بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله، ومن نهج نهجه إلى يوم الدين
” الإسلاميون “، هذه الكلمة، لم تلد هكذا من فراغ، فلا يمكن بأي حال من الأحوال أن نتناولها بمعزل عن الإنسان الذي استخدمها، وإذن فهي ككل الكلمات التي تم توظيفها في حياة الأمم والمجتمعات، وجدت لها مكانا في عالم الأفكار، لا تخرج عن حدود المقابلة بين الحق والضلال، إننا لا نتوقف عند هذه الكلمة فقط، بل هناك كلمات مفتاحية في نطاق هذه المقابلة، مثل كلمة: رب، إله فلسفة، علم، حاكمية، دين، خلق، جنة، نار، ثواب، عقاب، حق، ظلم، عدل، حرية، استبداد قانون، إخاء، مساواة، خلافة،، دولة، مدنية، مواطنة، ثقافة، تاريخ، حضارة، سياسة، علمانية، الحاد، اشتراكية، قومية، وطنية، عنف، تطرف، إلى غير ذلك من المسارات والمآلات في حياة البشرية. وعلى هذا الأساس ووفق هذا المنظور يمكن القول أن الكلمة الأصيلة هي الإسلام والأصل هو القرآن الكريم:
” إن الدين عند الله الإسلام ” الآية 19 من سورة آل عمران.
” ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ” الآية 85 من سورة آل عمران.
” وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ” الآية 3 من سورة المائدة.
” ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام ” الآية 7 من سورة الصف.
” ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ” الآية 128 من سورة البقرة.
” إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ” الآية 131 من سورة البقرة.
” إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون ” 132 من سورة البقرة.
” قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون ” الآية 133 من سورة البقرة.
” لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون ” الآية 136 من سورة البقرة.
” وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم ” الآية 20 من سورة آل عمران.
” فإن أسلموا فقد اهتدوا، وإن تولوا فإنما عليك البلاغ ” الآية 20 من سورة آل عمران.
” فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعني ” الآية 20 من سورة آل عمران.
” آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون ” الآية 52 من سورة آل عمران.
” فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون ” الآية 64 من سورة آل عمران.
” ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما ” الآية 67 من سورة آل عمران.
” أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون ” الآية 80 من سورة آل عمران.
” أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض ” الآية 83 من سورة آل عمران.
” اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ” الآية 102 من سورة آل عمران.
هذا بالنسبة لكلمة ” الإسلام “، وتجد الكلمة مكانها ومدلولها وانعكاسها عبر الزمن في حياة الإنسان الذي وعاها وأدرك مداها واستجاب لمقتضياتها، فما كان منه إلا أن أسلم، أي رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبسيدنا محمد نبيا ورسولا، وأن سيدنا إبراهيم كان كذلك مسلما حنيفا، بمعنى، وحد الله ولم يشرك به شيئا، وشهد بذلك بين الناس، وأن الناس ليسوا على قلب رجل واحد، فمنهم من أسلم ومنهم من أشرك أو كفر، منهم من آمن ومنهم من طغى واستكبر. وبذلك قامت العلاقة بين الإنسان والكلمة المفتاحية ” الإسلام”، ويمكنكم أيضا تتبع السياق القرآني كيف هو ذلك التناغم في التعبير عن المنحى البياني الذي نجده في حالة دوران تام، لا غموض ولا لبس فيه ولا إبهام، بل هو تسبيح بوحدانية الله، في فلك متميز، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، من الوهلة التي يسلم فيها الإنسان، بحثا عن أسباب التقوى ومقتضياتها، إلى أن يلقى الإنسان ربه وهو مسلم، أما الإيمان فهو تلك الصور الراقية في عالم الجمال، والمراتب العليا التي تحضر ملامحها ومثلها في حياة الإنسانية الدالة على رضوان الله، مثلما دلنا عليها القرآن في حياة الأنبياء والرسل، والصالحين الذين شملتهم العناية الإلهية على مر العصور، من خلال استجابة الرحمان الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصور الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذل السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العلي الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القوي المتين الولي الحميد المحصي المبدئ المعيد المحيي المميت الحي القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الصمد القادر المقتدر المقدم المؤخر الأول الآخر الظاهر الباطن الوالي المتعالي البر التواب المنتقم العفو الرءوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغني المغني المانع الضار النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ” أخرجه البخاري ومسلم في الصحيح.
لا يذهبن بك قصور الفهم إلى أن من أحصاها، هو من عدها، إذا كنت كذلك فبسبب خلل في علاقتك بعالم ” اقرأ ” وإن كنت لا تقرأ فتلك مصيبة، لأن الذي رفع الشعوب والأمم عن مستنقع الجهل هو القراءة، والذي خفف من مصيبتهم في دنيا الناس هي القراءة، والذي جعلنا في متناول أدوات الجهل هو عدم القراءة. سبحان الله، كيف هي عظمة القراءة التي أوصانا بها الله، وكيف هي أعظم حينما ترتبط باسمه سبحانه وبذكره جل جلاله، تحرسنا من الزلل، وتقينا شر الفتن، وتزرع فينا بذور الأمل، يقول الله سبحانه في سورة الكهف: ” قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ سبيله في البحر عجبا، قال ذلك ما كنا نبغي فارتدا على آثارهما قصصا، فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما، قال له موسى هل اتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا، قال إنك لن تستطيع معي صبرا، وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا، قال فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا.” من الآية 63 إلى الآية 70 من سورة الكهف. عند هذا الحد أقول: إننا في حاجة إلى تفسير سنني للقرآن الكريم، يقربنا من منابع الذكر الصافية المشمولة برحمة الله وحفظه، كتلك التي كان ينبع منها العبد الصالح الذي آتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما، كيف اقترب منه سيدنا موسى وتعلم منه حين أخبره بما لم يكن يعلم، وأوصاه بكثير من الصبر على الذكر، لأن الإنسان، مهما كانت درجته وقيمته وقواه العقلية والبدنية، فإنه لا محالة مستهدف بالغفلة والنسيان والغرور والاغترار، وهو ما أراد العبد الصالح أن يفقهه سيدنا موسى، من أسباب النصر وأسلحته الروحية، قبل الكونية، وحاجة الإنسان إلى قوة الروح ومتانة الأخلاق واستكمال الفضائل، وأن الهدم أو القتل أو القصاص، ليس غاية في حد ذاته، وأن الهدم ليس مقصودا إلا للبناء، وأن البناء لا يتم إلا بوسائله الصحيحة وأدواته.
