في القرن السادس عشر كتب إيراسْم (1536ـ1469)، عالم اللاهوت الكاثوليكي، منتقدا ما يتعلق بكمّ البقايا المقدسة التي تجوب بلدان أوروبا أو تملأ متاحفها، مشيرا بسخرية إلى عدد البواخر التي يمكن بنائها بخشب الصليب المستخدم في صلب المسيح! بينما قال كالڤين (1509ـ1564)، عالم اللاهوت البروتستانتي، في بحثه عن البقايا المقدسة، سنة 1543، “إن جمعنا كل ما هو موجود من خشب الصليب الحقيقي لوجدنا حمولة باخرة ضخمة. يا لها من جسارة، يملئون الأرض بقطع من الخشب لا يقوى ثلاثمائة رجل على حملها” !.. بل والأدهى من ذلك، لقد تم إنشاء متحف خاص يسمى “سْتاوروتيك” يضم أجزاء من الصليب المقدس “الأصلي”، بخلاف ما هو موجود في الكنائس والأديرة.. كما أصبحت مختلف هذه البقايا المقدسة أحد العناصر المؤسسة للمسيحية ابتداءً من القرن الرابع.
وأول ما تجدر الإشارة إليه هو: اختفاء كلمة “الخشبة” التي تم تعليق يسوع عليها، وهي الكلمة التي لا تزال موجودة في الأناجيل ولم يتم حذفها مثل الكثير غيرها (اع 5: 30 ؛ اع 10 : 39 ؛ أع 13 : 29 ؛ غ 3 : 13). ولعل ذلك يرجع إلى استتباب ورسوخ كلمة “الصليب” التي تم فرضها في القرن الرابع، حتى أن الكنسيين قد نسوا أو تناسوا حقيقة وجود “الخشبة” التي عُلق عليها المسيح.. وأكبر دليل على مصداقية “التعليق على الخشبة”، بخلاف أنها كانت تقريبا الوسيلة الوحيدة لتعذيب الشخص حتى الموت أيام الرومان، سواء بالتعليق على جزع شجرة أو جزع نخلة، فهي مذكورة في القرآن الكريم عند الحديث عن موسى وفرعون “.. ولأصلبنكم في جذوع النخل..” (71 /طه)، أي على جزوع النخل ؛ أما في سورة النساء (157) فيقول المولى عز وجل عن السيد المسيح: “.. وما صلبوه وما قتلوه..”
ولكي ندرك حقيقة كيفية تكوين المسيحية باختصار شديد: أنه تم تأليف وتكوين العقيدة بعد “صلب” المسيح كما يقولون، وحتى القرن الرابع، ثم راحوا يختلقوا الأدلة لإثبات صحة ما تم تأليفه ومصداقيته، بل وتأريخه، اعتمادا على اختلاق ما أطلقوا عليه “البقايا المقدسة”. فبدأت لعبة القصص والأساطير الدينية التي تثبته وتواكبه تتولد وتتكاثر.. أو على حد قول الريحاني : “شيء لزوم الشيء” !..
قصة “الصليب الأصلي”
المعروف تاريخيا: أنه قد تم تبني الصليب كرمز للمسيحية في القرن الرابع بأمر من الإمبراطور قسطنطين، كما يرجع اختراع العثور على “الصليب الأصلي” إلى والدته هيلينا، أو هكذا تقول الكتب. وبدأت عبادة الصليب في القرن الرابع والخامس، وابتداء من القرن السادس تحول الصليب الى رمز للمسيح.
