تركيا التي اجتهد الغرب الرأسمالي الليبرالي طويلا لرسم صورتها المستقبلية ،التي لا يمكن أن تكون وفق ما تواعدوا عليه ، سوى تابعا للغرب وخادما لمشاريعه ، وصمام أمن لما يمكن أن يأتيه من جهة الشرق ، المسألة كانت في بعدها الاستراتيجي لا يضاهيها في أهميتها أي مشروع آخر ، لذلك وضع الأوربيون ملف انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي داخل قاعة الانتظار ، حتى يتأكدوا كفاية من تحول تركيا على جميع المستويات إلى كيان اجتماعي وثقافي يرضي جشاعة أقطاب اللائكية الذين فشلوا فشلا فاضحا في مسخ الإنسان داخل فرنسا خصوصا وأوربا عموما، وداخل مجتمعات لم تتحرر بعد من أوحال القابلية للاستعمار ، فلا الأوربيون ، ولا حتى العرب ، لم يستوعبوا ما حدث فعلا داخل المجتمع التركي ، جميعهم تساءلوا عن مشروع أتاتورك وسلطة المؤسسة العسكرية وعلاقتها بمنظومة حلف الناتو ، بميزان العقل ، وفي حدود ما هو من الإمكان ضمن العمل الاستخباراتي ، ما حدث فعلا ، لم يكن متوقعا من أبرز المراقبين والباحثين داخل أروقة مراكز البحث والدراسات داخل أوربا وأمريكا ، وحتى بالنسبة للمراقب الإسرائيلي عن كثب . التحول السريع على مستوى المجتمع التركي ، على غير ما كان متوقعا من قبل الغرب والدول العربية على حد سواء ، وخصوصا بعد فشل العملية الانقلابية صيف 2016 ، لم يعد مستساغا ولا مقبولا ، وكأن تركيا لا تنتمي إلى كوكبنا الأرضي ، أكاد أجزم أن التكهن ، إذا جاز القول ، أو توقع ما سيحدث مستقبلا بخصوص التحولات المرتقبة ، هو صعب المنال لأن كل الحسابات على مستوى المختبرات لم تعد كافية لمقاربة مثل هذه التحولات ، إننا اليوم من منظور إعلامي ، أو بحثي أكاديمي ، أو تجسسي استخباراتي ، لم نتوقع ما يحدث من يوم لآخر ، كما نسجل عجزا كبيرا في قراءة وتتبع مسار السياسة التركية على مختلف الأصعدة ، والمؤكد أن ما يشغل الإدارة الأمريكية اليوم في مقارباتها لملفات العالم ، هو علاقة الولايات المتحدة بتركيا ، كما أن الاهتزاز الذي تعيشه سياسة الكثير من دول الاتحاد الأوروبي من خلال مواقف بعيدة كل البعد عن مرجعيتها القانونية ومؤسساتها القضائية ، تدل على دهشة أوروبا وعدم قبولها بالتوجه التركي وبالسياسة التركية وبالتحول الاجتماعي الثقافي التركي ككل . تصوروا لو كانت تركيا تدين بالولاء للفاتيكان ، هل الذي حدث في ألمانيا وهولندا ، وربما في غيرها ، كان سيحدث فعلا ؟ أما إخواننا العرب فهم لا يعيرون للموضوع أهمية ، مع أن الذي يحدث يعنيهم من قريب ، الفرصة هي فرصة كل العرب ، وفرصة كل المسلمين ، إلا من أبى ، وأنتم تدركون حجم المصيبة ، الجميع غير معنيين بما يجري ، بل الجميع يجري في الاتجاه المعاكس لمسار المجهود التركي ، لذلك قلت فمن غير المتوقع مقاربة التحولات الحاصلة ، لا من قبل الغرب ولا من قبل التابعين له هنا وهناك . نحن اليوم على موعد ، فكأننا نعيش بدايات القرن العشرين ، لكن بمعطيات غير تلك المعطيات ، وفي ظروف غير تلك الظروف ، المسألة تتعلق بعلاقتنا، اليوم كما كان بالأمس ، علاقتنا بالتاريخ ،هل نحن قبل التاريخ ؟ ليس كذلك ، فإما أننا نسجل خروجنا من التاريخ مرة أخرى ، أو كمن يشهد فتضاف شهادتنا إلى شهادة من سبقنا إلى ذلك بأكثر من قرن ، ومن سبقهم إليها بأكثر من ذلك . وإما أن نسجل دخولنا إلى التاريخ ، ولا يكون ذلك إلا من خلال الانضمام إلى تركيا في مسارها الحاضر قلبا وقالبا ، فنشهد شهادة حاضر غير غائب ، واعلموا أننا أمام اختيارين ، إما خط الحرية والانعتاق الذي لم يتوقعه كبار قريش وسادتها ذات يوم ، حيث ضاقوا به وحاصروه وجمعوا له لوأده ، وإما خط الاستبداد الذي تولد يوم اصطف الناس وراء من اختار لنفسه خط الملك العضود ؟ إن حالتنا العربية والإسلامية اليوم بين : أقلية كأنها تتبع سرابا ، لأنها في أحسن الأحول تفتقر إلى وجهة نظر خاصة بها ، وفقط هي تنقل وجهة نظر من يغرق يوما بعد يوم في أتون تأليه العقل ، أو عبادة العقل . وأكثرية اختلفت في درجة امتثالها لصنم اسمه الاستبداد ، تبرر طاعتها وامتثالها بصور متعددة . وبين الفئتين فئة تصارع الأمواج من أجل بلوغ شط الأمان .إن التاريخ ليس مجرد عملية إحصائية وإعادة قراءة للخيبات والأمجاد ، إنه نداء من أعماق الروح ومن صميم طينة الإنسان يخاطب فيه ضميره ويستجدي فيه حضوره ووعيه في سكونه وفي حركته ، لعله يأخذ بالأسباب فيلبي نداء الالتحاق بسفينة النجاة . فكرة الأفرو آسيوية ليست من قبيل المستحيل ، كانت في حدود الإمكان، المشكلة كل المشكلة أن القوم اختاروا البقاء خارج التاريخ ، وهذا ما كان في حدود توقعات الأستاذ مالك ، كما أن المسار الاجتماعي والثقافي التركي على طريق النهضة هو في حدود الإمكان التاريخي الذي يراه كثير من العرب والمسلمين اليوم غير ممكن إطلاقا ، ويريدون تركيا رقما مضافا إلى الأرقام المهملة خارج التاريخ ، كمن لا يرى لنفسه وللآخرين معه سوى صورة طبق الأصل لصورته القبيحة بكل المعايير . شهدت الساحة العربية منذ أعوام مخاضا أطلقوا عليه ” الربيع العربي ” ، وهم اليوم في حيرة من أمرهم ، غير أن المؤكد بنسبة كبيرة ، هو أن عالمنا على موعد بشتاء يمكن أن يفاجئ كل المراقبين والمتتبعين ، أما أوربا تحديدا فهي على موعد مع محكمة التاريخ ، لأنها لم تحدد موقفها كفاية من علمانيتها ، خصوصا فيما تعلق بعالم القيم ، علمانيتها التي استبشر الأوربيون بها خيرا ، يوم تحرروا من أباطيل الكنيسة التي عجزت عن توحيد نصوصها المتضاربة والمتناقضة ، فاستسلم ( الغرب) الرأسمالي الليبرالي الرسمي للائكية تحالفت من جديد مع ما تبقى من العناد والمكر الكاثوليكي ، الذي أطل على العالم بخبر ( اليقين ) بعد قرون من الاعتقاد الفاسد ، مفاد ( الخبر اليقين ) : تبرئة اليهود من دم المسيح عليه السلام ، رافعين شعار محاربة الارهاب ، والارهاب بالنسبة إليهم هو مااتصل بالإسلام ، وطلبوا من الأزهر الشريف ، وتحديدا من القائمين على شؤونه اليوم ، طالبوهم بخطاب ديني تنويري يقفون من خلاله صفا واحدا مع الفاتيكان في مهامه التبشيرية الهادفة إلى التخلص من الارهاب ، زاعمين أن ذلك لا يتحقق إلا بتنصير العالم . الرئيس ترامب من أكبر السياسيين الممتثلين اليوم ، ماذا يريد بإجرائه الأخير ( منع رعايا ست دول ذات غالبية إسلامية ) من دخول تراب الولايات المتحدة الأمريكية ، هل يريد منهم تغيير دينهم ،والتحول إلى دينه ؟ وماذا عن الإجراءات التي قامت بها هولندا وألمانيا ، ما هو هدفها ؟ هل ما يقوم به الأتراك شأن سياسي أوروبي ، أليس المسألة تخص الشأن التركي الداخلي ، وتحديدا المواطن التركي ؟ الأيام والأشهر القادمة كفيلة بالكشف عن نياتهم الحقيقية ، التي لم تعد خافية على قادة تركيا . المشكلة ليست في مواقف ( الغرب الرأسمالي الليبرالي ) ، المشكلة كل المشكلة في تموقع كثير من الأنظمة العربية والإسلامية ، الشتاء يختلف بكل تأكيد عن الربيع ، والتاريخ ، أو ما هو من الإمكان التاريخي يمكن أن يطل علينا بفرص ، غير أن هذه الفرص لا تتكرر سريعا ، يمكن أن تغيب لقرون من الزمن . يمكننا أن نتساءل اليوم عن الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين الذي ملأ الدنيا كلاما لأيام وشهور وسنوات خلت ، أين هو اليوم مما يحدث؟ أهو من الأحياء أم من الأموات ، وأين يتموقع من مسألة التاريخ ؟ لا داعي للإستغراق أكثر في التفاصيل ، أما ونحن على عتبة القرن الواحد والعشرين ، وتحديدا بعد قرن على وعد بلفور ، ينبغي التفكر مليا في مسألة ” الظلم مؤذن بخراب العمران ” و ” الظلم ظلمات يوم القيامة ” . دمتم في رعاية الله والسلام عليكم ورحة الله.
بشير جاب الخير
12 مارس 2017