إن مسألة الأسماء الحسنى في ارتباطاتها بحياة الإنسان، ليست في كونها أرقاما أو حروفا، أو جملا مهملة، نعدها، أو نردد موسيقاها، أو ننشدها من حين لآخر. إن أسماء الله في دنيا الناس هي الأبواب التسعة والتسعون المطلوب البحث عن مفاتيحها داخل عقولنا وقلوبنا وحركتنا وسكوننا وبيوتنا وأريافنا ومدننا وقرانا، ومدارسنا ومساجدنا ومزارعنا ومعاملنا، وكل فضاء من فضاءات محيطنا الحيوي. ولذلك لا تستغرب عجزنا في تناول اسم واحد من هذه الأسماء، ثم لا تستغرب كيف هي صورتنا ونحن نتنافس الدنيا والأسماء قائمة شاهدة علينا، فبدل أن نتسلح بقوتها ونسمع بسمعها ونبصر بنورها فيحسن إسلامنا ونرتقي مراتب في عالم التقوى مسبحين وشاهدين، لا مبدلين ولا مغيرين، رحنا نعدها أرقاما ونحصيها حروفا وأشكالا، فخرجنا بسرعة عن المسار، وقد سبقنا إلى ذلك أقوام، لم يشفع لها نسبها، ولم تشفع لها عروشها التي بنتها، ولا الأموال الطائلة التي جمعتها ولا القصور الرائعة التي شيدتها، ولا الجيوش الساحقة التي بنتها، كلمة واحدة أفسدتها، فأخذت من الحياة جمالها وبهاءها وعذوبتها وسلاستها ولطفها وحنانها ورشاقتها وكل ما فيها جميل.
تلك الكلمة التي قالها إبليس، رغم أنه لم يشرك بالله، وبعدها، قالها الإنسان وأشرك، قالها الإنسان وكفر، قالها الإنسان وطغى وتجبر، كانت البداية مع بني إسرائيل الذين لم يقنعوا بنصيبهم، فراحوا يبحثون لهم عن نصيب وملك في غير رضاء الله، ثم جاء خاتم الأنبياء والرسل فبلغ عن ربه الرسالة بعد أن أسلم، ثم جاء من بعده أناس غيروا وبدلوا، فلم يشفع لهم انتسابهم لأمة محمد، لأنهم لم يسلموا حقا ولم يحصوا أسماء الله حقا، فاختاروا سبيل بني إسرائيل من جديد، وتمثلوا صورتهم وموقفهم الجاحد من نبي الله يعقوب والابن يوسف النبي عليهما سلام الله، الصورة نفسها رغم ما فصلها من مسافات، تجددت، من قبل ومن بعد نزعة الاستعلاء، تمثلها النصارى الذين جعلوا لله ابنا سبحان الله عما يشركون، راحوا في نفس طريق بني إسرائيل تقريبا، الذين قالوا ذات مرة عزير ابن الله، وراحوا يبحثون في غير مبحث، ويسعون في غير مسعى، والأسف كل الأسف، أن أناسا أظهروا إسلامهم في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم لم يتمثلوا الصورة السليمة التي تمثلها المؤمنون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسبب ذلك هو تنافس الدنيا الذي حذر منه رسول الله وكان يخشاه على أمته، بدأ ذلك في موقعة صفين، على وجه الخصوص، التي قرأناها من خلال نظرتنا التي حاولت عبثا تصويرها وتحويرها للناس وكأنها صف واحد، والشاهد هو أننا، حتى في أيام الناس هذه، يلتبس علينا السؤال، ويلتبس معه الموقف ونعود إلى بداية البدايات رفقة الكلمة التي سكنت كياناتنا وطبعت حركتنا وحطمت قوتنا، كثيرا نرددها بأفعالنا ونشهد عليها بأفواهنا، ألا وهي الكلمة التي نطق بها إبليس، إنها الكلمة الخالدة: ” أنا خير منه ” اعترف بأنه من خلق الله، ولكنه لم يرض بنصيبه وبقسمته التي قسمها له الله حيث قال:( خلقتني من نار وخلقته من طين )، قال الله سبحانه: ” قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك، قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، قال فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها فاخرج إنك من الصاغرين ” الآية 12 ـ 13 من سورة الأعراف. أما الإنسان فقالها في دنيا الناس ومع الناس، أي قالها لمن هم من طينته وتلك هي المصيبة، لقد نظر في طينته وكأنه يريد غير ذلك، مع أنه لو لم تكن الطين ما كانت النار أصلا، فلا معنى للحياة بغير طين، ولذلك فالمشكلة في أصلها نابعة من دائرة الطين، أي في نظرة الإنسان إلى طينته، نظر ولم يشكر، أي لم يرض بقسمته، قال الله تعالى: ” ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، ولا تجد أكثرهم شاكرين ” الآية 17 من سورة الأعراف. إن الإنسان بهذه الطين التي صغرت في عين إبليس، ثم صغرت في عين الإنسان، فضله الله على سائر المخلوقات، وجعله فوق ذلك مختارا فهداه، ومن ثم فالناس صنفان، صنف من صنف الأنبياء والرسل وكل من سلك نهجهم إلى يوم الدين، في رضاهم بما قسم لهم الله، وصنف ثان من صنف بني إسرائيل الذين بغوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، والفساد هذا استمر مع هذا الصنف إلي يوم الناس هذا. ومن قبل، موقعة صفين لم تخرج عن هذا السؤال، فكانت واحدة من أكبر المحطات في دائرة الإيمان بالله ووحدانيته وأسمائه وصفاته، والرضاء بالقسمة والنصيب التي هي رأس مال الإنسان، وما ينبثق عن ذلك من سعادة أو شقاء، لقد نظر الإمام علي كرم الله وجهه في صورته فرآها في صورة رسول الله، وإلا فما معنى كرم الله وجهه، إن عليا لم يسجد في حياته لصنم، ولم يسجد سوى لله، وقد شملته الصلاة لما شملت رسول الله، فالإمام علي رضي الله عنه، رضي بنصيبه وبقسمته، والدليل حكمته وسياسته ومواقفه، ألم يكن راضيا بموقعه وبسيفه وشموخه وتواضعه وقبوله جنديا بين جند أبي بكر وعمر عليهم رضوان الله ؟ وقد كان بوسعه أن يخرج عنهم ولو لوحده فيعتزل الناس، أو ينادي بعيدا عنهم، أن أنا خليفة رسول الله، أنا أحق منهم بها وخير؟ لم يفعلها عليه سلام الله، لأنه كان يدرك معنى الكلمة ” الخالدة ” التي لم تحاب أحدا قالها في دنيا الناس، لقد تواضع لله قبل أن يتواضع للناس، وتقبله الله عنده قبل أن يقبله الناس. أما معاوية ابن أبي سفيان، فلم يقف نفس الموقف، فهو لم يرض بنصيبه وبقسمته في دائرة المجتمع الذي بناه رسول الله وأصحابه الذين صاروا أمة متميزة عن غيرها من الأمم من خلال رضاها بين يدي رسول الله وتوحيدها لله وشهادتها في دنيا عباد الله، وإذن، فأين موقف معاوية من ذلك الرضاء وذلك التوحيد وتلك الشهادة، وذلك الموقف الذي جعل الإمام علي، يجد مكانه دون عناء جنديا في صفوف جنود أبي بكر ثم عمر رضي الله عنهما، ولم يرض أن يكون سببا في تقسيم جسد الأمة الواحد الذي صار بنيانا مرصوصا ؟ عند هذا الحد أقول أننا اليوم نعاني أكثر من أي وقت مضى، عناء شديدا في اختيارنا، و في قراءتنا، وفي مواقفنا، إذ قليلا ما نقرأ وقليلا ما نعتبر، يقول الدكتور محمد بن المختار الشنقيطي: ” ومما يزيد في عسر المهمة، الخلط الضمني بين الوحي والتاريخ في المرجعية وهو أمر سائد في الفكر الإسلامي اليوم، جراء نقص في الوعي بالتاريخ، لا يميز بين صورته وعبرته، وتقصير في دراسة حياة السلف دراسة استقصائية تلم بكل جوانبها المضيئة والقاتمة، ولا تقف عند سرد المناقب فقط. ” (1 ). وقوله أيضا: ” لكن داء تجسيد المبادئ في الأشخاص ساد ـ بكل أسف ـ في قراءتنا لحياة السلف، حتى الذين هم غير راشدين منهم، فاستحال الدفاع عن الصحابة إلى دفاع عن الظلم السياسي، وتبرير للجبرية والخنوع.” (2). وقبل ذلك قال: ” لقد نشأ الفقه السياسي الإسلامي متكيفا مع واقع القهر والاستبداد الذي خلفته ّ حرب صفين ّ ولم يقتصر هذا التكيف على تفسير التاريخ السياسي الإسلامي، بل تجاوزها إلى النظرية السياسية الإسلامية ” (3). لقد شدني أيضا حضور الشيخ الفضيل الورثيلاني من خلال بعض توجيهاته إلى إخوانه وأبنائه في جمعية العلماء، وهو يقول: ” لقد قام الفوج الأول من رجالنا الذين شيدوا جمعية العلماء بهدم الضلال والباطل هدما شغلهم عن كل شيء، ولكنهم قاموا بذلك ومعهم زاد عظيم من الذخائر الخلقية الإسلامية، تعاون على تثبيتها فيهم: 1ـ الفطرة السليمة، 2 ـ والتلقين المحكم، ولو اعتمدوا على علمهم الغزير وبيانهم البليغ وحدهما لما نجحوا في هدم الضلال العريق والبدع المستحكمة، أما هذا الجيل الناشئ في معمعان الحركة، فقد فتح عينيه في غبار المعركة وشهد مراحل الانتصار، ولكنه لم يفقه أسباب النصر وأسلحته النفسية، فظن أن ذلك الهدم هو الغاية وأن معاوله هو العلم والبيان، فالتفت إليهما وسعى في تحصيلهما وغفل عن السلاح الحقيقي للهدم والبناء معا، وهو قوة الروح ومتانة الأخلاق واستكمال الفضائل، وان الهدم ليس مقصودا إلا للبناء، وأن البناء لا يتم إلا بوسائله الصحيحة وأدواته، وأن القدرة على الهدم ليست دليلا على القدرة على البناء، وأن أسلافنا ما أعلوا ذلك البناء الشامخ للإسلام إلا بعد أن بناهم الإسلام على فضائله، وطبعهم على أخلاقه وهيأهم للاستخلاف في الأرض، ولهذه الغفلة عن هذه المعاني قل نصيب هذا الجيل منها، وأخشى أن تؤدي الغفلة عنها إلى ضعف فيها، ويؤدي الضعف إلى تحلل وانهيار، ونكون قد هدمنا باطلا ولم نبن حقا، بل نكون قد هدمنا الباطل والحق معا، وهي أخسر الصفقات ” ( 4)
سبحان الله، فكأن الرجل يقول لنا، منبها ومحذرا: احذروا الدنيا أن تنافسوها، كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم، وهو في الوقت نفسه يحذرنا أشد من ذلك، أن بذور الكلمة التي نطق بها إبليس، ويا ليته لم ينطق، وقال مثلها ابن آدم، ويا ليته لم يقلها: ” أنا خير منه “.
