لم يؤتَ المسلمون من شحّ “إيرادات” بقدر ما شقوا بقلة “إرادات”. وإلا كيف تبتئس أمّتنا الكبرى وهي تملك الكتاب مِقودا وأكثر من مليار نسمة عددا وتلك المساحة امتدادا والغاز والنفط موْردا؟ وإن ضاق المقام هنا بتشخيص كل أسباب تخلفنا ـ المتنوّع ـ فليتّسع صدر القارئ بتلخيصها في عبارتين: مجانبة السُنن ـ النواميس الخلْقية ـ وترْك السَّـنن ـ الصّراط المستقيم!
لم يبالغ كثيرا ذاك الذي صرَخ ذات مرة قائلا: لقد قاد نورُ النبوّة العصماء الصحابة الكرام بالكتاب، فحازوا الدنيا والآخرة، وحَكم الغربَ أولو الألباب، فملكوا الدار الفانية، وضاقت الحياة على المسلمين وآخرتهم على خطر عظيم، بعد أن ساسَهم شرّ الدّواب!
فمهلاً يا عهد الرويبضة العصيب وأنت ـ على امتداد العالم الإسلامي ـ تُنذر بوقت الساعة القريب!
الرويبضة؟ “الرجل التافه يتكلم في أمر العامة”!
ولو أنّه اكتفى بكلام لهانَ الأمر جزئيا، ولكنه قد يتحدّث ويَحكم!
فإلى متى والأمم الكوافر تقودها وجوه تجود عليها بقلوبها حُبّا وولاء، وبعقولها عمارةَ أرضٍ ونمَاء، بينما أهل الملة لا يتولىّ أمرهم ـ على العموم ـ إلا خفيف عقل أو عديم أمانة ـ فكيف بمن تميّز بـِهما معا!
وكم من مرة أرعِدتْ فرَائِصُ مشفق على شعبه وهو ينظر إلى رئيس افرَنجي لاهياً بمسؤول من بني جلدتنا في لقاء يسمّونه “محادثات”، كما يَعبث ـ كيف أقول؟ ـ ضبعٌ جائع بحِمار وحشيّ تائه!
ولو أنصفوا لقالوا إنَّها “خلوة سياسية”، كتلك المنهي عنها شرعا!
خلوة ذئب كاسر بنعجة تستأسد على شعبها في الداخل انتفاخا!
يا شعوبا طال ضعفها أو استضعافها، أبشري: فإنّ لديك ومعك وفيكِ، عدا الأقيَال وأرباع الرجال وأشباه الملوكِ!
ولكن يا شعوبا لم تُعدَمي رجالا ولا أبطالا، استيقظي واسعدي، في كل قطر، وأنتِ تعْطين القوس غدا باريها!
*
لئن بَنتْ شعوب الغرب جزئيا دنياها العامرة على رزق الآخرين النائمين عنه، فقد راعت سُنن الله تعالى في نصيب مدنيّتها الداخليّ.
وما استوى لديها صرح عمراني – مع تيهِها – إلا وهي تُحكِم البناء، فتحرّرَ في ربوعها مواطن وظهرت فيها ثورة صناعية واستقرّ بها نظام سياسي فكثر عندها نِتاج!
لقد أتقنت تشييد سفينتها المجتمعية عندما وضعت قِطعها في الأمكنة المناسبة لها: فالأسس أسس والعجلات عجلات والبطارية بطارية والأبواب أبواب والمحرّك محرك والمقود مقود وخزان البنزين خزان..
كل جزء في وظيفة لا يحيد عنها ـ في غير نقصان ولا زيادة.
من رأس الدولة إلى الإسكافي أو الكنّاس، مرورا بالمدرّس والمهندس والطبيب والجنديّ والشرطي – كلّ، بكرامة وقناعة، في نسق يعملون!
*
أمّا في بلاد الاعتلال والاختلال، فإنّ بعضنا يرفض استنكار وضْع حلاّقة أو رقاص في مجلس “استشراع” – أو تشريع، بلغة الغافلين!
A Allah la législation, a l’homme la légisfaction
ثم يستغرب الناس تكليف طالب جامعي بوزارة الثقافة – لا يكفي لتوليها – لو كانت الدنيا دنيا – ليسانس مشفوعة بإتقان شطحات في “دار ثقافة”!
لأجل ذلك، يفرّ من بلادنا الطبيب في زورق قد لا يوصله إلى سواحل أوروبا، فهو يفضّل العمل ممرّضا فيها على الشغل المحبط في الديار – إن لم يسجّله في ما قبل التشغيل تلميذ فاشل في التعليم المتوسط!
*
في بلاد “الميكانيك المجتمعي”، لا يدخل الطالب كليّة الطب ليغتني بسرعة، ولا كليّة الحقوق ليصبح قاضيا يُرعب المستضعفين ويسجن!
بل السياسي لا يلج هناك حلبة الانتخابات كي يخرج من “الوحل” ـ كما يقال اليوم في الجزائر الجريحة!
