لم يفلح الفكر الغربي كثيرا في تفسير أصل نشأة الدولة التاريخية الأولى. فقد تاه في ذلك بين نظريات العقد الاجتماعي والتطور التاريخي والصراع الطبقي…
وكيف لا يَضيع بين تلك القراءات وهو يبنيها على تخمينات حول وقائع لم يرْوِها تاريخ.
لأجل ذلك لا يجد المسلم إجابة شافية في مثل هذه الغيبيات إلا من خلال الاستنارة بالوحي الجليل.
ورضي الله تعالى عن ابن عباس وهو يسبق الذين جاؤوا من بعده في الوقوف على بعض أنوار الآية 213 من سورة البقرة: “كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليَحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه”.
*
إنّ أوّل كيان سياسي عرفته البشرية في صبحها لم يكن شأنا بشريا بقدر ما كان تدبيرا ربانيا، رحمة بالعباد، وقد أصبح سوء الاختلاف يتنافى مع ضرورة العيش الآمن الهنيء.
فقد كانت هذه المسألة “التأسيسية” تنظيما متجددا بقيادة النبيـّـين الكرام ـ ولم تبدأ انتـظـَاما بين رعيّة ومَلك، ولا بين جزء من الشعب من هنا وجزء من هناك.
وهي تنظيمات “ناسيّة” أفضت إلى الإرادة الشعبية في أمور الشأن العام.
رَبُّ قيّوم وأنبياء مهندسون وشعوب حاكمة: بمثل هذا الهدى كانت البدايات السياسية الآدمية.
فالدولة، من منظور قرآني، ربّانية المصدر، نبويّة البناء، بشريّة الممارسة.
وما لمصِـير الدولة ألا يكون ـ في الأصل ـ خيرا وهي بهذا المسِـير المحْـكم الحكيم؟
ولكن ما أكثر ما بدّلت شياطين الإنس هذه النعمة السماوية نِقمةً أرضية!
فعلى طول القرون الخوالي راح الطغاة ينقلون مفهوم الدولة من “ضرورة” إلى “ضاروراء”!
*
ولم تنجُ من هذا المسخ إلا مجتمعات قادها أنبياء معصومون أو خلفاء لهم راشدون ـ قبل أن ينجح الغرب ـ فكرا نخبويّا تحريريا وممارسة جماهيرية طويلة ـ في القضاء ـ داخل دياره ـ على الطغيان.
ذلك أنّ المسلمين أنفسهم لم ينعموا بالحرية القرآنية والتكريم النبويّ والرّفق الراشدي إلا بضعة عقود من الزمن قليلة تشبه دقائق من نهار، راح عشرات الحكّام الظلمة يحيلون نور صُبحه الأبلج ليلا سياسيّا واصبا!
إن حرية عباد الله هي الأصل، فما للدولة ـ عندما تشطط ـ أن تنافس الألوهية الكريمة في تعبيد الناس لغير الله الجبّار؟
ذلك أنـّه لا خير، بمشرق أو بمغرب، في دولة تشبه السجن الكبير.
الحكام فيها أصنام.
والجباية بها متعـسّـفة في المنبع، مُترفة أو غير مرِشّدة في المصبّ…
والقاضي في مقاضيها عُـنيتر، لا يقبل من المستضعف الواقف أمامه إلا عبارة “سِـيد الريّس” ـ ولو درى المسكين لما تمسّك بها: فـ”السِيد”ـ بالكسر ـ هو على الخصوص مجرد ذئب!
بل لفظ “السََّيد” ذاته ـ بالفتح ـ يُطلق على المسنّ من المعْز ـ فاعتبروا يا أولي الكِـبْر!
وصاحب البذلة الرّسمية في تلك الدولة يظهر، أحيانا كثيرة، جلادا صغيرا أو كبيرا، لا يكاد يضع شماله على خدّه الأيسر كي يتلمس آثار صفعة تلقاها من أحد كـُبرائه حتى يرفع يمناه إلى خدّ امرئ جرّأته عليه الأوضاع الجاهلية المائلة المُميلة!
ضعُـف الضارب والمضروب!