سبحان الله ما أروع مثل هذه التوجيهات، إننا إذا وضعنا مؤلفاتنا وملتقياتنا ومؤتمراتنا في كفة، ووضعناها وحدها في كفة لرجحت، ومن ثم فالسؤال في حاضرنا وفي تراثنا القريب الذي هو ماثل في حاضرنا: ماذا هدمنا، وماذا بنينا؟ ما هي مشاريع الهدم ومشاريع البناء في سيرتنا، في مدارسنا ومساجدنا ومزارعنا ومعاملنا ومدننا وقرانا وأريافنا؟ كيف هيا شعاراتنا التي تمجد إلى حد بعيد طبيعة الكلمة الخالدة؟ كيف هي أحزابنا التي فرقتنا في مجتمعاتنا، وغشتنا في مشاريعنا، وكرست الرداءة في واقعنا؟ إن أستاذنا الورثيلاني يذكرنا بالفطرة السليمة والتلقين المحكم، فهل أدركنا أبعاد تلك التوجيهات؟ إن كل جملة وردت في هذه التوجيهات تحتاج إلى سؤال وإلى دراسة معمقة، وبحث دقيق، تتصدى له ملتقياتنا ومراكز الدراسات بكثير من الجدية والالتزام، ويحتاجها أبناءنا في مدارسهم ومعاهدهم المتخصصة. ويمكننا في هذا المقام بالذات أن نقارب جانبا من حياة مجتمعاتنا وشعوبنا بداية من النصف الأول من القرن العشرين، وإلى أيام الناس هذه، والأيام كما نعلم في هذا المضمار بالذات هي أيام حبلى، لا ندري بماذا ستطل به علينا؟ مقاربتنا تتناول في إشارات خاطفة موضوع: ” الإسلاميون “، وما تفرع عنه، مثل: الصحوة الإسلامية، والعمل الإسلامي والجماعات الإسلامية، والحركة الإسلامية، وقبل ذلك الفرق الإسلامية والمذاهب الإسلامية ولعل البعض يتساءل من حين لآخر، عن التجارب، والمكاسب والتحديات، والآفاق المستقبلية، حتى أنه يتبادر للأذهان أننا أمام مشروع اجتماعي ثقافي مؤسساتي قائم بذاته، ومتسائل آخر ينطلق من أن الحديث لا يعدو يكون مجرد تخيلات وتصورات أو شيئا مما يحلم به الإنسان في يقظته. في هذا الباب بالذات يمكننا مقاربة عدة صور بارزة في حياتنا، متصلة بتراثنا القريب و بحاضرنا الماثل ألا وهي: 1/ حركة الإخوان المسلمين، 2/ الحركة الوهابية، 3/ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، 4/ الثورة الإسلامية في إيران، 5/ تجربة تركيا الرائدة، 6/ تجربة ماليزيا، 7/ التجارب السياسية الإسلامية مع نهاية القرن العشرين، دون أن ننسى حركات المقاومة، مثل: حركة المقاومة الفلسطينية، وحزب الله اللبناني.
لعلكم تنتظرون مني عد محاسن ومساوئ هذه الكيانات، أبدا، ليس هذا من مهامي، ولا من متطلبات هذا الحديث، هذا شأن أبناء هذه الكيانات والمنتسبين، من باب أخذ العبرة، لا من باب استنساخ الصور ، لمن أراد أن يتوجه لنفسه بالسؤال، من أي صنف هو في دنيا الناس، وما علاقة ذلك بعمليات الهدم والبناء، أو عمليات الإصلاح المبنية على أساس قوله سبحانه: ” قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا، وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب ” الآية 88 من سورة هود.
