ما أجمل أن يعود الزوج والزوجة والشابّ والفتاة إلى بيتهم بعد العمل أو الدراسة فيجدوا فيه أجواء الانشراح والسعادة ، يستنشقون نسائم المودّة والرحمة في ظلال الابتسامات والملاعبة والدعابة والتعاون ، ذلك هو البيت السعيد الذي ينشده كلّ إنسان سوي، فضلا عن المسلم الذي تعلّم من دينه أنّ السعادة الأسرية تتوسّط سكينة القلب وسلامة العلاقات الاجتماعية ، وإنما يصل البيت إلى هذه الحالة المرجوّة عندما يعيش كلّ واحد من أفراده التوازن النفسي الذي يمكّنهم من حسن استثمار عوامل التوافق ويُكسبهم فنّ تجاوز لحظات التوتّر وسوء التفاهم التي لا يخلو منها بيت فيه بشر تنتابهم حالات الغضب والضعف والتسرّع في رد الفعل كجزء من تكوينهم البشري.
ولا شكّ أنّ الأسرة الملتزمة بالدين والأخلاق أقرب إلى النموذج المرجو ، تنعم بالاستقرار كصفة أساسية فيها، لا تعكّر صفوه حالات التشنج الطبيعية في سلوك البشر، غير أنّ الجوّ المادي الذي طغى على الحياة في الأزمنة المتأخّرة ترك بصمات سلبية واضحة على الحياة الأسرية حتّى عند المسلمين، بحكم ضغط المقاييس المادّية وتراجع الوازع الديني في الحياة العامة، إلى جانب سطوة النموذج الغربي الذي تنقله وسائل الإعلام – والفضائيات بصفة خاصة من خلال الأفلام والمسلسلات – فأصبحنا ندفع نحن أيضا ضريبة التقدّم المادي في شكل اهتزاز الاستقرار النفسي والتعرّض لأمراض العصر ، وهو ما انعكس على الأسرة المسلمة سواء على مستوى العلاقات الزوجية أو ما بين كل أفراد العائلة ، فنقلها في كثير من الأحيان – مع الأسف – من واحة فيها الهدوء والسكينة والطمأنينة والراحة النفسية إلى جحيم لا يُطاق ، يصطلي بناره الكبار والصغار سواء ، وقد بدأ غيرُ قليل من الأزواج والآباء والأمّهات والأطفال يتردّدون على العيادات النفسية ، يشكون أنواعا من الإصابات التي تنغّص عليهم حياتهم، ويَنشُدون راحة قلّما تساهم تلك العيادات في توفيرها ، أي أنّ كثيرا من البيوت في البلاد العربية الإسلامية وصلتها الأمراض النفسية التي نشأت وانتشرت في الدول الغربية واستوردناها مع بضائع الغرب وسلعه وفلسفته وأنماط حياته ، ويمكن إجمال هذه الأمراض المستجدّة الفتّاكة في أربعة أصناف :
1- السآمة : لأسباب شتّى- وفي بعض الأحيان بلا سبب واضح – يعاني كثير من الأزواج السآمة والملل من البيت ويحسّون ببغض كل شيء ويرغبون في “الفرار”… الفرار من الزوج والأبناء ، الذهاب إلى مكان آخر والبحث عن آفاق أخرى ، الشكوى من الرتابة والرغبة في تغيير الحياة …ونحو هذا من المشاعر غير الواضحة المعالم التي تؤرق أصحابها وتصيب علاقاتهم العائلية بالتوتّر الشديد.
ولا شكّ أنّ فتور العواطف بين الزوجين يقف وراء هذه المسألة التي كثيراً ما تنتهي بخراب البيوت وتشتّت الأهل ، وإنّما يكمن العلاج في التجديد الدوري والمتواصل للعلاقة بين الرجل وامرأته باتجاه المودّة والرحمة ، ولا يؤتي هذا التجديد ثماره – بل لا يعني شيئا – إلاّ إذا كان لفظيا وسلوكيّا بحيث يرتاح إليه كلّ طرف لما يجد فيه من صدق، وإذا لم تأت هذه المودّة المتجدّدة عفويا فينبغي أن يتكلّفها كلّ من الزوجين مرّة بعد مرّة حتى تثبت وترسخ وتصبح سجية ، وإذا كان العلم – مثلاً – يُكتسب بالتعلّم فالمودّة تكتسب هي الأخرى بطلبها والصبر على ذلك … وإلاّ فهي التعاسة والبؤس النفسي وشقاء البيوت.
