في واقعة تعد الأولى من نوعها في تاريخ الكيان الفاتيكاني، طلب البابا فرانسيس، يوم 25 يناير 2017، من رئيس تنظيم “فرسان مالطة” أن يقدم استقالته، حيث إن هذا المنصب الرئاسي في نظام الفرسان هو تعيين لمدى الحياة، ولا يجوز لأحد أن يقيله، وذلك لخلاف قديم بينهما.. لذلك أصر البابا على ان يقدم ماثيو فستنج استقالته، بناء على القَسَم الذي يؤديه الفرسان ويلتزمون بالطاعة للبابا.. وفرسان مالطة منبثق ومواكب لفرسان المعبد، المنبثق ومواكب لفرسان الرب، الذين قاموا جميعهم بالحروب الصليبية ضد الإسلام والمسلمين. وأيا كانت تفاصيل هذه المعركة الداخلية بين المؤسسات الفاتيكانية وقياداتها فإن ما يعنيني هنا هو التعريف بهذا التنظيم السري/العلني، خاصة وأن له سفارة رسمية في القاهرة، قريبة من ميدان طلعت حرب بوسط القاهرة.
وتنظيم “فرسان مالطة” من أقدم المؤسسات المسيحية، وهو دولة “بلا أرض” (؟؟؟)، وله سفارة في مائة وعشرين دولة، ويضم 13500 عضوا، يتم اختيارهم من عائلات الأرستقراطية العليا في المجتمعات الغربية وأثريائها المعروفة بطبقة ” النبلاء السود”. وقد تم تأسيسه سنة 1048 في مدينة القدس كجماعة تعمل في مستشفياتها لعلاج جرحى الحروب الصليبية. واعترف به البابا بسكال الثاني سنة 1113م، وبعد الحروب الصليبية انحصر التنظيم الى رودس ومالطة. والبلدان التي له تمثيل فيها تعترف له بسيادة وظيفية وليست أرضية، أي ان له حكومة ويمكنه إصدار طوابع والقيام بمشاريع والاتصال بكل الهيئات. وقد تم إقرار ذلك سنة 1961، العام السابق لبداية أعمال مجمع الفاتيكان الثاني (1962ـ1965) الذي برأ اليهود من دم المسيح، وقرر اقتلاع اليسار في عقد الثمانينات، واقتلاع الإسلام وتنصير العالم في عقد التسعينات، وهو ما يحاولونه حاليا..
ولهذه القضية، بين الفاتيكان وفرسان مالطة، خلفيات متعددة منها صراع قديم بين الرجلين، عندما كان البابا فرانسيس لا يزال الأسقف برجوليو في الأرجنتين وحاول تنظيم الفرسان تنحيته من منصبه لأسباب داخلية قديمة.. وبالنسبة للأزمة الحديثة فهي قيام أحد الفرسان بتوزيع عوازل طبية للرجال في الحرب الدائرة في بورما منعا لانتشار مرض الإيدز، والعوازل محرمة كنسيا لزيادة النسل؛ وتعيين شقيق أحد قيادات فرسان مالطة في مجلس إدارة الفاتيكان للحد من فضائحه، خاصة بعد أن ثبت انغماس ذلك البنك في العديد من القضايا التي ثبتت صحتها أيام البابا السابق بنديكت 16، منها غسيل الأموال والاغتيالات والتعامل مع المافيا وتجارة الأعضاء ووجود وكر للشواذ، والمعارك بين الليبراليين والمتزمتين في الفاتيكان، وصراعات بين القيادات الباباوية والسلطة الرأسمالية الأمريكية، إضافة الى العداء المخفي بين البابا فرنسيس والرئيس الأمريكي دونالد ترامب. والطريف ان هذا البنك الفاتيكاني اسمه “مؤسسة الأعمال الدينية”(IOR).. وهذا الموقف الحالي بمثابة انتصار جديد للبابا الذي يلقبونه “بالتقدمي”، الذي يعمل حثيثا على تغيير وتعديل العقائد الدينية، ضد الجناح الذي يلقبونه “بالرجعي” في الفاتيكان، المتمسك بما يطلقون عليها “الأصول”، ويعلم الله كيف تم نسجها.. وكلها قضايا جانبية بالنسبة للموضوع الأساس هنا المتعلق بتنظيم فرسان مالطة.
