هل لنا أن نستشرف المستقبل، ونحن نحاول أن نقرأ، ونناقش ما نقرأ، الأيام تزاحمنا، حتى أننا لم نعد نحتمل سماع غدوها ورواحها، فكأنها بحق أغراها الذي أغرانا، أو كأنها قلدت فينا سيرنا وممشانا، فلا الأيام، لم تعد أياما، ولا الإنسان، لم يعد إنسانا. فما الذي غاب عنا، أو غيبته فينا وعنا الأيام؟ أم أنها بريئة في حقنا، وبريء كذلك المكان. لذلك ولذلك قرأت في الزمان والمكان والإنسان، فما عدت أفهم في الجمع والطرح، ولا حتى في ضرب الأمثال. هل يمكن أن يتجدد فينا الأمل، ويقوم بيننا المثل، فنعطي للجزائر وتعطينا؟ أغترف من المنبع فأرى ابن باديس جالسا في محرابه متأملا وهو يقرأ أخبارنا ويتابع أدق تفاصيلها، والإبراهيمي يفتش في أوراقه، وكأن الشيخ يبحث عن موعد أو رسالة يريد متابعة قراءتها فينا. أما بن مهيدي فهو كمن جاء يبحث أو يتفقد ضالته عندنا. فماذا نقول لهم جميعا؟ إنني أشعر بنوع من الارتجاف، أو هو مزيج من الخوف والجلد، وقد أحسست بقدوم الأجل، أو هو الموعد الذي حفظناه جيلا بعد جيل رغم المحن، لقد استجمعت قواي والحمى تأخذني في كل أوصالي، من رأسي إلى قدمي، أبحث عن الرسالة، وإذا عليها كثير من الحبر، لم يفقد روحه بعد، فمسحت بقليله على ناحية قلبي حتى جلست مستويا، فأخذت الورقة وقد أعجبني تخطيطها، لم يكن هذا في منامي، بل في يقظتي، لست غاضبا ولا قلقا، بل في منتهى من يتماثل للشفاء. الورقة بيضاء، تحمل صورة رجل يجلس أمام الثلاثة الذين ذكرتهم من قبل، فكأنه يقرأ الرسالة التي تسلمها من أيديهم جميعا. الرجل على قدر كبير من التواضع، وكأن تواضعه هو تواضع الأرض فيستأذن منها حين يجلس وحين يقوم، فلا يرى لها بديلا. الرجل هو أحد أبناء الجزائر الحبيبة، التي بدأت الرسالة تخاطبه: أيها الابن البار مراد، خيرا نوصيك بالجزائر بوحدتها بشموخها، فأنتم من تملكون الأمل فملكوه لشعبكم، وأنتم من تحفظون العهد، فالعهد عهدكم جميعا، وأنتم للجزائر وهي لكم فلا تبخلوا عليها بصبركم. وإذا بالصورة هي صورة مراد دهينة، والرسالة هي كتاب يحمله الرجل فيأخذه وينصرف، فيغيب الرجل ومعه تغيب الصورة. لكنني بسرعة تمكنت من تمييز أبعاد الصورة، فإذا بي أقرأ أبعادها من جديد، فإذا هي صورة أحرار هذا الوطن الغالي غلاء الأرواح التي نملك، والراقي رقي شهداء نوفمبر، والمتسامح تسامح عظماء التاريخ، والشامخ شموخ ابن مهيدي الذي لم يطأطئ رأسه للمحتل، الأحرار يمدون أيديهم لمن لا هم له سوى هم الجزائر، تفكيره، كل تفكيره في أن تنعم الجزائر بالحرية والأمن والأمان، فتكون أحلى وأهنأ وأغنى وأبهى وأقوى بين كل الأوطان. الموعد موعد من لا ينامون إذا حرمت منه الأوطان، ولا يرضون بلقب تأباه الأوطان، خلقهم التأسي بمن كان خلقه القرآن. ليس هذا من باب التمثيل، أو التهويل، بل فقط من باب تذكير المحكومين قبل الحكام، وطننا في حاجة إلى مشروع بناء، لا نهدم إلا لنبني، فلا هدم إلا لضرورة البناء، مشروع وطننا لا تسعه أموالنا، يسعه صبرنا وتواضعنا وإيماننا، ما دمنا نوحد الله في ملكوته، يمكننا أن نتوحد حول مشروعنا، الذي لن يعجب من كان يحتل أرضنا وداس على كرامتنا بالأمس القريب. تذكروا من كان بيننا، كثير من الرجال والنساء، من الحكام والمحكومين، ما وزنهم بميزان الوطن وحريته ووحدته وشموخه؟ هل كانوا للوطن أم كانوا على حسابه؟ هل يمكننا أن نحل محلهم فنغنيهم عن السؤال والجواب؟ أبدا: كل نفس بما كسبت رهينة. لذلك ولذلك فقط، فلا بديل عن التواضع، ولا تواضع إن لم نتواضع في حضرة الله سبحانه وتعالى. والسلام عليكم ورحمة الله.
بشير جاب الخير
21 نوفمبر 2016