مَن يَود البحث عن نشأة المسيحية وكيفية انتشارها لن يجد أمامه سوي ما أرادت الكنيسة أن يعرفه الجميع. ورغمها، تناثرت شذرات الحقائق في نفس الوقت، عبر التاريخ، بحيث يمكن التوصل إلى حقيقة كونها، نشأتها وانتشارها، بفضل بعض الأمناء الذين هالهم جبروت متأصل، لا مثيل له في الحضرات. وبالتالي، لا يمكن تحديد أيها كانت أول كنيسة، فكل طائفة تزعم لنفسها أنها كانت الكنيسة الأولي الأصلية.. ومن المحال معرفة التسلسل التاريخي لأي طائفة أو أيّ منها هي الكنيسة الأم أو التي ينحدر تكوينها من أيام الرسل. فمن الثابت تاريخيا إن الانقسام والفرق المتناحرة، والمشاحنات المتواصلة بين الكنائس وتبادل الاتهامات هو السائد.
إذ نطالع في أعمال الرسل، في رسالة بولس الأولى إلى أهل غلاطية، وبولس من المفترض أنه عاصر السيد المسيح، نراه يقول: “إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، ليس هو آخر غير أنه يوجد قوم يزعجونكم ويريدون أن يحوّلوا إنجيل المسيح. ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما. كما سبقنا فقلنا أقول الآن أيضا إن كان أحد يبشركم بغير ما قبلتم فليكن أناثيما” (6 ـ 9). وكلمة “أناثيما” تعني “ملعون”، لكن كتبة الأناجيل كتبوها بالهجاء اليوناني حتى لا يرى الأتباع أن الكنيسة تسب وتلعن وتحْرِم.. بل والأدهى من ذلك، أن نرى حتى يسوع عليه السلام، انتقائي النزعة في هذه الأناجيل، فهو يتهم الرسل الذين جاءوا قبله ليثبت أنه الرسول الوحيد، أو ذلك ما أرادت الكنيسة له أن يقول: “فقال لهم يسوع أيضا الحق الحق أقول لكم إني أنا باب الخراف. جميع الذين أتوا قبلي هم سرّاق ولصوص” (يوحنا 10: 7 ـ 8)! أما في طبعة 1671 فلا توجد كلمة “قبلي”، أي ان الكنيسة تعمدت إثبات ان يسوع هو الوحيد الأوحد، فلا قبله ولا بعده!
ويقول ترتوليان، المؤرخ المسيحي الشهير: “أنه بفضل سبتيم سيفير (193 ـ 211)، عرفت المسيحية أول اعتراف رسمي، حتى وإن لم يكن هناك ما يدعو للفخر، فقد كانوا يمارسون المهن غير الشريفة كبيوت الدعارة، مقابل دفع مبلغ من المال للحاكم الإداري”.. ولعل ذلك كان من بين الأسباب التي دفعت الإمبراطور سبتيم سيفير سنة 202، أن يكون أول إمبراطور يصدر قرارا ضد المسيحيين وضم اليهود في نفس القرار، ومنع الأهالي من التحول إلى إحدى هاتين الديانتين. وهنا يقول لوسيان هيلفيه: “حتى وإن كان سبتيم سيفير قد حابا المسيحيين في البداية ليكسب المعركة ضد نيجير، فقد انقلب عليهم لأنهم لم يكفوا عن إثارة الاضطرابات ويسببون القلاقل بالنسبة للسلام الداخلي وأمن الإمبراطورية. كما كان المسيحيون يحرضون الناس على عدم قبول الخدمة العسكرية”. أي أنها لم تكن ديانة سلام ومحبة، كما يقولون، وأن كل ما كانوا يسعون إليه حقيقة هي السيطرة والتسلط. ولعل ذلك يرجع، في نظرهم، إلى ضرورة أخذ زمام الأمور بأيديهم لعدم اكتشاف ما يقومون به من تلاعب بالحقائق والنصوص..
كيفية نشأتها
من الواضح والثابت أنه منذ بدايات نشأتها، من صُلب اليهودية ومَن كانوا يبشرون بها، بدأت المسيحية ـ بأقوال يسوع وحوارييه ـ منقسمة إلى جماعات متناحرة تتبادل الاتهامات واللعنات.. ومن ناحية أخرى لا يوجد لها أي نص أصلي على الإطلاق قبل القرن الميلادي الرابع.