ويقول وُسيبوس القيصري أن الأسقف مقار هو الذي طالب بالبحث عن مدفن يسوع والصليب الذي صلب عليه، وذلك أثناء انعقاد مجمع نيقيه الأول سنة 325، الذي تم فيه تأليه السيد المسيح، كدليل مادي لإثبات تفاصيل الديانة الجديدة. وهنا ينبثق السؤال الساذج: ما الذي ذكرهم بالمسيح بعد أربعة قرون من صلبه أو من صعوده ليجلس عن يمين ربه كما يقولون ؟! ويقال إن والدة قسطنطين قد طلبت أن تحج إلى المكان الذي صلب فيه يسوع لتبحث عن قبره وصليبه. وقد عاونها كلا من الأسقف مقار والروح القدس وسكان مدينة القدس، ولدهشتها تم اكتشاف ثلاثة صلبان، وكأنها لا تعلم أن الأناجيل تقول إنه صُلب بين لصين ! “صليب” يسوع و”الصليبان” اللذان عُلق عليهما اللصان المرافقان له. واحتار الجميع، ايهما صليب يسوع ؟! ثم وقفت حائرة وهي تتساءل: “أين المسامير الثلاثة التي دقوه بها على الصليب؟ ولدهشتها أشار لها الروح القدس.. “فوجدتها تلمع ببريق كالذهب”.. فاندلعت معجزة جديدة، غير عابئة بخاصية الحديد والصدأ والأربعة قرون من الزمن..
وتقول احدى القصص أنهم أخذوا الصلبان الثلاثة وذهبوا بها إلى مريضة في حالة احتضار، وقربوا منها أول صليب، ولم تشعر بشيء وظلت في حالة موات، فقربوا منها الصليب الثاني ولم تشعر بشيء، فقربوا منها الصليب الثالث وهم في غاية القلق، فنهضت من الفراش، بكامل صحتها وعافيتها، فأدركوا على الفور أنه صليب يسوع !! وتقول قصة أخرى “أنهم أحضروا المريضة التي تحتضر على نقّالة إلى مكان الصلبان”.. وباقي التفاصيل واحدة.
وابتداء من القرن الخامس تم استبعاد دور الأسقف مقار ليتم الاعتماد على قصة أن والدة قسطنطين هي صاحبة الفضل وأنعموا عليها بلقب “قديسة”.. ومن اللافت للنظر أن وُسيبوس القيصري، الكاتب الكنسي الوحيد المعاصر للقديسة هيلينا، والذي لم يترك شيئا يعود بميزة ما على المسيحية إلا وأدرجها، وقد ألّف كتابا عن “حياة قسطنطين”، ولا يرد فيه عملية اكتشاف والدته للصليب، ولم يتحدث عن هذه الجزئية على الإطلاق !. إلا أن ذلك لا علاقة له بتوالد الأساطير.. أما المؤرخ چورتان فيقول “إن القصة كلها من تأليف مسيحيي القدس بعد وفاة الإمبراطور قسطنطين ووالدته”..
وقد تم تسجيل الواقعة في التقويم الكنسي بيوم 3 مايو سنة 326، وهو تاريخ الذكرى الأولى لمجمع نيقية الذي تم فيه تأليه يسوع والاستجابة لطلب الأسقف مقار للبحث عن قبر يسوع وصليبه. وهنا تبدو براعة كيفية تأليف الأحداث والتفاصيل والربط بينها.. وفي القرن الخامس تم اختلاق “عيد اختراع الصليب” (inventio crucis) والذي يقصد به الاحتفال بالعثور على الصليب “الأصلي”، ثم تحول مضمون الاحتفال من دليل على موت يسوع إلى إثباتٍ لبعثه يوم 14 سبتمبر. واستمر الاحتفال بالعيدين إلى أن تم إلغاء الأول سنة 1960 لاستبعاد سيرة وفاته والاحتفاظ بعيد بعثه و”تغلبه على الموت وبعثه” الذي لا دليل عليه..
توالد الأساطير
لقد عادت قصة “اكتشاف” الصليب الحقيقي ليسوع في القرن الرابع إلى الظهور ثانية، في القرون الوسطى، بفضل كتاب “الأسطورة الذهبية” الصادر سنة 1260، للكاتب چاك ڤوراچين، الذي أضاف رصيدا جديدا من المعجزات والقصص والأساطير.. أما چان ݒيير كاسلي فيقول في كتابه “ݒروڤانس المتفردة والسرية” (ݒروڤانس اسم مقاطعة في جنوب فرنسا)، “يوجد في أوروبا حوالي خمسون الفا من البقايا المقدسة المتناثرة في كل مكان وهي ناجمة عن حوالي خمسة آلاف قديسا”.. ثم يضيف مؤكدا: “ان أكبر جامع للتحف المقدسة كان الملك فريدريك الثالث (1463ـ1525) الذي استطاع أن يجمع 21441 بقية مقدسة، منها اثنان وأربعين جسدا كاملا لقديسين في حالة حفظ كاملة”، ويا لها من معجزات.. وينهي الكاتب هذه الجزئية من كتابه بأن الخيال الشاطح للقساوسة أدى بهم إلى زعم الاحتفاظ بنَفَسْ يسوع في قنينة زجاجية صغيرة، وهي محفوظة في كاتدرائية ويتنبرج بألمانيا”، واللهم لا تعليق..
