يصادف بداية شهر ماي من كل سنة إفتتاح المعرض الدولي للكتاب بسويسرا، و هو موسم عطلة ستة أيام تقريبا في أغلب دول أوروبا، موسم يجعل من المعرض الدولي للكتاب والصحافة حدث ثقافي أوروبي متميز طيلة أيام التظاهرة، وهو معرض ضخم بعد أن إزدان السنة الماضية بضيف شرف عملاق متمثل في الدولة الروسية ، عملاق تاريخا و حضارة و لغة، ها هو يستضيف هذه السنة كضيف شرف بلون عربي باهت، المتمثل في تونس الصغيرة التي لم تكن هذه السنة في مستوى الحدث لأسباب ذاتية و أخرى موضوعية و ثالثة سياسية ضيقة، لا داعي لشرحها، لأن أصحاب المهنة همشوا، من طرف الوزارة الوصية و بعض الساسة، و قد سال حبر كثير و لعاب و سجال بين الاشقاء في تونس حول أسباب تضييع مثل هذه الفرص، لا داعي لذكرها، رغم ذلك يكفي أن تونس تستفيد منذ بضع سنوات من ” بنك الكتاب” و هو عبارة عن مخزن تجمع فيه الكتب الجديدة و القديمة لترسل كهبات ومساعدات لبعض الدول الافريقية خاصة، و هي لفتة جمعوية و مبادرة شعبية تقوم بها الجالية التونسية بعد ثورتها المباركة، رفقة اشقائهم من المغرب العربي و ناشرين سويسريين متطوعين يتقدمهم الناشر الكبير “مكتبة بايو”.
والمعرض الدولي للكتاب والصحافة بجنيف أصبح بعد 30 سنة تقليدا سنويا يزوره أكثر من مائة ألف زائر، و يتربع على مساحة 32 ألف متر مربع، أي مساحة أربعة ملاعب كبيرة، كما تعرض فيه أزيد من 800 دار نشر كتبها، وما يربو عن عدد مماثل من الكتاب والمترجمين ينشطون ورش ومحاضرات وطاولات مستديرة تفوق ألفي تظاهرة بلغات شتى. كما تزور المعرض وفود من الطلبة والتلاميذ من داخل سويسرا وخارجها، لاقتناء الكتب والتدرب على الكتابة والرسم في أجنحة مخصصة، كما تنقل التظاهرة بالصورة والصوت عشرات المحطات التلفازية و وسائل الإعلام المكتوبة و المسموعة، بغض النظر عن البث الحي هذه السنوات حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
و للسنة الرابعة، أبدع معرض جنيف بتظاهرة جديدة ، أسماها “الرعاة والمهرات” وهي عبارة عن مجهودات أقلام عريقة وذات تجربة مع أقلام جديدة شابة، و يشترك كاتب “كهل” مع كاتب ” شاب ” في مقتبل العمر، لكتابة كتيب صغير، إما عبارة عن حوار أو دردشة أو مساهمة مكتوبة في فن من فنون المعرفة، وهي مبادرة يلهث وراءها شباب سويسرا، لكسب التجارب من أصحاب الأقلام التي لها باع طويل في الكتابة والـتأليف، حبذا لو يستفيد منها ناشرونا في عالمنا العربي.
و افتتح المعرض الدولي رسميا، كالعادة، وزير الثقافة، ووفد هام من علماء وكتاب سويسريين تتقدمهم السيدة إزابال فالكوني، الرئيسة الجديدة للمعرض، ورئيس بلدية جنيف، رفقة وفد من شخصيات عالم القرطاس والقلم، والضيف الشرفي لهذه السنة، وعدد كبير من الدول الضيفة المشاركة وحضور بعض سفراء العالم المعتمدين لدى الأمم المتحدة بجنيف الذي يربو عددهم عن 190 سفيرا و مكلفا بالأعمال. دون أن ننسى التغطية الإعلامية الدولية.. وحضور جمعيات إنسانية وحقوقية للتعريف بقضايا خروقات حقوق الإنسان طولا عرضا، من فلسطين إلى الصحراء الغربية.. مرورا بسوريا واليمن ومصر وحتى دول المشرق التي ترنو إلى ربيعها الذي لم يزهر لحد الآن إلا أشواكا و دموعا، ليس فقط بتكميم الافواه ومصادرة الحريات، بل بمحاكمات وصفتها بعض المنظمات الدولية بـ”الهزلية” كما يجري الان في مصر التي يحاكم فيها الإنقلابيون العسكريون رموز حركة إسلامية سلمية ، قد نختلف معهم في بعض تفاصيل التسسيير.. يحاكمون بمحاكمات إنتقامية لا مسوغ لها لا شرعا ولا عقلا.