وإذن فالمقياس ليس هو العلوم التي تعلمناها، أو الخطب التي خطبناها، أو المؤتمرات التي عقدناها، أو الشعارات التي حملناها، كل ذلك لا يجدي نفعا، ولو اجتمع الإنس والجن، على أن ينفعوك أيها الإنسان، ما نفعوك، لأن هذه المسألة بالذات غير مرتبطة بما نملك من قوة مالية، وعسكرية، وخطط، ودسائس، وزور، وحيل، إنه إذا كان ذلك هو المقياس لما سقط فرعون، وسقط بعده كل الفراعنة، ولو كان المقياس كذلك لانتفعت أوربا بميكيافيليتها، ولسادت أمريكا ببراغماتيتها، من أي صنف نحن يا ترى، أقصد طينتنا، فهي ذات الطين: ” منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى ” الآية 55 من سورة طه. قصدي هو موقفنا في دنيا الناس وتحديدا من علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، موقفه من الفطرة السليمة، أهو راض بقسمته ونصيبه الذي يغنيه عن كل قسمة وعن كل نصيب، أم أنه غير راض، كما كان شأن بني إسرائيل، الذين أفسدوا فطرتهم التي فطرهم الله عليها، وكفروا بأنعم الله التي أنعم بها على خلقه، فعاثوا في الأرض وأكثروا فيها الفساد، واستكبروا على قسمة الله، واستكبروا على خلقه، وادعوا مع ذلك كله أنهم شعب الله المختار، وقولتهم هذه، لا تختلف كثيرا عن الكلمة التي نطق بها إبليس ( أنا خير منه، خلقتني من نار و وخلقته من طين. )، ليس استكبارا على باقي الأبالسة، ولكن لأن الله فضل عبده الإنسان، أما بنو إسرائيل فقالوا كلمتهم وكأنهم من طبيعة غير طبيعة الإنسان، ولذلك فإن البداية في تحديد موقف الإنسان، إذا كان ولا بد أن يفكر المرء في هدم أي صورة من صور الضلال، فليبدأ مع نفسه، يسألها في سؤال الرضاء بعد توحيد الله سبحانه، لأن مقتضيات التوحيد مرتبطة بمقتضيات الرضاء، فإذا رأيت صورتك في صورة بني إسرائيل، استعلاء واستكبارا، فلتبدأ بهدم هذه الصورة في نفسك، ولتبن على إثرها صورتك في صورة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تلقن نفسك بإحكام، أنك رضيت بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، وأن تكون حاضرا في دنيا الناس كالجالس عند ظل شجرة يترقب الزوال، وقد صلى وصام، وزكى، ولم يظلم هذا، ولم يأخذ مال هذا، ولم يشتم هذا، ولم ينل من أعراض الناس ولم يسفك دماءهم ،ولم يشهد شهادة زور، فنشهد على أنفسنا وكياناتنا شهادة حق، ونحدد موقفنا بكل وضوح. أما أن تختلط صلاتنا ونحن نصلي، وصيامنا ونحن نصوم، وزكاتنا ونحن نزكي، بشيء من التنافس على الدنيا استعلاء واستكبارا، فنظلم هذا، ونأكل مال هذا، وننال من عرض هذا، ونسفك دم هذا، ونبطش بهؤلاء، ونغتصب أرض هؤلاء، ثم ننتظر في غمرة التنافس الجزاء، فإن الجزاء من جنس أفعالنا وأعمالنا، ليس إلا.
وإذن فالسؤال الجدير بالطرح هو: على أي أساس قامت كياناتنا التي ذكرت من قبل، ليس على سبيل الحصر، بل على سبيل المثال، أين صنفناها من عملية الهدم والبناء، ماذا هدمنا؟ وماذا بنينا في واقع الناس؟ لماذا ضقنا بالكلمة المفتاحية: ” الإسلام ” التي سمتنا ” مسلمين “، ورحنا نبحث لنا عن فضاء في غير فضاء، فنظرنا إلى أنفسنا في غير مكان، وتراءت لنا صورتنا ونحن في غمرة تنافس الدنيا، فجاءت كياناتنا معبرة عن ذلك، والأسماء دالة على المسار، ولم نسأل أنفسنا مجرد السؤال: من أي صنف نحن، وفي أي طريق نقف، وبأي صنف من الأعمال نحن نقوم؟ لذلك جاءت الشعارات معبرة عن فحوانا، فلم تغنينا كياناتنا ولا شعاراتنا، ولا عروشنا وأموالنا، ولا القراءة التي قرأناها، ولا الخطب التي خطبناها، ولا المؤتمرات التي عقدناها، فسبحان الله كيف هزأت بنا الدنيا من جديد. فتكررت مآسينا، وها هي اليوم ماثلة في عراقنا وشامنا ويمننا، أو ليست هذه الفتنة من جنس قراءتنا ومواقفنا وأفعالنا التي لازمتنا طويلا؟
لن أسترسل بعيدا في هذا الحديث، دعنا نتابع جانبا من الحوار الذي أجراه الأستاذ مصطفى حابس مع المفكر الجزائري الطيب برغوث من خلال جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الاثنين 15 ـ 21 ذو القعدة 1433 هـ / 1 ـ 7 أكتوبر 2012، العدد 6. الأسئلة تمحورت حول شعار ” الإسلامية “، وعن تجربة الحركة الإسلامية، والمكاسب التي حققتها والتحديات التي تواجهها والآفاق المستقبلية التي تنتظرها، خصوصا حين ألقت بنفسها في خضم المعتركات الاجتماعية والسياسية. وقد جاءت إجاباته معبرة عن الواقع العربي أكثر من غيره، حيث أكد في البداية على أنه ينبغي أن تعي الحركة الإسلامية، وهي تخوض معتركات الإصلاح والتغيير والتجديد، أنها وضعت نفسها في سياقه الاستخلافي والسنني. والسؤال هو هل وعت الحركة، أولا طبيعة الإصلاح والتغيير والتجديد، أي هل كانت واعية بمسئولياتها في هذا الباب بالذات، منطلقاته وتبعاته قبل أن تعي مقتضيات الاستخلاف وسننيته؟ وإذا كانت كذلك، فما هي درجة الوعي في سياقه الاجتماعي والثقافي والرسالي والنهضوي؟ خصوصا حين يقول الأستاذ، وقد نأت بنفسها عن الدوائر التجزيئية الضيقة المعبر عنها بذات الاهتمام البشري غير الرسالي في صورها المختلفة التي عبر عنها بالذاتية الفردية، والعشائرية، والحزبية، والوطنية، والقومية، المتجلية من حيث الممارسات أو في جانبها التطبيقي في: الشعبوية والعنصرية، والهيمنة الاستكبارية، والإقصائية. وإذن فكأن الحركة الإسلامية كيان مؤسساتي متميز بتوجهه الرسالي ومنهجيته الراقية ومثله المعبرة، وكأنه استحق فعلا شرف شعار ” الإسلامية ” الذي رفعه؟ خصوصا حين يؤكد الأستاذ على أن شرف الإسلامية يرفض منطق الرداءة الفكرية، والروحية، والأخلاقية، والسلوكية، والمنهجية.