لقد رأى أهلنا كيف يستحل البرلمانيّ المرتّب الدسم وهو نائم في فندق الأوراسي، إلى أن يُشهر سلاحه في دوّاره أو يتطاول على شرطيّ مرور، بدعوى تلك الحصانة التي ينبغي إلغاؤها غدا ـ على الأقل في شكلها الشارعي، كي لا يكون للمسؤولين إجراءات محاكمة تمييزيّة!
*
كم تردّدَ في معاهد التسيير العالمية اسم ماصْلو الذي تحدث عن حاجات العامِل الكبرى ـ لا سيما اشتياقه إلى “تحقيق الذات”.
ولكن سيدنا يوسف سبقه إلى ذلك وهو يقول لملك مصر: »قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم« ـ لا أن يجعله بوّابا في قصره!
بل الساعة تقترب عندما يُسند الأمر إلى غير أهله!
*
لا خير في ثورة سلمية لا تُحدث سلاسة “الميكانيك المجتمعي”، فيرجع إلى الأمّة توازنها ـ عضويّا ووظيفيّا – ونعيمُها المعيشي، فتنطلق في فعالية تعمر الأرض وهي تسعى لِلجنة.
يومئذ يسعد المسلمون من جديد بفضل الله!
*
لم يكتفِ الغرب بوضع الطاقات في أماكنها. فقد راح يضيف إلى ذلك مؤسسات قويّة – على مستوى الهيئات والآليات – فاستغنى بهما عن القيادات الاستثنائية إلا أيّام العواصف أو الزلازل السياسية.
و لم يكونوا في موقفهم هذا مُبغِضي نوابغ ولا خائفين من طغيان عباقرة.
فما الحاجة إليهما و”السيارة المجتمعية” تنهب الأرض نهبا والطريق منحدَر وخزّان الوقود يطفح بالبنزين الممتاز؟
أما عند المسلمين، فمِثل تلك “السيّارة” متهالكة والمسلك عَقبة والمازوت يتقاطر منها – ولا تسأل عن سياقتها عادة بدون رخصة!
*
من هنا احتاجت الأمّة إلى قيادات استثنائية تأخذ بيدها إلى برّ القرآن بعد الميزان، فتختصر لها طريق الجنتيْن ـ هنا وهناك!
كم انتظر الشعب مسؤولين يعيشون مثله، وهم يعافون القصور الرئاسية والملكيّة وفيهم مثلا من يحيل “المرادية” مُسْتشفى يُخصّ به مرضى السرطان!
قيادات لا تـُركِب على ظهور أبناء الأمّة قريبا ولا صديقا!
و من هنا يتمّ “الاتقاد المجتمعي”، فلا يُضرِب طالب عن الطعام وهو يعلم أنّ الرئيس يأكل ممّا يأكل الناس – بعيدا عن تسوّق الخدم في محلات فوشون أو الشانزيليزي!
إنّ “التوَتر” الذي رآه المفكر مالك بن نبي مِحْراك حضارة قد ينتشر أفقيّا، بينما الاتقاد الاجتماعي يفعل مفعوله عموديّا، فيَسْتشْرع القائد بالسّلوك النبويّ الوضيء قبل الإقلال من إعطاء التعليمات!
فما أروع السّيرة البهيّة في القرن الحادي والعشرين – في تواضع المأكل والمسكن والمركب والموكب!
ومن هنا أوتي جزئيا الرئيس الطيّب محمد مرسي!
*
مرسي الذي غدر به السيسي.
فأيّ شرَف عسكري لدى شخص عضّ يد الرجل الذي رفعه مقاما عليّا؟
يا سليل نظام لم يستردّ سيناء قتالا: لو كنتَ صادقا في إنقاذ مصر لما تحيّزت إِلى فريق قرّبته منك مناصِب، ضد فريق أرسلتَ به بعد إشراق “شمس” إلى الغياهب!
لقد كنتَ في موقفك الانقلابي في جويلية 2013، قاضياً من قضاة العالم الثالث، ولم تكن حَكما.
ولمصلحة مَن تسيء إلى جيش مصر الذي غفر له الناس سوابقه وهو ـ بإكراه أو باختيار ـ يواكب ثورة الشعب في 2011؟
لا شك أنّ مرسي المظلوم ارتكب أخطاء سياسية، ولكن الانقلاب الانحيازي مليء بالخطايَا!
*
في بلد مفتقد الشرعية أو مزيَّفِها ضمن العالم الثالث، قد تضطرّ الأشبال العسكريّة إلى تفعيل غيرتها الإيمانية والوطنية، فتنقذ الشعبَ ـ دقيقة من نهار ـ من سوء الافتراق والبلدَ من الاحتراق أو الاختناق أو الإغراق!
