لقد أقام النظام الجزائري وتوابعه السياسية وامتداداته الإعلامية الدنيا ولم يقعدها عندما استنجد الشعب الليبي، وطالب بتغطية جوية تنقذه من إبادة مؤكدة على يد آليات وكتائب القذافي، فاتهم الشعب برمته بجرذان النيتو، وبالعمالة لصالح القوى الصليبية، والقاعدة والصهيونية و…كل نقيض للنقيض. ولطالما تشدّقت المجموعة الحاكمة في الجزائر بمبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول وبالأخصّ عندما قامت الثورة الشعبية في ليبيا وسوريا ضد الطغاة، على الرغم من تعرّض الشعبين الشقيقين الليبي والسوري إلى الذبح من طرف حكامهما، وذهب جنرالات الجزائر إلى حدّ دعم النظامين القمعيين في طرابلس ودمشق سرًا وعلنًا باسم رفض التدخّل الخارجي، وبدعوى ‘عدم الاستعانة بالأجنبي في محاربة الشقيق’، أي من منطلق ‘أخلاقي ومبدئي’.
ثم جاءت قضية التدخل الفرنسي في مالي، فأطربنا النظام الجزائري ومن لفّ لفه بمشاعر الوطنية والسيادة وما إلى ذلك، وتعددت تصريحات الساسة، من وزراء وسفراء ورؤساء أحزاب، في تعبيرهم عن رفضهم التدخل العسكري في مالي، وعن ضرورة حل سياسي يتم التفاوض بشأنه بين الفرقاء، بل وقد تم استضافة بعض هذه الأطراف المالية المتنازعة، منها حركة أنصار الدين وفتحت لهم مكاتب في عاصمة البلاد. ثم ما لبث أن انقلب السحر على الساحر، ويظهر جليا أن ما يجري الآن مغاير تماما بل مناقض لما كانوا يزايدون به على غيرهم، هل تغيرت قواعد ‘اللعبة’، أم أن الأمر ‘إخراج إعلامي’ لطواحين الهواء، لم يكن يتعدى عتبة التصريحات، سرعان ما تبخرت تحت ضغط وقرارات أصحاب الشأن والهمة الحقيقيين، فسقطت ورقة التوت لتكشف عورة التابع وخضوعه للسيد الذي يأمر فيطاع، ويبن أنه عند لحظة الجد، تخرس ألسنة الزيف ويبلع القوم ‘وطنيتهم’ وتغنيهم بالسيادة. والملفت ككل مرة، طبق القاعدة المتبعة، يكون ‘الأجنبي’ هو دائما من يفضح عبثية وسخافة طواحين ‘السيادة’ الخطابية، ويمرغ أنوفهم في الوحل، ليطلعنا عما حاول هؤلاء السماسرة إخفاءه، دون أن يعير لهم أي اعتبار، أو يكلف نفسه أدنى جهد ليحفظ لهم ماء الوجه.
مع الأيام تبين أنّ النظام الجزائري لم يكتف، عند ساعة الجد التي قررها غيره، بمباركة هذا التدخّل، بل ها هو يساهم فيه علنًا بلا خجل، وأول مساهمة له جاءت مباشرة بعد توجيه وزير خارجية فرنسا فابيوس أمره يوم 13 لوزير خارجية الدولة ذات السيادة بغلق الحدود مع مالي، ثم سمعنا في يوم الغد، 14 يناير، أن الجزائر أغلقت الحدود بكل سيادة! ثم جاء دور الرئيس هولاند ليطلعنا بخبر ‘اليقين’ أن الرئيس بوتفليقة هو من وافق على طلبه بفتح الإقليم الجوي الوطني، ووضعه تحت تصرف الطيران الحربي الفرنسي من دون شروط،’ليؤكد بذلك ما تكتم عنه النظام الجزائري الغارق في ترتيبات استدامة رئاسته من خلال تجديد عهد رابعة أو تمديد عهدة رئاسية ثالثة إلى سبع سنوات، وهو مستعد لبلوغ هذا المرام، الذهاب أبعد، تصل إلى حد مقايضة مصالح البلاد، ورهن سيادته بما يتعارض حتى مع دستور البلاد الذي يمنع أي تدخل للجزائر في شؤون دولة أخرى، وفسح مجاله الجوي لطائرات أجنبية معتدية على دولة شقيقة. والغريب، إن كان ثمة غرابة، أننا نجد كالعادة من يحسن لعبة تربيع الدائرة في عملية تبرير العبث، على غرار ‘الناطقين غير الرسميين’ الذين يعللون بأن الجزائر ‘لا تملك أي خيار’ في السماح للطائرات الفرنسية باستخدام أجوائها في حرب مالي، ‘في إطار التزام الجزائر بالقرار الأممي رقم 2085 القاضي بتقديم تسهيلات عند نشر قوات عسكرية في البلاد’ ونشهد هنا الفرق بين عقلية وذهنية ‘الخادم’، وموقف الدولة ذات سيادة، مثل تركيا، التي منعت أمريكا وحلفاءها من استخدام مجالها الجوي في الاعتداء على العراق رغم كونها عضو في الحلف الأطلسي.