إذا كان الحديث يشمل الحركة الإسلامية بكل أطيافها، فإن السؤال يبقى موجها لمنتسبيها، قبل أي مراقب آخر، وإذا كان يخص فصيلا بعينه من فصائل الحركة، فإن السؤال سيكون له سياق آخر، والذي فهمته، حسب تقديري المتواضع والبسيط، فإن أستاذنا يتحدث عن الحركة الإسلامية في مجملها، خصوصا حين يذكرنا بوصية الأستاذ حسن البنا رحمه الله من خلال قوله: (وإن كان فيكم مريض القلب، معلول الغاية، مستور المطامع، مجروح الماضي فأخرجوه من بينكم، فهو حاجز للرحمة، حائل دون التوفيق). من هو المعني بهذه الوصية أهو المجتمع المسلم، أم المعني هو الصحوة الاجتماعية، أم الحركة الإسلامية، أم تحديدا هي حركة الإخوان المسلمين في وقتها؟ أهي النخبة، علماءها، قادتها، جمهورها، أم هي الحركة الإسلامية بجميع فصائلها، خصوصا أن الحركة الإسلامية، أو الجماعات والتنظيمات التي حملت شعار ” الإسلامية ” لها مرجعيات وأدبيات ومنهجيات مختلفة؟ وصلت بها إلى حد من التنافر يجعل اللسان عاجزا عن التعبير. وربما يتساءل آخر، هل من صور أو تطبيقات لمثل تلك الوصية في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سواء في نطاق المجتمع القرشي، أو المجتمع المدني، واقصد نواة المجتمع المسلم قبل فتح مكة. وإذن فمن المفيد أن نكرر السؤال في الفئة التي استهدفها الأستاذ حسن البنا رحمه الله بوصيته، خصوصا حين نتحدث عن صحوة اجتماعية، ثقافية، سياسية، ونهضة وحضارة تبتغيها أمة الشهادة والتوحيد. إن ما أثار انتباهي فعلا هو حديث الأستاذ حفظه الله حول موضوع ” الصحوة “، حيث قال: الصحوة هي صحوة مجتمع، وليست صحوة جزء من مجتمع، ثم عاد وقال، كما جاء مكتوبا في جريدة البصائر: الصحوة الإسلامية صحوة اجتماعية عامة. هل كان من الضروري ربط مفردة (الصحوة) بمفردة (الإسلامية)، خصوصا انه قال في الأول: الصحوة هي صحوة مجتمع وليست صحوة جزء منه، خصوصا أن مجتمع الصحوة هو مجتمع المسلمين في عمومه، متى تعبر فعلا صحوة الجزء عن صحوة الكل؟ ومتى تشكل حركة الجزء خطرا على الكل؟ لا يتضح ذلك إلا إذا أدركنا فعلا، كما نبهنا الأستاذ الورثيلاني المسافة الفاصلة بين الضلال والحق، هدما وبناء. إنني لا أنطلق من فراغ، إنها نفس المنطلقات لدى الأستاذ المفكر الطيب برغوث، عودوا معي إلى جوهر الحوار، أو النقاش في جزئه الثاني، وتحديدا حينما تساءل بقوله: ولكن التحدي الكبير الآن هو هل تستطيع هذه القوى المتحركة تحت شعار الإسلامية أن تفي بوعودها للمجتمع؟ وأن تصمد أمام تحديات إدارة الشأن العام، أم أنها ستنهار وينكشف عنها القناع؟
وإذن فلعل المنطلق هو نفسه، لأن الإنسان الرسالي، لا يمشي مشية الحرباء، بل مشيته إلى حد بعيد تشبه مشية الأسد، ليس مفترسا، أو متربصا لذلك، ولكن تواضعا لقوة ما يؤمن به من مبادئ وما يتحلى به من توحيد وما يتجلى به من شهادة: ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ” الآية 143 من سورة البقرة. لذلك قال الدكتور الطيب: ليس ضروريا في المجتمعات الإسلامية رفع شعار الإسلامية تماما، ثم قال في مضمون كلامه، ينبغي إعطاء الأولوية للمضامين الفكرية والاجتماعية والأخلاقية التي تتضمنها منظومة الإسلامية. أقول في هذا المفصل من الموضوع، بالذات، إن الصحوة الحقيقية ليست طفرة مجتمع، ولا هي كيان طفيلي قادم إليه من قريب أو بعيد، ولا هي أقلية تبحث لها عن عنوان أو عن مقر تحتمي به من خطر محتمل، ولذلك فهي تستمد مصداقيتها بمصداقيته، واسمها من اسمه، وحركتها بحركته، وقوتها بقوته. لقد ضربت جمعية العلماء الجزائريين إبان الاحتلال الفرنسي الغاشم أروع الأمثلة، اجتماعيا وثقافيا وسياسيا، إعدادا وإمدادا، لم تتحرك، ولو مرة واحدة، في مسار غير مسار المجتمع، فهي التي أبطلت مفعول سياسة المكر والخداع التي انتهجها المحتل تحت ما سماه سياسة ” فرق تسد “، لم يفلح ولو مرة واحدة في وصمها بالإرهاب، لقد وسع صدرها الشعب ووسعه حنانها ولطفها ويقظتها وطمأنينتها، يا لها من أم حنون، ويا لها من بنت بارة وصادقة، هدمت كثيرا من دروب الضلال وبنت الكثير من مسالك الحق. جمعية العلماء الجزائريين في خطها الأصيل، التي ولدت ولادة ويا لها من ولادة، إنها حلقة في سلسلة الولادات المتصلة من خلال حبلها السري بحبل الرسالات السماوية التي تحلت بحلتها وتزينت بزينتها وأشعت بنورها الأرض في فلكها وأنشد نشيدها أبناءها البررة من الأنبياء والرسل وتوارثه بعدهم العلماء الأطهار والمفكرون الأنوار، ولذلك ليس غريبا أن تزهو أرض الجزائر بميلاد جمعيتها وتردد بعد ذلك أنشودتها الخالدة المخلدة من خلال ثلة من علمائها ومفكريها الذين شربوا ماء زمزم الإيمان والحرية، ولذلك ليس غريبا أن يردد أبناء الإبراهيمي، وابن باديس، والعربي التبسي، والفضيل الورثيلاني، أنشودة الوفاء ويحفظوها جيلا بعد جيل:
شعب الجزائر مسلـــــــــــــــــــــــم * شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب * أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب
يا نشئ أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب * خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منار العدل والإحسان واصدم من غصب * واقلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب
وأذق نفوس الظالمين سما يمزج بالرهب * واهزز نفوس الجامدين فربما حي الخشب
من كان يبغي ودنا فعلى الكرامة والرحب * أو كان يبغي ذلنا فله المهانة والحرب
هذا نظام حياتنا بالنور خط وباللهب * حتى يعود لقومنا من مجدهم ما قد ذهب
هذا لكم عهدي به حتى أوسد في الترب * فإذا هلكت فصيحتي تحيا الجزائر والعرب
إن ميراث جمعية العلماء هو ميراث جميع الجزائريين، وسعتهم بفكرها ومواقفها وتاريخها وحكمتها جميعا، الجمعية ليست حزبا ولا يمكن أن تكون كذلك، لأنها لا تتحمل ضيق الأحزاب ولا تحتمل الفرقة والخصومات، ليست جمعية جهة بعينها ولا عرقا ولا لونا ولا مذهبا، أو فئة دون فئة أو قوما دون قوم، وهي بذلك لا تضيق سوى بالرداءة وبأهلها وبالجهل وبأهله، وهي بذلك ولذلك لم يصدق عليها ولا فيها قول الله سبحانه: ” من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا، كل حزب بما لديهم فرحون ” الآية 32 من سورة الروم. والقصد من الاستشهاد بهذه الآية ليس من باب نفي العمل السياسي في إطار الأحزاب السياسية، أو الإساءة للعمل السياسي في حد ذاته، ولكن هو من باب التذكير بأهمية المبادئ والأسس التي اعتمدها علماء الجزائر عند تأسيس جمعية العلماء، الذين حرصوا على وحدة الجزائر ووحدة شعبها ووحدة مصيرها في حاضرها ومستقبلها. فكم كانت الصحوة الاجتماعية في حاجة إلى مثل هذا التوجه الأصيل والسليم بعد ذهاب المستعمر الفرنسي الغاشم.
إنني أنطلق من الواقع، وأتحدث به، كم كان بسيطا أن يفتخر المرء قبل عشرين سنة أو أكثر بشعار ” الإسلامية ” وهو في منأى عن أي مسئولية، في خضم البوليتيك، وكيف هو بلحمه ودمه وعظمه يشعر بكثير من الألم والأسى وهو عاجز عن رفع نفس الشعار في حدود أسرته رفقة بنيه، كيف هو وكيف هي مكاسب الصحوة، أو ليس هو المعني بتحدي المحافظة على مكاسب الصحوة التي نطق بشعارها، ونادى به في خضم المعترك الاجتماعي والسياسي لسنوات؟ كيف تعاملنا مع رصيد الصحوة الاجتماعية الذي وصلنا عبر جمعية العلماء، وعبر التضحيات التي لخصتها للعالم ثورة التحرير المجيدة، كيف تعاملنا مع ذلك الرصيد العظيم، لماذا لم يسعنا في صحوتنا بعد ذلك، على سبيل المثال، رحابة صدر جمعية العلماء التي غضبت أيام الغضب، وابتهجت لما ابتهجت الأمة والشعب، كيف تعاملنا مع رجالها من أمثال الشيخ أحمد سحنون الذي كثيرا ما حذر من السقوط، وأن من صعد سريعا يسقط سريعا، وأن السرعة في النسيان تورث كثيرا من النكران، كيف تهافت الكثيرون على الحطام، أو لم يحذرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من تنافس الدنيا كما تنافسها الأولون، فأهلكتهم ولم تحاب أحدا اختار سفينتها ومراكبها، قال الله سبحانه: ” اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما، وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان، وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ” الآية 20 من سورة الحديد. وهو ما خاف منه النبي على أمته من بعده إلى يوم الدين. عن عمرو بن عوف الأنصاري.. وكان شهد بدرا، أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا عبيدة بن الجراح إلى البحرين يأتي بجزيتها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو صالح أهل البحرين وأمر عليهم العلاء بن الحضرمي، فقدم أبو عبيدة بمال من البحرين، فسمعت الأنصار بقدوم أبي عبيدة، فوافت صلاة الصبح مع النبي صلى الله عليه وسلم، فلما صلى بهم الفجر انصرف، فتعرضوا له، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآهم وقال: ” أظنكم قد سمعتم أن أبا عبيدة قد جاء بشيء، قالوا: أجل يا رسول الله، قال: فابشروا وأملوا ما يسركم، فوا الله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم “. صحيح البخاري. أسألوا أبناء الصحوة عن جمعية العلماء، عن رجالها، عن أفكارهم ومواقفهم وتضحياتهم، عن رسالتها ومضامينها، عن رحابة صدرها وسمعتها ورصيدها؟ ثم اسألوهم عن الدنيا وزخرفها ومراكبها، واسألوا بعد ذلك بقية من رجال جمعية العلماء عن رأيهم ورؤيتهم في سؤال الصحوة وفي شعارها، في سؤال المكاسب والتحديات والآفاق؟ يمكن كذلك أن تتوجه جريدة البصائر بنفس الأسئلة التي سألتها أستاذنا الدكتور الطيب برغوث إلى كل من: جماعة الإخوان المسلمين من خلال أحد قيادييها الحاليين، وإلى أحد شيوخ الحركة الوهابية البارزين، وبنفس السؤال إلى أحد قادة الثورة في إيران، ثم قادة المقاومة في فلسطين ولبنان، دون أن ننسى رواد الإصلاح في كل من تركيا وماليزيا، تكرر نفس الأسئلة من باب أخذ العبرة والاعتبار، دون الاستغراق في الصورة والأمثال.