فقد كانت العبادات الوثنية لا تزال موجودة حتى عندما أباح قسطنطين ممارسة المسيحية سنة 313، مثلها مثل كل الوثنيات القائمة. بل كانت الوثنية قوية في بعض المناطق عندما قام تيودوز الأول بفرضها ديانة على كل الإمبراطورية سنة 380. ففي مصر ظلت بعض المعابد الفرعونية تعمل حتى القرن السادس. ويؤكد إيف موديران أنه: “في إفريقيا مثلا لا يوجد أي نص مسيحي قبل فترة قسطنطين”، أي حتى منتصف القرن الثالث. وهو ما يؤكده يوحنا الدمشقي في بحثه “نبع المعرفة” (الصادر سنة 743)، الذي تحدث فيه عن مائة وواحد هرطقة واجهت المسيحية في قرونها الأولى، والهرطقة الواحد بعد المائة يقصد بها الإسلام..
ولم يكن يوحنا الدمشقي هو أول من تحدث عن الهرطقات والفرق المتناحرة في المسيحية. إذ تقول كريستين ݒرييتو في بحثها عن “تطور المسيحية”: “أن القديس إيريني كتب سنة 185 بحثا “ضد الهرطقات” ؛ وكتب القديس هيبوليت سنة 230 يتحدث عن ثلاثة وثلاثون فرقة مسيحية مختلفة متناحرة ؛ وكتب القديس إبيفانوس في “بيناريون” عن ثمانين هرطقة ؛ وقد وصل عددها أيام القديس أغسطين في مطلع القرن الخامس إلى ثمانية وثمانين هرطقة”.. أما مجلس الكنائس العالمي حاليا فيضم 349 كنيسة مختلفة عقائديا، لا تزال متناحرة خاصة في قضية “تنصير العالم”، والمقصود بها تنصير المسلمين، بمعنى على هوى أيّ منها..
وهو ما يؤكد أن المسيحية بدأت مشتتة، ونشأت فرق متناحرة وعبادات متناقضة وقام الباباوات بتكوينها عبر المجامع والانقسامات على مر العصور. بل يكفي ان نطالع ما كتبه القديس جيروم (347 ـ 420)، حينما طلب منه البابا داماز، سنة 383، أن يقوم بمراجعة الترجمة اللاتينية للكتاب المقدس، بناء على النصوص اليونانية المتاحة، إذ لا يوجد أي نص أصلي قديم للمسيحية سوى باللغة اليونانية، التي لم يكن لا يسوع ولا أي شخص من الحواريين يعرف منها شيئا، لأن الكنيسة أبادت كل ما يكشف أصولها أو كيفية تكوينها وتكوين عقيدتها، ولم تترك سوى ما أرادت أن يعرفه الجميع..
وقد سبق أن تناولت اعترافات القديس جيروم في بحث تفصيلي يعترف فيه ذلك القديس رسميا، فالخطاب/ المقدمة للترجمة موجه للبابا داماز، فيقول له أن الأناجيل وترجماتها محرفة مليئة بالمتناقضات، وأنه قام هو بتعديلها وتبديل ما لم يقتنع هو به.. وترجمته هذه هي المعروفة باسم “الڤولجات” أي لعوام الشعب، وقد أوردْت النص اللاتيني لها وترجمته وصورته الفوتوغرافية، في ذلك المقال، لكي يفهم الحقيقة من يشاء.. ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تواصلت المراجعات والتغييرات والتبديلات وفقا للمستجدات العقائدية. ثم تأتي مراجعة البابا كليمنت الثامن، الذي أقر النص النهائي للكتاب المقدس سنة 1592. ورغمها، لم تتوقف طاحونة التعديلات في نص زعموا أنه منزّل من عند الله، وفرضوه بيد من حديد، حتى مجمع الفاتيكان الثاني (1965) الذي اعترف بأن “من كتب الأناجيل أناس آخرون غير التي هي معروفة بأسمائها، لكنهم كتبوها تحت إرشاد من الروح القدس”!! بل لقد وعد البابا يوحنا بولس الثاني (1920ـ2005) بتعديل سبعين آية لتتمشى النصوص مع التعديلات التي أجراها مجمع الفاتيكان الثاني (1965) بعد تبرئة اليهود من دم المسيح، وغيرها كثير..