2- الغيرة المَرضيّة : إذا كانت الغيرة كقيمة نفسية شعورية معتدلة ضرورية للمحافظة على الحياة الزوجية فإنّها بالإفراط تنقلب إلى معول هدم لهذه الحياة وتُحيلها- هي الأخرى- إلى جحيم كبير تصطلي به العلاقات الزوجية لأنّ الغلوّ فيها يعني انعدام الثقة و الشعور بالتوجّس من كلّ حركة وسلوك مهما كان بريئاً ، ومن ذا الذي يطيق العيش في جوّ ملؤه الشكّ وسوء الظنّ ؟ إنّ الغيرة المفرطة حالة مرضية لا تزول بالتجاهل والتهوين من أمرها، لأنّ مرور الأيام لا يزيدها بذلك إلاّ تعقيدا حتى يبلغ الاستفزاز مداه لأدنى ظنّ ويُنذر بعواقب وخيمة ، ولا علاج للغيرة المفرطة التي تقوّض أمن البيوت سوى إرساء قواعد الثقة بكل صدق وصراحة ، وهذا ليس علاجا هيّنا بسيطا لأنّ المصاب بهذا النوع من الغيرة هو مريض نفسي يعتبر نفسه في حالة صحية بينما الآخرون هم المرضى ، فهو لا يقرّ بمرضه ، وهذا ما يجعل العلاج مستعصيا يحتاج من الطرف الآخر إلى كثير من الصبر واللياقة وتنويع الوسائل لاستئصال المرض من الأساس ، ومعلوم أنّ مجابهة المريض النفسي بمرضه لا فائدة منها إطلاقاً ، ولكن يجب تمرير الدواء بلطف ومحبّة لعلّه يفعل فعله فيزول الشكّ في أبسط كلمة أو نظرة أو هاتف أو نوع من لباس أو عطر أو رسالة.
3- إدمان الشكوى والتباكي : كيف يستقيم العيش في بيت فيه شكوى دائمة وتباكٍ لا ينقطع؟ لا ريب في صعوبة ذلك لأنّه ينغّص الحياة ويذهب بطعم الأكل والنوم ولذّة الأبناء… إذا أصيب أحد الزوجين بهذا الداء النفسي انعكس ذلك حتماً على زوجه وألقى بظلاله على العلاقات الأسرية والاجتماعية ، فالمصاب بهذا المرض لا يعرف من الحياة إلاّ جانبها القاتم ، ومن الألوان الأسود وحده ، ولا يرى من الكوب سوى نصفه الفارغ ، فهو يندب حظّه بسبب وبغير سبب ويشتكي من كلّ شيء ومن كلّ أحد ، لا ينجو من شكواه لا الزمان ولا الزملاء و لا الأبناء ولا حتّى القدر الإلهي .. ومثل هذا يملّه الناس ويهجرونه ، بدءاً بزوجه وشريك حياته ، لذلك يجب أن يمرّ برحلة علاج يدرك من خلالها معاني التفاؤل والأمل والخير والجمال فيطعّم قلبه بقيمها ويتعلّم احترام مشاعر غيره ويوجّه لسانه توجيهاً سليماً نحو الكلام الطيب والقول الحسن ، وينعم بما آتاه الله ويعطي غيره فرصة الاستمتاع بها فلا يفسدها عليه بوابل من الشكاوي المتواصلة ، مع العلم أنّ التباكي لا يحلّ مشكلة قائمة ولا يقرّب بعيدا ، إنّما يضيف إلى الهمّ هموما ، ويطبع النفس بطابع السلبية.
4- الإفراط في الكلام وفي السكوت : الكلام أهمّ وسيلة للتواصل بين الناس ، ولجميع الناس فيه حقّ ، وهو ينقلب إلى مشكلة كبرى إذا خرج من موقع الاعتدال إلى الإفراط أو التفريط، فالبيت الذي يحتكر فيه أحد الزوجين الكلام ويُكثر منه ولا يعطي فرصة لزوجه يصبح بيتا لا يطاق لأنّ الثرثرة تسبّب الملل وتؤدّي إلى هجر صاحبها فتحدث القطيعة ، ولا يقلّ الوجه الآخر سوءاً ، فعندما يصاب أحد الزوجين بداء السكوت والانغلاق تحدث القطيعة أيضا لأنّ الإمساك المفرط عن الكلام يؤدّي إلى العزلة وتناسي الآخر، ومتى انعزل أحد الزوجين عن الآخر وتناساه كانت الكارثة ، وخير الأمور أوسطها دائما ، والاقتصاد في الكلام يعلّم صاحبه الإصغاء للآخر والاستماع لما يقوله ، وهذا من شانه تأليف القلوب والاجتماع على حلّ المشكلات البيتيّة من خلال الحوار وتبادل الآراء والنظر فيما عند الآخر.
إنّ أكثر مشاكل البيوت – والأزواج الشباب بصفة خاصّة – ناتجة عن هذه الحالات المرضية، وإنّما تكمن سلامة العلاقات الزوجية في الاهتمام المستمرّ بتجديد وشائج المودّة والحبّ والابتعاد عن الغيرة المبالغ فيها وعن النظرة السوداوية للدنيا والتحكّم في اللسان بحيث يلزم الاعتدال في الكلام والكفّ عنه عند الاقتضاء ، وبدل اللجوء إلى المصحّات النفسية – التي تهيمن عليها نظريات علم النفس الغربي أي اللاديني – يستحسن ان يتولّى العلاج كلّ من الزوجين بمشاعر الإحساس بالآخر وحسن التبعّل وإنشاء الجوّ الايماني الصحي الكفيل – وحده – بإشاعة السكينة والطمأنينة والرَّوح والريحان.
عبد العزيز كحيل
27 أبريل 2017