أعود مع الأستاذ الطيب برغوث، فأقول: إن الحاجة إلى تفعيل قراءة ما تيسر من تفسير سنني للقرآن الكريم، هي حاجة ملحة هذه الأيام، خصوصا أن مجهود الأستاذ في هذا الباب بالذات هو ما ينبغي أن تجتهد جريدة البصائر، ومختلف المواقع والمنابر في تعميم فوائده، ذلك ما يحتاجه المسلم اليوم من زاد، يجدد به العهد مع ربه قبل سواه، ويمسح ببركته على الجراح، ويبعث به الأمل من داخل النفوس التي سكنها الفلاح، لعلها تقوم بقيامها وصيامها وأخلاقها ووعيها وحضورها، فتتخلص من جزعها وتتسلح بصبرها، راضية مرضية شاهدة بإذن الله. كما أعود رفقة الأستاذ من خلال قوله: هل نحن كجزائريين، على سبيل المثال، وخاصة من يتولون إدارة الشأن العام سواء في الدولة أو المجتمع، نعرف بشكل علمي وموضوعي طبيعة الحمولة الفكرية والثقافية والنفسية والسلوكية والاجتماعية التي يحملها الإنسان والمجتمع الجزائري؟ طبيعة هذه الحمولة، وحجم الصحة والمرض، والقوة والضعف فيها، ومصادر ذلك ومؤثراتها؟ نحن في حاجة إلى معرفة أنفسنا ومجتمعنا، ومن لا يعرف نفسه ومجتمعه وعصره، فليس مؤهلا بأن يكون له مكان ودور في إدارة الشأن العام في المجتمع. انتهى كلام الأستاذ.
إن سؤالي من نفس جنس سؤال الأستاذ، يتصل بالنفس ( المستوى الفردي ) أو الشخصي، وبالمجتمع ( المستوى الجماعي)، أي مقومات الإنسان ومقومات المجتمع، لكنني أجد نفسي منشغلا أكثر بميكانيزمات بناء جسور الثقة بين المعنيين، الذين أشار إليهم الأستاذ إشارة خاطفة ( من يتولون إدارة الشأن العام سواء في الدولة أو المجتمع ) وعلاقة هؤلاء بالصحوة الاجتماعية التي هي صحوة المجتمع وليست صحوة جزء منه، صحوة المجتمع الجزائري الذي لم تستطع فرنسا فرنسته ولا تجزئته، وليست صحوة طفرية أو جذبية أو انتقائية أو إقصائية أو حزبية، هذا ما ينبغي أن يشغلنا كثيرا، ويشغل، على وجه الخصوص مفكرينا وأساتذتنا، وهذا دون ريب يتطلب طمأنينة إيمانية ويقظة ذهنية وصبرا مثل صبر سيدنا أيوب عليه السلام، لا يؤتى من باب طفرة فردية استئنافية، ولا من باب حزب سياسي في غمرة تنافس الدنيا، جسور الثقة التي كانت الصحوة في حاجة إليها أيام الشيخ أحمد سحنون والأستاذ مهري عبد الحميد، والأستاذ محمد السعيد، رحمهم الله، لمن كان يعرف طبيعة حمولتهم الفكرية والنفسية والثقافية والاجتماعية، ووزنهم بخصوص الشأن العام، مجتمعا ودولة، وعلاقة ذلك بمكاسب صحوة المجتمع، وتحديات المسخ والفرنسة، وآفاق المستقبل، أيام الله هي ذاتها، وتحديات اليوم هي تحديات الأمس وأكثر، والأيام حبلى بكثير من الفرص، ولكن بكثير من الأزمات أيضا، نسأل الله لنا ولكل الجزائريين، والعرب والمسلمين، والإنسانية جميعا رحمة وهداية بين يديه منيبين موحدين راضين وشاهدين، آميـن.
بشير جاب الخير
25 جويلية 2016
الإحالات
(1)،(2)،(3)، محمد بن المختار الشنقيطي، الخلافات السياسية بين الصحابة، رسالة في مكانة الأشخاص وقدسية المبادئ، معهد الهوقار ـ جنيف ـ الديوان، ص 09.
(4) جريدة البصائر لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الاثنين 06 ـ 12 شوال 1437 هـ / 11 ـ 17 جويلية 2016، العدد: 815.