لم يعد لا سرا ولا مفاجئا، لقد وضعت فرنسا الجزائر، من خلال حكامها، في ورطة حقيقية، وأدخلتها في حرب لا تعنيها بل تزج من خلالها البلد في محاربة أشقاء والمشاركة في إبادتهم، مما يترتب عليه عواقب جمة، ومخاطر لا أول لها ولا آخر، الأمر الذي يثير ريبا واستنكارا وسط الشعب الجزائري وكلّ قواه الحيّة، ويدفعها باتجاه العمل من أجل رفض هذه الممارسات الغير مسؤولة ورفض سياسة نظام الفساد والاستبداد الذي تحوّل إلى العمالة الصريحة للقوى الاستعمارية بطريقة مفضوحة. وفي خضم هذه التطورات الأخيرة أصبح المرء يتساءل هل بات النظام الجزائري يمثل في حرب فرنسا على مالي ما كان يمثله نظام برويز مشرف في حرب أمريكا على أفغانستان؟ ووجه الشبه هنا يجد ما يعززه في ذلك التطابق بين علاقة مخابرات باكستان المريبة والمعقدة مع ‘الجماعات الإرهابية’ المختلفة، كما هو الأمر بالنسبة للمخابرات الجزائرية مع ‘الجماعات المسلحة الإسلامية’.
ومصدر القلق هنا أن إذعان النظام الجزائري لأوامر فرنسا باستخدام مجالها الجوي دون قيود او شروط، من شأنه أن يفتح الباب واسعا أمام تدخل ليس الطائرات الفرنسية فحسب، بل لكافة أنواع آلياتها المدمرة في الأراضي الجزائري، بحجة ملاحقة إرهابيين، وقصف العمق الجزائري وتقتيل مواطنيها، مثلما تدخلت طائرات بدون طيار أمريكية لتقتل الأبرياء في الأراضي الباكستانية، في حربها على ‘الإرهابيين الأفغان’، ليتبين لاحقا رغم محاولات طمس هويتهم، أن ‘الإرهابيين’ هم في واقع الأمر أطفال وشيوخ ونساء، ثم ‘تتبرع’ عندئذ خزينة أمريكا بكل سخاء، فتنفق بضع مئات من الدولارات عن كل ضحية من ضحايا ما أصبح يطلق عليهم اسم الخسائر الجانبية.