حقيقة تنظيم فرسان مالطة
تنظيم فرسان مالطة من العوامل الحاسمة التي تسمح بفهم كيفية تأثير الفاتيكان في المجتمع الدولي. فاسم التنظيم بالكامل هو: “التنظيم السيادي العسكري لمالطة”، وقد لعب دورا حاسما في التاريخ الحديث. فهو تنظيم دولي وله أفرع في مختلف طبقات المجتمع ومؤسساته، كالتجارة والسياسة والبنوك والخدمات السرية والكنيسة ومجال التعليم والجيش، بما في ذلك التنظيمات السياسية والسرية كالماسونية أو تنظيم “ذي كويست” المعروفة باسم “جمعية چيصن”، وهيئة الأمم ومنظمة حلف الأطلنطي. ولهذا التنظيم قانونه الخاص وقد أقسم الولاء للنظام العالمي الجديد الذي يساند البابا في الفاتيكان. وهو، تدرجيّا، من أعلى درجات تنظيم “المستنيرون” (Illuminati) وأعلى من تنظيم “سْكال اند بونز” (جمجمة وعظام). وتنظيم مالطة هذا ليس أقدم منظمة سرية وإنما أحد أقدم الأفرع لمنظمة “ذي كويست” (The Quest).
ولقد قام كلا من تنظيمي “المستنيرون” و”الماسونية” باختراق الفاتيكان منذ عقود ممتدة، فهم الذين سيطروا على المجمع الفاتيكاني الثاني الذي برأ اليهود من دم المسيح، وهم الذين يتحكمون في الفاتيكان حاليا. وأكبر دليل على هذا الاختراق الممتد إن البابا كليمنت الثاني عشر قد أصدر قرارا سنة 1738 ينص على ان “أي كاثوليكي عضو في تنظيم الماسونية سيتم حرمانه فورا”. وهو ما كان بمثابة فضيحة لا تغتفر آنذاك. وفي عام 1884 قام البابا ليون الثالث عشر باتهام الماسونية بأنها منظمة سرية “تسعى إلى إعادة إحياء التصرفات والعادات الوثنية وإقامة مملكة الشيطان على الأرض”.
ومعظم أعضاء فرسان مالطة يتمتعون بالحصانة الدبلوماسية، مما يعطيهم مرونة واضحة لتنفيذ مآربهم. والعمود الفقري لهذا التنظيم ينتمي الى طبقة “النبلاء السود”، وهو ما يدعم روابط الفاتيكان بعلية القوم. وتأتي عائلة هابسبورج على رأس قائمة النبلاء إذ تمتد جذورها إلى آخر امبراطور روماني. ونصف تعداد تنظيم مالطة تقريبا ينتمي لأعرق عائلات أوروبا. وبذلك فهم يدعّمون الروابط بين الأرستقراطية السوداء والفاتيكان.
ونطالع في كتاب بيير كومبْتن، “الصليب المكسور”، كيف استطاع تنظيم “المستنيرون” اختراق الفاتيكان. فالعين التي ترى كل شيء داخل مثلث، هي رمز شيطاني يستخدمه المسؤولون الكاثوليك والجزويت بكثرة. إذ نراه في لافتة “مؤتمر فيلادلفيا للإفخارستيا” سنة 1976، وعلى أحد طوابع بريد الفاتيكان سنة 1978، وداخل العديد من الكنائس وعلى ظهر الدولار الأمريكي. ويحكي المؤلف كيف كانت تلك العين التي ترى كل شيء محفورة على الصليب الخاص بالبابا يوحنا الثالث والعشرين، وان مئات القساوسة والأساقفة والكرادلة أعضاء في منظمات سرية. وهو ما ينطبق أيضا على السكرتير الخاص للبابا، والمدير العام لراديو الفاتيكان، وأسقف فلورنسا وغيرهم، إضافة الى من هم أعضاء في مختلف محافل الماسونية. وقد كان أول سفير أمريكي في الفاتيكان، ويليام ولصن، عضوا في تنظيم فرسان مالطة. وتعيينه في هذا المنصب ملئ بالمخالفات إذ انه كعضو في تنظيم فرسان مالطة قد أقسم على ولائه للبابا، فكيف يمكنه أن يكون ممثلا أو وفيا لبلده لولايات المتحدة ؟
طبقة النبلاء السوداء
تنتمي هذه الطبقة إلى أعرق وأغنى عائلات أوروبا، منها عائلات تعود أصولها الى ملاك مدينتي جنوا وفينيسيا في إيطاليا في القرن الثاني عشر. ويطلق عليها عبارة “النبلاء السود” لأنهم يستخدمون وسائل مرفوضة ومحرمة كالنصب والشيطنة والسحر الأسود لكي يصلوا الى ومآربهم. ولم يتردد أفرادها في استبعاد من يعوق مخططاتهم سواء قديما أو حديثا. وقد ساهمت الحملة الصليبية الأولى في إرساء سلطتها فيما بين 1063ـ1123. والمجلس الأعلى لمدينة فينسيا لا يزال يعمل وفقا لنفس المبدأ الذي قام عليه سنة 1171. وتعتمد طبقة النبلاء السود على دخلها الناجم عن أكبر تجارتين مربحتين: السلاح والمخدرات! وعندما حاول الرئيس نيكسون التصدي لهذه التجارة اكتشف ان معهد “تافستوك” يقوم بحملة لزعزعته. وبالفعل، لم يتعرض رئيس جمهورية للإهانة بقدر ما تعرض نيكسون لفضيحة وترجيت، التي اعتمدت على جريدة واشنطن بوست ونيويورك تايمز..