*
كل ذلك في سلسلة حلقات القهر التي لا تكاد تنتهي: انطلاقا من كبير العولمة الذي يقصف البلدان ويقتل الشعوب ومرورا بالاستعمار الداخلي الذي يَسترقّ ويسْرق، وانتهاء بالزوج، الخوّار في الشارع المستضبع في البيت، وهو ينتقم من وضعه المزري عبر امرأته التي يضيف إلى بؤسها المعيشي تلك اللـّكمَات التي تتسبّـب فيها ملوحة طعام أو سوء كيّ قميص أو تأخـّرُ مرتـّب هزيل جعل الجيب قـَفرا على فـَقر!
*
لقد بالغ الذين قالوا إنّ هذا الشعب أو ذاك عنيف.
ولو أنهم أنصفوا لقالوا إنـّما انسلخ الشعب المتمرّد على الباطل من العنفوان الأصلي إلى العدوان الطارئ.
ذلك أنّ الطاقة الحيوية الكامنة فيه قد تلاشت، بفعل القهر العام المتنوّع، عُصابا أو ذهانا، فأصبح الفرد منه لا يطيق نفسه، بحيث إنـَّه يسبّ في مفترق طرق ويغلظ القول في مكتب إدارة ويُشهر سيفه في ملعب كرة، إلى أن يقتل جدة لم تعطِه من مدخرات بائسة دراهم معدودة لشراء غرامات من الهيروين!
ثم يسأل الناس عن الانفصام بين السلطة والأمـّة!
*
عندما يستيقن الإنسان أنّ الدولة دولته، وأنـّه فيها غير مسُود، سيتقلص الاجتراح الفردي ـ كما انتبه لذلك الأمريكان ـ ويتضاءل الانفلات الجماعي ـ كما عاشه قديما الفرنسيس.
وحينئذ لن تبكي أمّ على فلذة كبد شقـّت عباب البحر فرارا من “الموت” إلى الموت!
من الموت البطيء في قبر الحياة إلى قبو الموت المحتمل!
ولا وجود بعد ذلك لنـَشِــيج أبٍ فقير أو مسكين وهو يرى مذعورا جسد ابنه الوحيد متدليّا من غصن شجرة قرب الكوخ العائلي الخانق!
ولا اقتتال سياسيا بعدها ـ الرابح فيه خاسر ـ بين أخ وابن أمّ في أدغال شجْراء أو في وديان جرداء، يبحث أحدهما عن الآخر، دون أن يتعارفا ـ يا حسرة عليهما ـ كأنـّهما، بالتناوب، الذئبُ الكاسر يطلب ضحيّـته حثـيـثا!
*
أيها الناس، إنّ الناس لا يطلبون القمر.
ولا يريدون السّـكن الحرام في الأحياء “الرّاقية” ـ لولا أن تباع المخدرات فيها وفي غيرها بالكيلوغرام!
إنهم يبحثون خاصة عن عهدٍ، السيدودة فيه للمحكوم “المخدوم”، وحينئذ يفتكّون ـ اقتصاديا ـ كريم القوت ويـدْلون ـ انتخابيا ـ بآمن الصوت، ولا يلاحقهم ـ سياسيا ـ سوط ولا موت!
*
وقالوا نظامنا جمهوريّ!
بل ردّدها في القاهرة شبه مورِّث مخلوع وفي دمشق ابنُ “بابا” مذعور…
فكـمْ طالت سنوات عهدك، يا جمهورية الولـْدان والإخوان والجيران!
وما أطولك عمرا، أنتِ، يا جمهورية الأخدان والخِلاّن والأعوان!
إنّ غياب آثار حُكم الجمهور أو الأكثرية هو الذي جعل الناس ييأسون من تحصيل حقوقهم بالوسائل العادية الواضحة، فراحوا يفتكونها من حلال ومن حرام، لا يعبأون في ذلك بقانون ولا بتنظيم!
ونظرَ الأهالي إلى من هم فوقهم فوجدوهم أقوياء بما سبقوهم إليه من سلطة أو مال.
ولم يلبثوا طويلا حتى بدأ الزحف نحو دوائرهما ـ ممّا علا شأنها أو هان!
فهذا يلهث وراء منصب رئيس بلدية وذاك يشتري بالسحت مقعدا في البرلمان وذلك يبكي فرحا عندما علم أنـّهم جادوا عليه بالوزارة…
فهل بقي للمرء التبسّم ضاحكا من خاطِـب بنت سأله أهلها بالمغرب عن مهنته فأجاب: أخي من أفراد الشرطة!