أليس الهجوم الأخير من مجموعات ‘إرهابية’ على القاعدة الطاقوية بعين أمناس إلا إحدى تجليات هذه المخاطر؟. ورغم أن هذه العملية لا يزال من السابق لأوانه الإحاطة بكل جوانبها وحيثياتها، ولا يزال يكتنفها الكثير من الشكوك، خاصة حول هوية مدبريها الحقيقيين، حيث ذهب العديد من المحللين والخبراء العارفين بالمنطقة، أن عملية عين أمناس، يشتم منها ملامح لعبة دولية قذرة، من المحتمل جدا، أن تكون جهات ذات نفوذ، خاصة في مجال استغلال طاقة ومعادن هذه المنطقة التي تبين أنها تزخر بها، أن هذه الجهات تستغل ‘مجموعات إرهابية’ جاهزة التنفيذ، في عملية خلط الأوراق قصد التكتم التام عن الرهانات الطاقوية (النفط والغاز) على وجه التحديد، التي تشكل عصب هذه النزاعات، من خلال مثل هذه العمليات السينمائية لتدويل الأزمة وتشابكها، وتبرير تواجدها من أجل ‘حمايتها’ للمنطقة. ومما يعزز هذا الطرح أن هذا الهجوم ‘الجريء’ يقع لأول مرة في إحدى القواعد النفطية الأكثر حراسة، مطوق من قبل آلاف عناصر الجيش الجزائري وشركات أمنية خاصة، تضم آلاف الحراس، يُديرها جنرالات، سابقون و حاليون، بالتعاون مع شركات أمنية غربية، مما يثير تساءل المواطن الجزائري العارف بطبيعة المنطقة وحساسيتها، كيف يمكن لعشرات المقاتلين الوصول إلى هذه المناطق المطوقة من كل جانب والمشكلة لعصب اقتصاد البلاد، ثم يأخذون رهائن غربيين في عليمة لم يسبق لها أن وقعت في ذروة أيام ‘الإرهاب’ التي شهدتها تسعينات القرن المنصرم، مما يثير شكوكا حقيقية حول احتمال تواطؤ من جهة أو جهات داخل السلطة الجزائرية، لحسابات محددة، هذا بالتزامن مع التدخل الفرنسي في مالي، الذي كان يحتاج هو الآخر إلى دعم غربي وإفريقي، تأخر تحقيقه حتى جاء ‘الإرهاب الإسلامي’ مرة أخرى، في المكان والزمن المناسبين، في عملية هوليودية محبكة، فيحقق لفرنسا مبتغاها.
قد يرد البعض أن كل ما سلف ذكره مجرد تخمينات واتهامات لا تقوم على أي دليل. والموضوعية تقتضي الإقرار بأن من يذهبون هذا الرأي مصيبون إلى حد ما، لأن الصورة الكاملة لم تتجلى بعد، لكن هنا سؤال أو تساؤل مطروح، أليست طريقة تسيير شؤون البلاد المصيرية في غياب بل وتغييب المواطن وحتى الطبقة السياسة وأصحاب الشأن في عملية اتخاذ القرار، وبدل تنوير الأمة وإحاطتها حول ما يجري من عظام الأمر، تقوم السلطة في كل مرة بالتعتيم والتضليل وتشويه الوقائع للتستر على أجندة غير معلنة، أليس هذا السلوك هو ما يفتح الباب أمام هذه التساؤلات ويزيد من ريب المواطن، خاصة وأن هناك سوابق عديدة، بالإضافة إلى فقدان الثقة بينه وبين السلطة الحاكمة التي تزعم كذبا أنها تمثله؟.
هذه الهوة هي التي تجعل المواطن يرفض أن يقوم نظام فاقد لشرعية حقيقية، برهن مصيره وسيادته ويورط البلد في حرب ليست حربه، ليكون حطب هذه الحرب، وتجنده في صفوف فيالق هولند لمقاتلة أبرياء لا يعلمون حتى لماذا يقصفون بالطائرات التي تحلق وتتزود بالوقود في سماء بلد شقيق (بما يذكرنا بما قامت به فرنسا الاستعمارية من تجنيد الانديجين في حروبها، سواء في الهند الصينية أو ضد ألمانيا النازية)، كما أن المواطن لا يثق بالحجج ‘النبيلة’ التي تسوقها فرنسا الاستعمارية في تدخلها في أزمة تعني أولا وأخيرا الشعب المالي بمختلف فئاته المشكل للنسيج الوطني، الوحيد المخول بتحديد مصيره وخيار ما يمكنه من الخروج بحل سياسي مرضي لكافة الأطراف.
إن مثل هذه الوقائع الخطيرة والمتتالية التي تخوّل فيها هذه السلطة نفسها الحق في رهن خيرات العباد وتحديد مصيره دون علمه وعلى حسابه، تقدم خير دليل على خطورة العصابة الحاكمة على المواطن وعلى مصير البلد بأكمله، وتبين أن هذه السلطة غير مؤهلة لا أخلاقيا ولا معنويا ولا سياسيا، للاستمرار في حكم شعب رغم أنفه وفي تغييبه وإقصائه، وحرمانه من تحديد مصيره بعد حرمانه من حقه في العيش الكريم ومن الاستفادة من خيرات بلده ومن حقه في خيار نموذج حياته وتسيير شؤونه.
د. رشيد زياني شريف
عضو المجلس الوطني لحركة رشاد
21 جانفي 2013
المصدر: يومية القدس العربي