ولقد اهتمت الكنيسة بإيجاد كل صغيرة وكبيرة تم ذكرها في الأناجيل خاصة في عملية صلب يسوع ودفنه إلا ووجدوا لها النموذج الأصلي بغض الطرف عن إمكانية صموده لعوامل الزمن، في وقت لم تكن فيه وسائل الاحتفاظ بالأشياء معروفة. فبخلاف غرلته الشهيرة قد عثروا على أسنان اللبن التي بدلها، وعلى الحبل السري، وعلى السكين الذي استخدمه في العشاء الأخير، وعلى الإسفنجة التي سقوه بها خلٍ، وعلى بضعة نقاط من دموعه، وهي محفوظة في دير ڤاندوم، وتوجد هي نفسها في سيلانكور، وآلواچ، وتييرز، وشامليه، وفونكارنو وأورليانز.. ولم تجف أو تتبخر رغم مضي الفا عام..
وكانت الكنيسة تؤكد أن خشب الصليب الأصلي يتمتع بخاصية متفردة، هي خاصية الإنبات الذاتي والنمو التلقائي، إذ كلما قطع أحدهم قطعة من خشبة الصليب الأصلي، وباعها للتبرك بها، نمت مكانها نفس الجزئية أو أكبر منها. فلا يوجد دير أو كنيسة لا يحتوي كلا منها على قطعة “أصلية”.. وفي بعض الأماكن كانت القطع كبيرة مثلما في باريس أو روما..
ونفس الإمكانية المباركة للإنبات الذاتي انتقلت للقديسة هيلينا، إذ اكتسب جثمانها خاصية النمو الذاتي وأصبح لها جسدان كاملان أحدهما في أحد الأديرة بفرنسا والآخر في كنيسة في روما، وكلاهما مصحوبا بشهادة من الفاتيكان بأنه الجثمان الأصلي للقديسة هيلينا. ولعل القساوسة اعتمدوا على أن السفر والتنقل قديما لم يكن سهلا وإن أحدا لن يكتشف الأمر، خاصة وأنه يدخل تحت بند الورع الديني..
أما رأس يوحنا المعمدان فهي تعد من الآثار المقدسة المتفردة أيضا، وقد اشتراها الملك لويس التاسع، ملك فرنسا، لكن مع مرور الوقت اتضح أن هناك “رأس أصلية” أخرى في مدينة آميان، وفي مدينة ليون، وفي موريين، وآنچلي، وفي روما، كما توجد في اسبانيا والمانيا وفي أماكن أخرى لطرح البركة على الأتباع.. ولا أقول شيئا عن تجارة البقايا المقدسة العلاجية وكل ما جلبته للكنيسة من أموال وعطايا..
وليس من فراغ أن كتب دكسن وايت سنة 1896، عن “تاريخ الصراع بين الدين والعلم” قائلا: “وبقمعها المخالفين وإقامة محاكم التفتيش ضد من أطلقت عليهم “الهراطقة” فإن المسيحية قد افتتحت عهدا جديدا من العبودية الذهنية، إذ أوصلت الاستبداد إلى أعمق أعماق عقول البشر، وبذلك قد أصبحت عائقا أو حجر عثرة للتقدم الحضاري في أوروبا لأكثر من ألف عام”. أما چوزيف هويلر فيقول في كتابه عن “جرائم المسيحية” : إن المسيحية ليست مسئولة فحسب عن تزوير الوثائق لأغراض ما، ولكن هي مسئولة عن العديد من المعجزات التي لا توصف إلا بالخداع والنصب والحكايات الكاذبة والأساطير المربحة”..
زينب عبد العزيز
19 يوليو 2016