانة في هذه الدول.
وهذا المنهج الذي يُطيل عمر النظام الضعيف الذي لا قوة له إلا قوة البطش، والمعارضة الضعيفة التي يستغويها بعد إقصاء الآخرين هو منهج الإضعاف الشامل للعباد والبلاد بعينيه. فهذا أسلوب فاشل لا يعتمده إلا الضعفاء وكل من يعتبره دهاءا أو ذكاءا فهو في حقيقة الأمرضحية الضعف المكتسب ومرشح للإنخراط في عملية التعويق والإمهان. فالنظام القوي لا يرضى إلا بمعارضة قوية تدعم مصداقيته، تختلف معه وتعارضه في الأساليب والفروع ولكنها شريك له في الأصول وتساعده في ترقية وتدعيم القوة والأمانة والفضائل الأخرى التي لا يمكن لأي مجتمع أن ينهض ويتطور بدونها.
فإذا كانت الإنتخابات الأخيرة أبرزت وأكدت مرة أخرى مسلسل الإضعاف من خلال سباق سياسي لم يجلب اهتمام أغلبية المجتمع ومليىء بمواقف غريبة ومتناقضة ومتغيرة حسب النتائج والمصلحة الضيقة، بعضها يدعو للتحسر والشفقة على الوطن، فيجب كذلك تسجيل والترحيب ببعض المستجدات لعلها تكون مؤشرات للتفاؤل بتطورات قادمة.
يعتبر الاعتراف بنسبة المشاركة الضعيفة والأوراق البيضاء أمر أيجابي رغم بساطته وكذلك الرفض غير المعهود لأحد الأحزاب المشاركة في الحكومة بسبب فقدان الإنتخابات للمصداقية الكافية، ثم طريقة انتخاب رئيس البرلمان الجديد التي تمت لأول مرة بالاقتراع السري.
بكل تأكيد هذه المؤشرات قليلة وبسيطة جدا ولا تكفي للاطمئنان. هذا العزوف عن السياسة والتهميش الجماعي الطوعي بعد الإقصاء القسري لا يُتوقع أن تطالب أو تقوم بتغييره الأطراف المستفيدة منه، بل رغم الإنتقاد الظاهري فالكثير سيسعى للدفاع عنه. ولكن يبقى السلاح هو الصبر والثبات وزرع التفاؤل لأن المشوار البعيد يبدأ بخطوة واحدة، فقرار واحد ورفيع بإمكانه أن يقلب الأمور كلها بسرعة ويعيد المسار نحو الإرتباط المنشود بين الكفاءة والثقة وبين القوة والأمانة. فطوبى للقوي الأمين أو القوي النادم على هفواته الذي عاجلا أم آجلا سيكون له الشرف والفضل لوقف نزيف الإضعاف وإعادة البلاد نحو الطريق الذي ضحى من أجله الشهداء الأقوياء الأمناء ومن سار على دربهم.
لهذا يعِزُّ القوي الأمين
بصُحبة العجزيُصاب الضعيف يُبتلى بمرض العَظَمَة يُهروِل للتكلُّـفِ
وبمُعاشرة مرضى النفوس والجَشَعِ يَطْمئنُّ الطمّاع ويتزكى بالتعفّـُفِ
وبتفشي الفساد تبرز الرشوةٍّ وترتقي كإبداع فني أو بروع في التثقّـُفِ
وبزعم الإنقاذ يتسلّط المُستبِدُّ يغتنم وعلى الفقير ربْط حِزام التقشُّـفِ
بقيادة هؤلاء وأولائك الوطن ينْحطُّ إلى الخلف يهوي لغياهب التخلُّفِ
تُوَظَّف المبادئ والثوابت كالمطّاط تُلفُّ الحدود حسْبَ الهوى والتكيُّفِ
بضياع الأمانة والأمن الرّكب يزيغ في نفـق الفسـاد ودوّامة التعنُّـفِ
الكُلُّ مُدّعِي الظلم والكل مُدَّعَـا عليه يشكو المحقور أخاه من التعسُّفِ
وفي غياب الحِكمة فمن يبالي برِفقٍ أويعبأ بلُطفٍ ويدعو إلى التلطُّفِ
لا ثمرة في القوة والأمانة إلا بتعاضد لا في جفاء يؤول للريبة والتخوُّفِ
بالاقتداء يعلو منسوب الأخلاق وينحدر والجسد يميل مع الرأس بالتصفُّفِ
إنما الأمم الأخلاق وكذا الهِمَّة والثبات لردع الفساد الزاحف دون التوقُّفِ
شهادتي قصدها إصلاح كتمانها ثمين رغم جِزية الإقصاء وتُهم التطرُّفِ
هذا شهـر الزَّاد فيه ليلة تفـوق ألف شهر وإبليـس المـارد مـُقـيَّـد التصرُّفِ
فتعالوا نشكو إلى الله ضعفتا وزيغـنا قبل يوم لا نفع فيه للندم والتأسُّفِ
عبد الحميد شريف
29 ماي 2017