يؤسفني أن أقول هذا لأني كنت وما زلت وسأبقى بإذن الله ابن الحركة الاسلامية الواعية الهادئة المعتدلة ، لديّ مرجعية واحدة هي الاسلام : دين ودولة ، دنيا وآخرة ، شريعة وأخلاق ، مرجعية تملأ قلبي وتنير عقلي وتوجه سلوكي وإن تباعدتُ عن أي تنظيم منذ زمن طويل ، لذلك أشفق على هذه الحركة أو ما تبقى منها في بلادنا حين أراها انتقلت من حامل للواء مشروع تغييري إصلاحي جادّ إلى رقم باهت في منظومة السلطة ، تقول إنها تعارضها لكنها لا تخرج قليلا ولا كثيرا عن تفكير هذه السلطة وتخطيطها وسلوكها ، وأجزم ابتداء أن خلافي الأول مع الأحزاب الاسلامية يكمن في اصطفافي مع الشعب بينما تصطف هي مع نظام الحكم ، ولكل طرف حساباته وأعذاره.
كما أشير إلى ان كلامي عن سلبيات مسلك الاسلاميين لا يعني بحال تزكية لغيرهم ولا تلطفا بهم وأنا لا ألتفت إلى هؤلاء لأنه ميئوس منهم ابتداء فهم المشكلة ولا يمكن أن يكون جزءا من الحلّ مهما ادعوا الوطنية والديمقراطية أو تبجح بعضهم بالعلمانية ، فبلايا الجزائر من صنيعهم منذ الاستقلال.
لا ينقضي العجب من إسلاميين يكررون عند كل موعد انتخابي نفس الحجج ويمنّون الناخبين بأن ساعة الحسم قد دقت وما على هؤلاء إلا التصويت بكثافة ليبدأ عهد التغيير ، ويتحججون بأنهم يرشحون أشخاصا ذوي مستوى ودين وخلق ، وكأن مشكلتنا متعلقة بالأشخاص ، فماذا يفعل هؤلاء ” الطيبون ” مهما كان مستواهم العلمي ونزاهتهم بما أنهم سيصبحون عند الفوز مجرد قطع غيار في آلة محكمة هي منظومة الحكم le système ،هي التي تحدد القواعد وتسهر على تسيير شؤون الدولة والمجتمع وفق رؤيتها هي ، لا تسمح لأحد بتجاوز الخطوط الحمراء التي وضعتها مهما كان وزنه ومصداقيته وشعبيته ، نعم هي تقبل بوجود وجوه ” نزيهة ” تعطيها المصداقية التي تنقصها ، وتقبل بأن يخطب النواب ويبرزوا السلبيات كما تتغاضى عن الكتابات النارية والانتقادات اللاذعة بشرط ألا ينخرط ذلك في أي عملية تغييرية ، وهكذا يجد أصحابنا ” الطيبون ” أنفسهم يقترحون على الناخبين برامج سياسية بينما ينخرطون هم طوعا أو كرها في برنامج السلطة يزايد بعضهم عليها بدل الاشتغال بإيجاد البديل المنتظر ، وأنا أظن أن السبب يعود إلى حالة نفسية تسكن الاسلاميين هي حاجتهم إلى الأمن الذي يوفره الاقتراب من السلطة لأن الخيار الآخر هو التضييق بشتى ألوانه وصولا إلى الاستئصال الذي ما زال كثير من رموزه يمسك بمقاليد الأمور في المجال السياسي والإعلامي ، وهذا الاحتماء بالسلطة لتفادي العواقب الوخيمة قد يكون حجة مقبولة لكنه لا يبرّر ما يلجأ إليه الاسلاميون من وعود انتخابية وإشعار بإمكانية إحداث التغيير والقطيعة ، وأنا لا أدعو إلى الصدام مع الممسكين بأزمّة الحكم لكن لا أقيل بالانبطاح أمامهم باسم الحكمة ، ولا أستسيغ – خاصة – أن يسوّق الاسلاميون الأوهام لأتباعهم – لأن الشعب محصّن لا يصدق الوعود الانتخابية ولا ينقاد خلف الأوهام – عند كل موعد انتخابي ويستنفدوا قواهم في حملات فلكلورية وقد جربوا ألف مرة عدم جدوى ذلك ، وستمرّ الانتخابات وتبقى دار ابن لقمان على حالها ، هل يجهلون هذا ؟ ان كانوا لا يعرفون هذه الحقيقة فتلك مصيبة أو كانوا يعرفونها ويتمادون فالمصيبة أعظم.
