بسم الله الرحمان الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه الذين اتبعوا نهجه بإحسان إلى يوم الدين.
يجدر بي، في الوقت الذي يروع فيه الإنسان في حلب، أن ألفت نظر المتتبع لمثل هذه الأحداث وغيرها، إلى أن الصراعات المصطنعة ما احتدت في العالم مثلما تحتد اليوم، بحيث أنني لا أتصور أن هذه الصراعات المضمنة سلسلة القتل والترويع تتواصل بكل همجية في هذه اللحظة الخطيرة، دون أن تتناولها أجهزة مختصة، لتجري عليها العمليات التي صورتها كثير من الدوائر الإعلامية والسياسية تصويرا غير كاف، إن الأفكار العامة المحيطة بهذه الصراعات، قد تستغل ملابسات علاقة الحاكم بالمحكوم في العالم المتخلف، إلا أن المشكلة لا تتعلق بهذا الحيز الجغرافي بعينه، أو هذه الدائرة الإنسانية لذاتها. إن التعريف الشامل لفكرة اللاعنف هو الذي يحكم فكرة التدافع ويحدد طبيعته وأبعاده، إن فكرة اللاعنف هي المقياس العام الذي ينبغي أن نقيس به صراعاتنا وتدافعنا، سواء في أوروبا أو في غيرها، حتى وإن كان في عالمنا المتخلف، إن المستهدف هو الإنسان، وقبل ذلك هي تلك القيم التي لا ترضي المفسدين في الأرض لقد استهدفت القيم واستهدفت الأرواح على حد سواء.
إن فكرة اللاعنف كمقياس عام، يحمل بين دفتيه فلسفة الإنسان وفلسفة الجماعة، دوافع الإنسان ودوافع المجتمع، مع أخذنا في الاعتبار ضرورة الوقوف على التشويه الذي لحق الشعار المثلث للثورة الفرنسية: (حرية – إخاء – مساواة) الذي فقد اثنين من أضلاعه أمام ممارسات التفكير الإلحادي الذي استخدم ضلع “المساواة” أسوأ استخدام حين قدمه جسدا بلا روح في شعاره المعروف (لا نريد ربًا ولا سيدًا).
إننا اليوم، رفقة الإنسانية جميعا، في حاجة إلى مثلث بديل وأصيل، يستند إلى معلم ينظر إلى الإنسان بمنظار واحد ويكيل بمكيال واحد، يصون النظرية وتطبيقاتها على السواء، فلا نميز بين أبيض وأسود، أو بين غني وفقير، أو بين قوي وضعيف إلا بحق.
ولسنا في حاجة إلى أن نذكر من جديد بالفشل الذريع الذي لحق بالمعسكر الإلحادي الذي لم يعد قادرا على إقناع أناس مثل بوتين الذي يراه الجميع “يتمسح” عند أقدام الكنيسة التي لم تعد قادرة على إقناع الإنسان البسيط في غرب أوربا اليوم، لسنا في حاجة إلى التذكير من جديد بوقوف الإنسان الغربي على تناقضات المنظومة الدينية التي صارت – للأسف الشديد – جسدا بلا روح، وفي الوقت نفسه انفتاح العقل الأوربي على دراسة مسألة التوحيد واقترابه شيئا فشيئا من مبدأ الوسطية، لم يعد تقنعه تقنية التفكير المتوازي، ولا أسلوب التفكير المتعاكس ، إنه يقترب تدريجيا من المركز من خلال الحد الوسط، الذي ليس هو خطا أو حاملا لأحد أضلع المثلث المجسد لشعار الثورة الفرنسية الذي صار باهتا في أيامنا هذه بسبب الانتفاخ الذي أصاب رأسماليتهم وأصاب “أناهم”، الإنسان الأوروبي صار بكل تأكيد يبحث عن معلم يصون نظريته قبل ممارساته، أما إنسان العالم المتخلف فهو في حيرة من أمره بسبب الفتنة القديمة الجديدة المتجددة التي لفظها منذ قرون رحم الاستبداد، ولا شك أن الوضع العام الذي تعيشه الأمة العربية الإسلامية، والوضع الخاص الذي يعيشه مشرقنا العربي الإسلامي من أزمات و حروب أهلية، حيث أصبحنا في حيرة من أمرنا أمام هذه الأزمات (السؤال في أسبابها)، و أمام الضحايا بالملايين (السؤال عن ذنبهم)، و إذا بنا نقف من جديد عاجزين أمام “صنم” ضخم ومخيف يقتات يوما بعد يوم من دماء الضحايا، الاستبداد من جديد، لا يعنيه، كما لم يعنيه من قبل سوى إطالة عمره و تبرير صنيعه، فهو في هلع دائم، غير منزعج، بل في جزع مستمر، يجتهد في نشر الطائفية وصنع بؤر التوتر ونشر الفوضى وترهيب الأبرياء وشراء الذمم، وفي مقابل هذا المستبد أو الصنم المخيف تقف الشعوب في حيرة من أمرها، منهكة الأوصال من شدة ما تعانيه في سجنها من القابلية للأمر الواقع بسبب تمييع منظومات القيم وتوسيع الهوة بين القول والفعل وتفكيك النظام الأسري وتفريغ مناهجنا، في مدارسنا ومساجدنا، ومزارعنا ومعاملنا، وجامعاتنا من كل قيمة وتقويم وتربية وتوجيه وتأهيل ومعرفة ونظر وتدريب.