ولمثل هذا السبب تعددت هذه الأيام ببلادنا حالات انتحال صفات أو مناصب ألِفَ العباد النظر إليها مفاتيح لمغاليق كثيرة!
لقد رأينا معارضين طال عليهم الأمد وبردت لياليهم، فراحوا يستسلمون أمام أبواب السلطة الوسطى، طالبين دينارها الذي يملأ الجيب وأختامها التي تُـنشِئ العلاقات!
*
أما على مستوى الرزق، فالناس، في ديار التخلف التمدّني، لم يأبهوا للفوضويّ الفرنسي برودون وهو يقول إنّ “المِلكية سرقة”، إذ ردّ عليه لسان حالهم بأنّ “السرقة هي المِلكية”!
كلّ ذلك وقد أنستهم مظالمهم البيوعَ الفاسدة التي يعيها وجدانهم الإيماني ولو أنّ أكثرهم لم يسمعوا يوما بما كتَبه العـَلـَم التونسي ابن عاشور، ولو احتاج إلى تدقيق، حول مقاصد الشرع في المال!
ولم يخطئ الفاروق وهو يُحَـذر من مغبة تداعيات الضيم: “لا تظلموا الناس فتـُـكفروهم!”
*
ولا تسأل بعد ذلك، مثلا، عن الكذب الضريبي الذي أصبح رياضة وطنية، يأتيها على العموم، من برّرها لنفسه بنصّ شرعيّ، مثلما يتعاطاها من لم يكلـّف قلبَه استنباء الحق في الموضوع!
إنّ الناس ليسوا كلـّهم بذلك السلطان المعنوي الذي يفرض عليهم الاستكفاء بالصدق، فيستـنكف الواحد منهم عن التواء في سياسة أو عن تلاعب في مال.
*
إنّ المظلوم الحقيقي لا يسمع إلا صوت الحاجة والعيال أمام عينيه المغرورقتين، في بيتهم القصديري، يشبهون الوحْـمَى وهم من شظف العيش يشتهون حذاء فاخرا أو فاكهة مستوردة، أصبحت عليهم ممنوعة!
يا من سمّوك نيابة عامة! إلى متى والدعاوى تـُحرّك مثلا ضد “سارق” دجاجة بـِليل، بينما يُغضّ الطرف بشأن سارق بنك أو برميل؟
بل عجْـز الأنظمة المختلفة عن إيصال الحقوق إلى أصحابها قد زاد في طينه بلة انشغالـُها بمصالح دوائر أهلها المقرّبة أو الحامية.
فهل سمعتم يوما أنّ شحّ الموارد بالعملة الصعبة قد أثـّر في تـَرف ملِك أو رئيس؟ بل في تبذير وزير أو سفير أو مدير؟
ولكن الناس اليوم غير القوم بالأمس.
فالفضائيات وشبكة أنترنت تحصي الأنفاس على الحكام، في شمال الأرض وجنوبها، وتُطلع الدنيا على مثالبهم والصّوَاب.
وانصرفت الجماهير عن السلطة هنا وهناك، على طول العالم الثالث البائس، لا تلوي على شيء، وهي تبحث، إلى حين، عن حلّ فردي لمشكلات جماعية!
***
نعم، إلى حين!
ذلك أنّ تراكم صوَر هذا الظلم ـ سياسيا وقضائيا واقتصاديا واجتماعيا وإداريا وعائليا ـ جعل التغيير سهلا وقد توسّطهما احتقان كبير كادت تبلغ القلوب به الحناجر!
فقد تفاعلت في اختمار التغيير، داخل بلدان”الربيع البارد”، أخطاء الأنظمة السياسية وخطاياها الأخلاقية، فالتقت الثورة “على أمر قد قـُدِر”.
ولقد كثـُر المظلومون، في تونس أوّلا، حتى صار انتهاء عهود القهر والاستكبار أمرا سُننيّ المآل ـ ولله الحمد ـ ميكانيكيّ التحقيق، كان كافيا في تحريك عجلته الأولى عربة خُضروات أحد الشبان الفقراء رفضَ الطغيان اقتياته بها!
