في 31 مارس تمرّ ذكرى اغتيال شيخنا غلام عبدلي رحمه الله ، ففي مساء مثل ذلك اليوم من عام 1995 اختُطف الشيخ من بيته ليعثر المارّة على جثته في غابة مجاورة بعد خمسة أيام و وُوري التراب يوم 6 أفريل ، وقد خطبتُ الجمعة في مسجده وهو مسجّى فيه ثم أمّمت الناس في صلاة الجنازة ، وهكذا كان الفراق بيننا بعد أن لازمتُه 16 عاما حتى التصق اسمي باسمه ، فلا يّذكُرُ أحدُنا إلا ذُكر معه الآخر.
كان رحمه الله مكتبة متنقلة ، أكبّ على طلب العلم الشرعي منذ صغره وقد حباه الله بكفاءة عالية على التعلم والاستيعاب والفهم وأمدّه بذهنية علمية عالية ، وقد بهرني منذ أن تعرفت عليه بلسانه المبين ، فقد كان يعلك العربية علكا ويتكلم لغة الدمقس المفتّل بدون أدنى تكلف.
كان من أعلام الصحوة الاسلامية المباركة في الشرق الجزائري ، عاش ومات وهو شديد التمسك بالوسطية والاعتدال ، كثير التبرّم من التشدّد الديني لا يطيقه أبدا ، لذلك مال إلى أعلام الحركة الاسلامية الأمّ وأدبياتها ، نهل من كتب الغزالي والقرضاوي ودرّسها وربّى تلامذته على معاني الاخلاص والأخلاق الكريمة ، وكانت أولويته الأولى تزويدهم بالعلم الحقيقي النافع في شتى المجالات ، وقد كان ينشد التعمق المعرفي والعقلية العلمية وينبذ السطحية والتعجّل.
أشهد أنه – حسب علمي – أول من عرّف الناس بكتب ابن تيمية وابن القيم في هذه الربوع ، درسها دراسة وافية وتجنّب ما اعترى إنتاج الإمامين الجليلين من تشدّد حنبلي في تلك المسائل المعروفة كالصفات والاستغاثة ، وقد كان شغوفا بالفقه المقارن وكان اعتماده فيه بالدرجة الأولى على ثلاثة كتب هي : المحلى لابن حزم و المغني لابن قدامة وفقه السنة للسيد سابق ، وكانت له قدم راسخة في علم المصطلح ، وقد تدارسنا بعمق ” قواعد التحديث ” للشيخ جمال الدين القاسمي بالإضافة إلى كتب الأقدمين كالعراقي والسيوطي وابن القيم ، كما كان شغوفا منذ صغره بالتربية الروحية والزهديات وكتب التصوف السني وبقي ينهل إلى آخر حياته من : الرسالة القشيرية وإحياء علوم الدين ومدارج السالكين وحلية الأولياء.
أما الميدان الذي فتح الله عليه فيه بجلاء فهو التفسير ، اعتمد أساسا على : المنار لرشيد رضا والظلال لسيد قطب ومجالس التذكير لابن باديس ، ثم استقل بالنظر العميق في القرآن الكريم وعكف خاصة على القصص فكتب ودرّس وجاء ببدائع ولطائف فيما يمكن تسميته التفسير التحليلي للقرآن ، كنا نأمل أن يؤلف وينشر لكن حدث له ما حدث لأهل المغرب العربي من قديم وهم عدم التأليف ، فما إن مات حتى ضاعت الصحائف التي دبّجها يراعُه والأشرطة السمعية التي سجلها خاصة في السيرة النبوية.
كان رحمه الله – مع تضلعه في العلوم الشرعية والعربية – رجلا متفتحا ذوّاقا لكل شيء رفيع ، صاحب حسّ مرهف ، هيّنا ليّنا متواضعا ، سهل العشرة ، متواريا عن الأضواء ، تعلمنا منه المعارف الدينية والأخلاق الكريمة ، كان له دور فاعل في ترشيد الصحوة المباركة وبثّ الاعتدال إلى درجة أنه عندما عصفت الفتنة العمياء بالبلد في مطلع التسعينيات لم يجنح أي من أتباعه إلى الخيار المسلح أبدا رغم قسوة الظرف ، بل راح هو ضحية تلك الفتنة وهو طاهر اليد واللسان ، قتلته مواقفه المبدئية التي كان يصدع بها على المنبر.
تغمد الله شيخنا غلام برحمته الواسعة وثبتنا على نهج العلم الصحيح وطريق الاعتدال.
عبد العزيز كحيل
2 أفريل 2017