تكوين الأناجيل
في حوالي القرن الثاني بدأت فكرة جمع النصوص المكونة للكتاب المقدس، ولم يبدأ الاهتمام بتحديد اكتمالها إلا في أواخر القرن الرابع. ونظرا لكم النصوص وتنوعها قام الأسقف أطنازيوس في الإسكندرية، سنة 367، بعمل قائمة بالعناوين التي اختارها لتكوين العهد الجديد. وتم الاختيار من بين حوالي سبعين نصا، وقام مجمع هيبونا سنة 393 بإقرار القائمة، ثم أعاد مجمع قرطاج سنة 397 إقرار تكوينها، وتم استبعاد ما تم استبعاده والاحتفاظ بأربعة أناجيل هي: متّى ومرقص ولوقا ويوحنا، إضافة إلى أعمال الرسل وبعض الرسائل، انتهاء برؤيا يوحنا، وجميعها سبعة وعشرون سفرا.
وتختلف تواريخ صياغتها مثلما تختلف كل خطوات المسيحية. إذ يقول الجانب الكنسي أن إنجيل متّى كتب فيما بين سنة 70 و80، بينما يقول المؤرخون الحاليون أنه صيغ سنة 165 للنص الابتدائي؛ ومرقص، يقول الجانب الكنسي أنه كتب حوالي سنة 70، لكن مرقص يتحدث عن هزيمة بار كوخبا التي وقعت سنة 135 لذلك يضعه المؤرخون في سنة 170؛ ولوقا، تقول الكنيسة أنه صيغ في حوالي سنة 80 ـ 90، بينما يقول المؤرخون سنة 180، وأنه مليء بالأخطاء التاريخية أكثر من غيره؛ ويوحنا، تقول الكنيسة حوالي سنة 90، بينما يقول المؤرخون بدأت صياغته سنة 180 وانتهت في القرن الرابع.. وكل أصول العهد الجديد الموجودة مكتوبة باليونانية، أي أنها ترجمات متراكمة من النص الأرامي الأصلي، لغة يسوع وحوارييه السائدة في المنطقة آنذاك.. لذلك تراكمت الأخطاء والتغيرات والإضافات، وتواصلت إجمالا حتى اختراع المطبعة في منتصف القرن الخامس عشر. أما عن الأناجيل المحجبة، لأنها تخالف القصة التي نسجتها الكنيسة، فنصوصها صيغت من القرن الثاني إلى السابع، وهو ما ينزع عنها، هي أيضا، أية مصداقية تنزيل إلهي.
انتشار المسيحية في مصر
يمكن القول اختصارا أن مصر دخلت تحت الحكم الروماني سنة 30 ق م، على أنها واحدة من أهم موارد القمح بالنسبة لروما، وكانت الديانة المصرية القديمة تشع في كل حوض البحر الأبيض المتوسط، وكان يوجد معبدا للإلهة إيزيس في منتصف باريس بفرنسا. ولأهمية مصر كدولة، كان الإمبراطور شخصيا هو الذي يختار الحاكم بنفسه وليس مجلس الشيوخ. وقد اهتم الرومان بجميع الآلهة المصرية القديمة والعبادات المصرية واستحوذوا على كثير من مفرداتها وأدخلوها عقائدهم وفلسفتهم. وتكفي الإشارة إلى الاله تحوت الذي حوله اليونان إلى “هرمس ـ تحوت ـ تريمچيست”، وبعد فترة أسقطوا “تحوت”، ليبدو إلههم من اختراع حضارتهم! وما أكثر ما اُخذ عن المصري القديم في المسيحية لتسهيل قبولها من بعض المصريين.
واندلعت عدة ثورات شعبية فيما بين 169 و172 بسبب “طاعون أنطونين” وغيره، وقام الرومان بقمعها. وفي سنة 175 قام القائد آفيديوس كاسيوس، الذي قاد القوات الرومانية لقمع الثورة الشعبية بتعيين نفسه إمبراطورا، واعترفت به مصر وسوريا. لكن روما انقلبت عليه بعد زيارة خاطفة للإمبراطور مارك أوريليوس للإسكندرية.