و بالتالي تعذر حضور بعض دول “الربيع العربي” لأعذار مقبولة أو مفهومة نوعا ما، و لم تحضر إلا المغرب و تونس ، و قد تغيبت لأول مرة المملكة العربية السعودية ، التي أعتاد جناحها على توزيع المصحف الشريف بلغات شتى، و كتب دينية وعربية، كما تغيبت قطر و الكويت و دول الخليج لأسباب غير معلومة، إلا أن الوضع السياسي و الأمني كان مبررا، لم تستسغها جاليتنا الإسلامية في الغرب. وعموما المشاركة العربية في المعرض تلخصت في حضور بعض الأقلام اليسارية و الكتاب العرب الذين يعيشون في المهجر أساسا من أمثال عبد اللطيف اللعبي ومالك شبال وكوليت فلوس وإلياس خوري وفاروق مردم باي مدير سلسلة سندباد في دار “أكت سود”، ورانيا سمارة وصلاح ستيتية وياسمينة خضرة وأنور بن مالك. طبعا عزاء الجالية المسلمة في أوروبا هو حضور بعض عروض الجمعيات الانسانية و الثقافية الدائم و المستمر منذ عقود، كالعمل الذي تقوم به ” المكتبة العربية بجنيف ” لصاحبها المسيحي العربي ألان بيطار و كذا ما تقوم به ” الجمعيــة الثقـافيــة للنســاء المسلمــات في سويسرا “، التي تشرف عليها أختنا نادية راشدي كرموص الجزائرية الأصل لم تفوت فرصة إلا و حضرتها، خاصة أنها هذه السنة تحضر للافتتاح الرسمي ” للمتحف الاسلامي الذي تكلف أثمان باهظة في مدينة لاشودفون السويسرية.
وأسدل الستار يوم الأحد الماضي، بعد أن نال المعرض نجاحا دوليا و إقليميا كبيرا، على أن يفتح العام المقبل في الفترة ما بين 26 إلى 30 أفريل 2017، على أن يكون ضيف الشرف الكيبيك / كندا، كما تفتح فروع المعرض في كل من شاطو شينون و سيون و لورزان في فترات متباعدة.
و هل يستيقظ يوما ما طباخو سياستنا الثقافية و التربوية، لأهمية دور العلم و الكتاب أم تراهم ينسون أو يتناسون أننا “أمة إقرأ” ويسع بعضهم لطمس ذلك بأعذار أوهن من بيت العنكبوت كما أشرنا لذلك سلفا، لكن يحز في أنفس الزوار العرب في المهجر، أن الكلمة – كما يصفها المرحوم المفكر السوري عبد اللطيف الصوفي مؤسس علم المكتبات العربي، والأستاذ الأسبق في علم المكتبات والمعلومات في الجامعات الجزائرية ، أن ” الكلمة، قوة عظمة في كل عصر ومصر، في كل زمان ومكان، فيها يتجلى الخلق والإبداع، و بها يمكن إحقاق الحق، او دعم الباطل، إنقاذ الناس او قتلهم، حشد الجيوش وإعلان الحروب.. إن الكلمة هي القوة الأكثر قدرة على تغيير العقول وتحريك البشر في الاتجاه الذي تريد، فالكلمة ليست وسيلة اتصال فقط، بل أداة هامة للإقناع، إذ بإمكانها أن تصنع القوة، وأن تجعل العالم أفضل”.. هذا العالم الأفضل لن يكون إلا بالكلمة الطيبة التي تسعى إليها مثل هذه المعارض لتلقينها للأجيال البريئة.. فمتى يصحو الضمير الإنساني ويفهم ذلك حكام عالمنا المعاصر نبل قيمة ذلك الزاد الذي لا ينفذ، قيمة “الكلمة الطيبة”.. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
محمد مصطفى حابس
21 ماي 2016