وفي مثل هذه الظروف التي نعيشها فقدنا أو كدنا نفقد إنسانيتنا ورأس مالنا الذي ضاع أو كاد يضيع ضمن فوضى عالمنا العربي الإسلامي الذي أدهشته فوضى العالم الغربي المتغطرس برأس ماليته التي داست على كل القيم.
إن الموقف، يتطلب اليوم، من الفاعلين الأحرار أن يتدبروا في ماهية الجسم المتطفل الخطير الذي يروع الإنسان في سوريا والعراق وليبيا وتونس وداخل أوربا وغيرها من أجزاء العالم الذي أنهكته فلسفة الاستعلاء والغرور، وأن يبحثوا عن مصدر قوة هذا الجسم ماديا وقبل ذلك فلسفيا، وعن الجهة التي سهلت الطريق، فهي دون ريب، قوة فكرية ومالية متنفذة، يسعدها تفعيل مثل هذه الصراعات، ومثل هذا الترويع في عالم اليوم، كما تم تفعيلها في أوربا التي كانت ضحية حربين عالميتين أتت على كثير من الأرواح، حربين، لم يكن لهما من مبرر سوى داخل عقول مريديها ومدبريها.
راجعوا المقياس العام الذي يحكم فكرة التدافع، ثم ابحثوا عن مصدر هذا الجسم المتطفل الخطير.
إن أوربا اليوم من خلال فلاسفتها الأحرار، مطالبة بقراءة جديدة للدين وللتاريخ، كما أن الفاعلين الأحرار في بلاد الشام والعراق مطالبون بإصلاح ذات البين قبل فوات الأوان، أنظروا إلى الملايين من اللاجئين من أبنائكم، كيف لم تعد تسعهم أرضهم التي هي أرضكم جميعا. إن المستهدف اليوم هو تركيا الحرة، تركيا أردوغان، إنهم يرون فيه محمد الفاتح ويرون فيه الخطر الداهم، أو القائد الفاتح، ليس عن طريق القتل والترويع، وإنما من خلال مبدأ الشهادة المجسد لأمة الشهادة أمة المركز أمة الوسط، مصداقا لقوله سبحانه: “وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” (الآية 143 من سورة البقرة)، وقوله عز وجل: “مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ۚ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ۖ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ ۚ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ” (الآية 117 من سورة المائدة). لقد تمثل أردوغان مبدأ الشهادة التي ينبغي أن تحكم فكرة الاستشهاد وتتضمنها، هذا الذي حيّر إسرائيل وأقلقها وأغضبها وجعلها في حيرة من أمرها، هي وأتباعها وكل من اختار طريق الاستبداد. إن حلب الجريحة، هي القلعة التي ينبغي أن تسقط – حسب زعمهم – كحل وحيد لزعزعة ثقة تركيا بنفسها، لعلهم يستدرجونها من جديد، وقد أبت، إلى مستنقع الاقتتال داخل بلاد الشام، وهم الذين عملوا بالأمس القريب على استفزاها من جهة العراق. إسرائيل لا يسرها سوى أن ترى “تركيا محمد الفاتح” مكسورة العنق، ولا شيء غير ذلك، ثم سوف لن ترى مانعا من وقف الاقتتال في سوريا، لأنها حينها لا حلب ولا دمشق ولا بغداد سوف تشكل أي خطر، فقط أتباعها سوف يقومون نيابة عنها باستعباد الشعوب المسحوقة أصلًا. فمن يجلس يا ترى إلى أردوغان؟ ومن يكون بإذن الله سباقا للقيام بمهمة “إصلاح ذات البين”، فإما هذه، وإما مزيدا من الاستعباد.
بشير جاب الخير
4 ماي 2016