وواصل الرومان بناء المعابد التي كان قد بدأها البطالمة، ومنها مدينة أنتينوبوليس، وكشك تراچان في جزيرة فيلة، ومعبد دندرة الذي أضاف إليه أغسطس عدة أجزاء تسمى “مميزي”. وفي سنة 381، السنة التي أصدر فيها تيودوز الأول قرار فرض المسيحية ديانة وحيدة لكافة أنحاء الإمبراطورية، بدأت تغيرات الملامح الدينية بالتدريج، بينما انطلق المسيحيون في هدم ما لم يُهدم من المعابد وطمس معالم ما لم يستطيعوا هدمه وتغطيته برسومات مسيحية، مثلما حدث في معبد أبو عودة والأقصر وغيرها.
أما عن اضطهاد المسيحيين، فلا أشير على سبيل المثال إلا إلى أشهر ثلاثة حملات لعنف بطشها: حملة ديسيوس فيما بين 249 ـ 251؛ وحملة فالريان سنة 257 الذي أمر بمنع تقديم الأضاحي وعدم التجمع في دهاليز المقابر وسراديبها؛ وحملة ديوكليسيان أواخر 302 أوائل 303، وتعد من أعنف الحملات. لذلك يقول برنارد لوجان أنه منذ اضطهاد ديوكليسيان سنة 303، يضع المسيحيون الشرقيون بداية الكنيسة القبطية سنة 284 “، (“تاريخ إفريقيا من الصول حتى يومنا هذا” 2009). أي أن المسيحية لم تبدأ بشائر استتباب أمرها إلا في أواخر القرن الرابع..
وحينما نطالع في “الموسوعة القبطية” الصادرة بالفرنسية بحثا بعنوان “الأقباط أيام الإمبراطورية الرومانية” بقلم صموئيل ماتياس، والعنوان الفرعي له: “انتشار المسيحية في مصر”، ويبدأ المقال بجملة تقول:
“ابتداء من أنانيوس، أول خليفة للقديس مرقس وحتى ديمتريوس، البطريرك الثاني عشر للإسكندرية، ظلت المسيحية تنتشر لمدة قرنين، لتنتهي إلى تنصير الدولة”.. وتوقفت عن القراءة!
هكذا، بكل بساطة، تم تنصير الدولة كلها، التي هي مصر، منذ القرن الثاني! ويا لها من فرية، إذ حتى القرن الرابع كانت المسيحية تحارب رسميا من الإمبراطور الروماني فكيف لها في زمن ذلك الاحتلال الذي يحاربها، أن يقوم المسيحيون بتنصير الدولة التي يعتمد عليها الرومان في خبزهم؟ بل ظل الحاكم الروماني المحلي يحارب المسيحيين في مصر، لما كانوا يسببونه من قلاقل حتى مطلع القرن السابع ومجيء الفتح الإسلامي. لذلك استقبلوا المسلمين على أنهم مخلصيهم من أهوال الحاكم.. وحين تبينوا كيف أن المسلمين يعبدون الله ولا يشركون به أحدا دخل المسيحيون الرافضون لتأليه المسيح، التابعين لأريوس وغيره من رافضي الشرك بالله، دخلوا الإسلام طواعية واقتناعا. لكن يبدو، على مر الزمن، إن سمة اختلاق القلاقل وحب التسلط لم يخبو.. لذلك قال عنهم الشاعر اليوناني بللاداس ساخرا من “أولئك المقملين المقززين الذين انقضوا على كل ما يرمز إلى حضارة الفكر والعلوم ليدمروه”:
“لقد ملّت الآلهة منّا، نحن اليونان، وكل شيء يغوص أكثر يوما بعد يوم (…)
“حقا، تَوقع العواقب الضارية، فالأسوأ، القادم، سيأتي دون أن يتم الإعلان عنه”..
زينب عبد العزيز
31 يوليو 2016
رابط موقع الموسوعة القبطية الفرنسية:
http://www.coptipedia.com/index.php/livre-3-l-histoire-de-l-eglise-copte/les-coptes-sous-l-empire-romain/502-les-coptes-histoire-et-religion-le-didascalee.html