ألمْ تر إلى أنانيّة المفسدين مع المساكين كيف يروي القرآن المجيد إحدى صورها: “وكان وراءهم مَلك يأخذ كلّ سفينة غصْـبا”؟
*
إنّ كثرة المستضعفين قد شابها تعدّد فئاتهم حتى إذا اندلعت الثورة السلمية أخذت زخرفها المتنوّع ـ مشارب فكرية وفئات اجتماعية!
إنـّها فسيفساء ثورات شملت مختلف ألوان الطيف السياسي، بل اتـّسع صدرها في مصر لمسلم ولقبطيّ.
غير أنّ جمال ثورة “طـيْـفية” ـ متراحمة ـ لا يعني إنكار هيمنة لونها الأخضر الفاتح!
***
لقد أثبت التاريخ ـ قديما وحديثا ـ أنّ الأمّة لا تتفجّر طاقاتها إلا بالإسلام بطاريةَ طاقة ضد العدو الخارجي ومقـْودَ حياة في الداخل.
فهو المولـّد الكهربائي الذي يشحذ الهمم ويذلـّل الصعاب أمام العدوّ الطامع أو الحاقد، فيندحر الغزو أو يُرحّل الاحتلال.
وهو بوصَـلة الحياة، يعطيها بهجتها عدلا وحريّة ورخاء وتحقيقَ ذات…
لاجرم أنّ حكام ما بعد “الاستعمار” لم يستغنوا عن الدين القيّم أثناء الثورة ضد الإفرنج، ولكن اسألوهم كيف أشقوا الشعوب باشتراكيّـتهم الخاطئة نظريا الكاذبة عمليا، أو برأسماليتهم الأنانية الحارقة!
ثم يستغرب الناس عودة الأمّة أفواجا لمنهاج ربّها الحكيم العليم!
*
إنّ العلماء قسّمواُ الحقوق إلى “حقوق الله” و”حقوق العبد” و”حقوق مشتركة” ـ ناسين بذلك حقوق الحيوان وحقوق الجماد.
ولو كان التصنيف “حقوقَ الحق” و”حقوقَ الخلق” لكان أشمل لهذه الأنواع الخمسة.
ليس عيبا أن يطالب المرء بحقوقه المتصلة بمعيشة أو بهويّة، لا سيما عندما يستقوي في ذلك بالإيمان ـ ناهيك بـِـتـَزامن ذلك مع نصرة الإسلام منهاجا!
*
لقد علـّمنا قرآننا العظيم أنّ العدل ذاته لا يتحقـّق بغير الإسلام: “هل يستوي هو ومن يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم”.
ذلك أنّ القسط كاذب أو ناقص خارج الوحي.
وهذا هو الذي يفسّر عيشة الملوك التي كان الحكام الاشتراكيون يحيونها في قصور لم يعدموا فيها طاووسا ولا غزالا!
وانظر إلى الشيوعيين ـ والشيوعيّات ـ وهم يزعمون الدفاع عن “العمال” وسط كؤوس ويسْكي”الامبريالية”، وبلباس فـُصّل على المقاس في باريس أو روما، يكفي ثمن قطعة منه لإطعام مستخدمي ورشة مدة أسبوع!
ومن هنا تبرز بشاعة فكرة “الطاغية العادل” وهو يجعل الناس المكرّمين ربّانيا مجرد أغنام في زريبة سياسية تتساوى في الحجز والضرب والعلف ـ مما قلّ منه أو كثـُر!
*
إنّ اخضرار فسيفساء الثورات الشعبية، إذا امتدّ بعد المرور بصناديق الاقتراع، لا يعني أكثريّة تستحوذ ولا أقلية تـُقصَى.
ولمثل هذا السخاء السياسي المفعم بالرحمة، فـلـْتـتسعْ صدورنا نحن الإسلاميِّين. أفـَلمْ يكن الشعب المُحبّ، إلى عهد قريب، لا ينادينا إلا بلفظ “الخاوة” النوفمبري الودود؟
فمتى يأتي تغيير حقيقي آمن تعقبه “دولة الألباب” ـ يلتقي فيها التنوّع الفطري ـ وهي تكنس الأرضية الجاهلية تمهيدا مَرنا لوضع أعمدة “دولة الكتاب”، حيث إرضاء الملِك القدّوس السلام والرّفق بالأنام؟
اللهم فـَرَجك القريب! يا قهّار يا مجيب!
أحمد بن محمد
18 جوان 2013
المصدر: يومية الشروق الجزائرية