وفي الثلاثينات من القرن العشرين قاموا بتجنيد الجنرال سمادلي باتلر ليكون مدخلا لهم في البيت الأبيض.
معهد البابا يوحنا بولس الثاني
لقد أقام الفاتيكان في مدينة نيوجرسي الأمريكية معهدا باسم البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، من أجل الصلاة والبحث عن السلام.. وكان مديرو هذا المعهد على التوالي هم: كورت فالدهايم، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، المتورط في جرائم النازي ؛ وسيروس فانس، وزير الخارجية أيام جيمي كارتر وعضو مركز العلاقات الخارجية (CFR) ؛ وكلير بوث لوس من فرسان مالطة ؛ وبيتر جريس، رئيس فرسان مالطة في الولايات المتحدة. وهذا المعهد جزء لا يتجزأ من الخطة الجديدة للسلام التي يقودها البابا من الفاتيكان والتي عليها توحيد العالم من خلال الأهداف الثلاثة التالية، بدأً بتوحيد الكنائس رغم خلافاتها العقائدية، والأهداف هي:
ا ـ تربية وإعداد الكاثوليك وابنائهم على تقبل النظام العالمي الجديد ؛
ب ـ أن يصبح هذا المقر المنظم الأعلى للسلام ومراقبة المشاكل التي يتعرض لها والبحث عن حلها ؛
ج ـ المعهد مسؤول عن البحث عن الحلول المناسبة للمشاكل التي يمكن ان تطرأ.
ولقد أقرت الدول الكبرى هذه الإجراءات وقامت فعلا بتحويل جزء من صلاحيتها للبابا. لكن قبل ذلك لا بد لهم من استكمال إقامة النظام العالمي الجديد. وهناك مؤشرات كثيرة تدل على أن هذا النظام قد بدأ فعلا يوم 19 يناير 1989. فقراءة الفقرة التالية تكشف الكثير: “لقد أكد الفاتيكان عدة مرات أن البابا مدافع متحمس لنزع السلاح، وأنه يؤيد محو سيادة الدول، ويرى أن حقوق الملكية العقارية ليست حقوقا شرعية، وأنه هو وحده الذي يحق له تحديد ما هو صالح للإنسانية أم لا”..
ولو تأملنا ما دار في العقود القريبة الماضية وما يدور حاليا، لأدركنا يقينا:
أننا في زمن تغوص فيه أسلحة صامتة من أجل حروب خرساء..
فما من أحد يعترض، وكأن الأمر لا يعنيه : على الرغم من أنه قد تم تغيير وتبديل أحداث التاريخ المعاش، الثابتة ؛ وتغيير العقائد المسيحية، ويكفي تأمل تبرئة اليهود من دم المسيح وغيره من العقائد لتوحيد الكنائس ؛ ويتم فرض “الديمقراطية” على العالم بكل ما يواكبها من اختراق ودمار لبنيات المجتمع، خاصة في العالم الإسلامي والعربي ؛ وتم غرس فكرة : ان السعادة تكمن في النقود والمجد والسلطة والجنس بكل انفلاتاته والاستهلاك ببذخ وبلا وعى..
إذ يبدو أنه كلما كانت رؤوس الناس فارغة سيكون ما تنتجه فارغ أيضا.. وهو المطلوب بالنسبة لهؤلاء القادة من النبلاء السود. وهو ما نلاحظه في الأوضاع الحالية على مستوى شعوب العالم، مع تفاوت دخولها، إذ باتت تسير وكأنها مسلوبة الإرادة في مواجهة عدو مخفي تحت أقنعة براقة مبهمة.
والسؤال الذي ينبثق من كل هذا العبث، والذي يجب ان يتم طرحه وتأمله ملياً، ولو من باب الأمن العام: كيف نسمح بإقامة سفارة رسمية لمثل هذا التنظيم، الثابت فعلا تورطه في نشاطات أخري ؟ كيف نسمح لتنظيم اسمه الكامل: “التنظيم السيادي العسكري لمالطة”، الذي لا يمتلك أرضا وإنما يحق له عمل أي شيء في الدولة بما فيها المجال العسكري؟.
زينب عبد العزيز
5 أبريل 2017