أما في وطن يتمتع بسلطة شرعية منتخبة ـ كما هو الأمر مع مرسي ـ فإنه لا يليق بالجيش، أمام فرَقاء متشاكسين، سوى التوسّط التقني الميداني المتوازن بينهم، إلى أن ييأس خصوم النظام الشرعي من الاحتماء بالدبابة وتجتاز السلطة الشعبية حاجز الخوف من العودة ثانية لِلصندوق الفيصل!
وفي هذه الحالة أو تلك، يعود العسكر سِرَاعا إلى العرين يتصيّدون العدو الخارجي الغريب!
ذلك أنـّه ليس من مهام الضبّاط المصريّين ـ أو غيرهم ـ الانقضاض على منتخبي الأمّة المختارين شعبيّا اختياراً حرّا أو الحلول محلهم!
ألم يروا كيف ضحك الناس عليهم وعندهم الأمَة تلد ربّتها!
وزيرُ الدفاع يعيِّن “الرئيسَ” المؤقت!
“رئيس” جديد، اختير لقلبه الخائف ضمن أعوان مبارك الدستوريّين الذين يسمّون قضاة وما هم بقضاة. إنْ هم إلا مقضِي بهم!
(Juges? Non! Jugeurs!)
*
فأيّ انقلاب هذا الذي يزكّيه زوراً مسؤول أزهريّ يُعدّ بعض مثالب الرئيس المخلوع عام 2011؟
وأيّ تغيير ثوري هذا الذي أيّده ابتداء حزب النور ورئيسه يتخندق ضد أصحاب له في الطريق وهو يطأطئ رأسه خلف ممثل الكنيسة؟
*
إنّ المرء يكاد يجزم أن جنرال مصر الأوّل لم يُعلـََّم كيف امتنع جيش فرنسا عام 1968 عن الانقلاب على ديغول، رغم أنّ باريس والحواضر شُلت في أواخر ماي بفعل تمرّد طلبتها وعمّالها.
لقد كان الجنرال السفاح ماسي مطلوب الودّ بـِبادن بادن، ولكنه كان عند قومه “جمهوريا”، فلمْ تحدّثه نفسه بإمارة استيلاء – كما يقول الماوردي.
ولكن علامَ العتاب على عسكريّ اجتمع في قلبه حبّ جمالِهِ عبد الناصر والولاء لأمريكا؟
يا “سنوات خداعات يُصدَّق فيها الكاذي ويكــــذَّب فيها الصادق”!! هل جاءك نبأ الشيوعيين و”الميوعياّت” وهم يؤيدون الانقلاب في مصر بعد أن التقى في قلوبهم بغض المجرم بوش وتأييد بعض أصدقائه في الجزائر؟
وأنت يا بقايا كمب ديفد ـ سمت نفسها معارضة ـ من يشعرك أنك أصبحت في دور حمّالة الحطب، أكثر حرصا على الديمقراطية من الفرنسيس الذين امتنعوا عن قلب نظام حُكم هولند، رغم فقدانه ثقة نحو أربعة وثلاثين مليون ناخب حسب استطلاعات الرأي في ربيع 2013، من أصل نحو ثلاثة وأربعين!
*
إن المنصِفين من الناس لا ينتظرون من “الإخوان” إلا الإصرار على إبطال المظلمة – في غير فتنة مُضِلة ولا مسكنة مُذِلة.
فإراقة دم الشعب البريء تُغضب الله تعالى وتمدّ النظام الظالم بالسِّيروم!
وابتعدوا نهائيا عن البكائيات فتحْفظوا دمْعاً زانه القترُ!
حتى إذا سمعتم نشيجَ حرائِركم في الدّجى، ازددتم عزما، كله توكل، على استرجاع الحق بالحشد المطمئن أو بانتخابات مقبلة..
*
كم استغرب بعضنا موقف “إخوان” أيّدوا بالقول والعمل انقلابا آخر عام 1992 وهم اليوم يستهجنون التدخل الأخرق الذي قاده ذلك الجنرال المصري ـ بعد استغلال فقر البلد وأخطاء سلطوية كان فيها الإخوان مخطئين غير متعمّدين، لا خاطئين!
فهل أصبح الانقلاب عندكم، في الجزائر، مثل النسِيء تقبِّحونه عاما وتحَسِّنونه عاما؟
يا أصحاب الماضي الدعوي المستطاب، إن لم يكن في الأمر إكراه، فهل هي ـ بالأمس ـ الحسابات الدنيوية التي أدخلت بعضكم مطبخ القصر أم إنَّه ـ اليوم ـ نوع من الهيام الفئوي الذي يكاد يقترب أحيانا من الوثنية السياسية؟
*
يا ضحايا صيف 2013 السياسي بمصر، لا تحزنوا كثيرا: إذا وهَنَ منا سيّد قام سيّد…
و اسألوا تاريخكم مع عبد الناصر أو السادات:
“فمَا مات مظلوم ولا عاش ظالم”!
أحمد بن محمد
10 جويلية 2013
المصدر: يومية الشروق الجزائرية