أحباؤنا يركزون في الدعاية الانتخابية على مسألة يعدونها أساسية هي ترشيحهم لأشخاص قادرين على التسيير لتمتعهم بسن الشباب والكفاءة والأخلاق ، وأنا لا أنكر هذا بل أعترف به إلى حدّ بعيد ، لكن هل هذه حجة لهم ؟ إنهم يلقون بهم في أتون لا اعتبار فيه للشباب ولا للكفاءة ولا للأمانة أي سيلوّثونهم كما حدث أكثر من مرة ، وأحسنهم حالا سيبقى سلبيا منخرطا في برنامج السلطة يهدر طاقته فيما لا طائل تحته كالمعارك الكلامية والوعود التي لا يستطيع الوفاء بها والشكوى الدائمة من الادارة التي من المفروض أنه يشرّع لها يراقبها ، وقد حدث هذا في أكثر من عهدة وطنية ومحلية لكنهم يصرّون على انتهاج نفس الأسلوب من أجل …البقاء ، وأكرر أني كنت سأسكت وأحترم اختيارهم لو صارحوا بذلك لكن أثور على زعمهم المتكرر بأنهم سيغيرون … ما هذا الضحك على الرأي العام ؟ ألا يرون أنه قد ابتعد عنهم وصار يتهمهم في توجهاتهم وحتى نياتهم ؟ أليسوا غارقين في التلبس وتسويق الأوهام ؟
كتب لي أحدهم – وهذه حجتهم الأساسية – يقول : ” اذا توقف الإسلاميون عن مقارعة ومنافحة النظام وتعريته وكشف انحرافاته وأخطائه فهل يحدث شيء ؟ وهل يترك للإسلاميين المجال في خدمة المشروع الاسلامي التنموي الإصلاحي دون عنت ولا إكراه وتضييق ” ؟ ثم ختم بالحجة القاطعة ” هل نترك الساحة تخلو لهم ؟ ” … وهذا هو بالضبط الوهم الذي أتحدث عنه ، فأين خدمة المشروع الاسلامي منذ 1995 وقد شارك النواب الاسلاميون في البرلمان وكان عددهم في 1997 مائة وأحد عشر ( 111) وشاركوا في الحكومات المتعاقبة وكان عددهم في إحداها سبعة ؟ رأيناهم يصرحون عن بكرة أبيهم أنهم جادون في تنفيذ ما يسمونه ” برنامج السيد رئيس الجمهورية ” ، يريدون أن يصلحوا حالنا بمناسبة هذه الانتخابات ؟ لماذا لم يفعلوا ذلك إذًا طيلة هذه الفترة ؟ لا يريدون ترك الساحة للسلطة ؟ وهل ضايقوا السلطة في كثير أو قليل وهم بجوارها ( حتى لا أقول عند قدميها ) كلّ هذه المدة ؟ يريدون الوصول إلى البرلمان لتعرية السلطة وكشف انحرافاتها ؟ وهل الشعب في حاجة إلى تعرية وكشف وهو يصبح على الانحرافات ويمسي ؟ هو يريد من يوقف ذلك لا من يصفه أو يتباكى عليه !!
ونأتي إلى أهمّ شيء في الموضوع وهو البديل الذي يطالبونني به وكأني أدعو إلى السلبية والقعود والانعزال ، وأنا أبعد الناس عن هذه المواقف بل أنا أدعو إلى عدم إهدار الطاقات في مشاريع لا تصبّ إلا في صالح النظام وتحويلها إلى إعداد برنامج بديل مستقلّ تماما عن أجندة النظام وخارج تخطيطه ، ينبع من صميم الشعب لا من صالونات العاصمة ، تتولى النخب ذات الكفاءة إعداده وعرضه على المواطنين ، يبعث الأمل ولا يسوّق الوهم ، يؤدي في النهاية إلى انحياز أغلبية الشعب إليه فيفتح الطريق لبعث الجمهورية الثانية في شكل مشروع مجتمع ينبثق من ثوابت الأمة ويرتكز على الآليات الديمقراطية كما هي متبعة في الدول المتقدمة ، هذا التأسيس السياسي هو وحده الكفيل بإخراج البلاد مما هي فيه منذ الاستقلال وستستمر فيه ما دام هناك من يساير السلطة في نهجها.
فأنا إذًا أدعو إلى بديل واضح لكن أحباءنا يرفضون ما هو صعب وشاق وطويل المدى ويفضلون ما تتيحه السلطة ، وهي في الحقيقة لا تتيح لهم سوى تسويق الأوهام مع امتيازات توزّعها على من يلتزم الطاعة كما هو معروف.
بعد خمس سنوات من الآن سوف نستمع إلى هؤلاء الاسلاميين – ومعهم غيرهم – وهم ينتقدون السلطة ويدعوننا إلى التصويت المكثّف من أجل إحداث التغيير لأن البلد على حاله … أليس كذلك ؟ هذا ما أقوله ، أما كثير غيري فيتهمون اللاهثين وراء الانتخابات بأنهم يفعلون ذلك من أجل الامتيازات ، وما أكثرها لمن يسير في ركاب النظام.
عبد العزيز كحيل
28 فبراير 2017