قد يعترض الكثير على فحوى هذا التساؤل من أساسه، باعتبار أن مثل هذا الطرح بعيد عن الواقع، ولا يعدو كونه نوعا من أنواع التمني وأحلام اليقظة، ولا شك أن ثمة وجاهة وواقعية فيما يذهبون إليه، غير أن هذا الاعتراض قد يكون في محله لو كانت النهاية المقصودة في ثنايا السؤال، هي نهاية ‘عنيفة’، أمنية كانت أو عسكرية أو حتى سياسية بمعناها المتعارف عليه، لكن النهاية المقصودة في عنوان هذه المقالة ليست كذلك، ولا علاقة لها بما يتصوره أصحاب هذه الرؤية، كما سيتم توضيحه في سياق هذه المقالة. إلى جانب هذا التوضيح الأولي، أرى من الضروري أن أمهد لهذا الموضوع بطرح تساؤلين قد يفرضان نفسهما، قبل الإجابة عن سؤال العنوان:
أولا- قد يرى البعض أن هناك مبالغة مفرطة، إلى حد الهوس بجهاز المخابرات، من خلال تصويره بهذا الحجم اللا محدود، وبتحميله كل هذه المسؤولية، وبناء عليه يذهب هذا الفريق إلى اعتبار مثل هذا التركيز على جهاز الاستخبارات مجرد توهم قد استحكم بأذهان أصحابه. وردا على أصحاب هذا الموقف، أكاد أجزم أنه باستثناء الفئة المشكِلة للنظام الفعلي في الجزائر والمنتفعين من حوله، بمختلف فئاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية الوظيفية، لم يعد أحد من أفراد المجتمع الجزائري، بكافة أطيافه، يساوره أدنى شك، أن الحكم الفعلي في بلدهم، ظل على مر عقود من الزمن، ولا يزال حكرا على عصبة خفية، لا يمكن تعقب حركاتها، تتحكم في كل شيء، وتنفذ إرادتها ومخططاتها من خلال واجهة سياسية لا وزن حقيقي لها، أما لماذا التركيز على هذا الجهاز، فسبب ذلك بســـيط، وهو أن هــــذا الجهاز متواجد في كافة مؤسسات الدولة ويتحكم فيها بشكل مطلق، سواء على المستوى السياسي، في الحكومة بمختلف وزاراتها، أو المعارضة المرخص لها، أو في المؤسسات الاقتصادية والتعليمية والتربوية، كما لا نذيع سرا إذا أشرنا على سبيل المثال والتــــدليل، أن تعيين أي مسؤول في أي منصب سام، لا يتم دون حصـــوله على موافقة هذا الجهاز، ليس على أساس نظافة اليد وما يتميز به من خبرة وكفاءة، بل على أساس مدى ولائه لهذا الجهاز وتقيده بأوامره، وأخطر ما في الأمر أن هذا الأسلوب القاتم الذي لم يستثن ركنا من أركان الحكم يتم دون أدنى مراقبة مدنية ذات خبرة، أو مساءلة، ناهيك عن ردع ممارسات هذه الجهاز ورجاله أو معاقبتهم على تعطيل دواليب الحكم الطبيعي للمؤسسات، وتسخيرها لصالحهم، من خلال تقريب من يواليهم ويخدمهم ومعاقبة من يعترض على تصرفاتهم ويطالب بمساءلتهم. هذا الاحتكار التعسفي المطلق للسلطة يشكل السبب الرئيسي الذي جعل شعوب الأنظمة الدكتاتوريات الهالكة، في تونس ومصر وليبيا، تطــرح بين مطالبها الرئيسية المستعجلة فور تخلصـــها من مستــــبديها، بضرورة حل هذه الأجهزة التي كانت سبب همهم وغمهم، وأساس كل خراب، والأمر لا يختلف في الجزائر التي يوشك الوضع فيها على الانفجار، بسبب وضع هذا الجهاز نفسه فوق القانون وفوق المؤسسات وفوق الدستور وفوق الدولة ذاتها، حتى أصبح يختصر حقيقة الدولة.
أما السؤال الثاني، يقول أصحابه: كيف يمكن الادعاء قرب نهاية هذا الحكم، وفي الوقت نفسه الإقرار بأنه يتحكم في كل شيء، ويهيمن على كافة دواليب السلطة، سواء في الحكومة أو ‘المعارضة’ الرسمية المعتمدة من قبلها، ووسائل الإعلام العمومية و’المستقلة’ التي يدبج خطها الافتتاحي؟ إذا نظرنا إلى المسألة من هذه الزاوية، فلا بد من الاعتراف أن هذا الجهاز لا زال أمامه فعلا عمرا مديدا، اللهم إلا إذا باغته القدر، وهذه مسألة خارجة عن نطاق النقاش، لكن الذي أقصده بنهايته الوشيكة المحتومة، هي نهايته ‘طبيعية’ (بيولوجية)، أي فقدانه المكونات العضوية التي لطالما أسس عليها بقاءه، وهذه الحقيقة قد أصبحت ماثلة أمام أعين الجميع، خاصة بعد أن أدركت جل مكوّنات المجتمع أن المواجهة العنيفة، سواء كانت مسلحة أو صدامية، التي تضع المجتمع في اشتباك معه، تكون في أغلب الحالات لصالح الدولة الجهاز (هذا إذا تجاوزنا الغوص في حقيقة هذا النوع من الصراع والأطراف الفاعلة فيه التي بينت الأحداث لاحقا أنها، إن لم تكن من صنع يده وتدبيره، فهي ليست بعيدة عن اختراقه لصفوفها)، وبالتالي يكون هو المستفيد من الصراع العنيف، كون أن هذا النوع من الصراع يمده بالدعم ‘الإعلامي’ الكفيل بتبرير وجوده وترسيخ قدميه، وفي الوقت ذاته يقوّض مبررات وجود كافة القوى المعارضة له. ولا ننسى أن النظام الجزائري قد وجد نفسه عقب انقلاب يناير 1992 في حرج شديد، في محاولاته تسويق الانقلاب، خاصة وأنه كان يدرك تمام الإدراك بأن هذه ‘الحرب السياسية’ خاسرة، نظرا لإفتقاره إلى الأدوات الفاعلة التي تمكنه من حسمها لصالحه، فلم يجد خيارا آخرا ينقذه من تلك الورطة سوى تحويل طبيعة الصراع، ونقله إلى ساحة يحسن إدارتها ويملك أدواتها، من خلال عسكرة الأزمة والدفع بالبلد نحو حرب قذرة، كلفت الجزائر قرابة ربع مليون ضحية.
لكن بعد مرور عقدين من الزمن، وفي ضوء ما شهده العالم من تطورات جذرية (المنطــــقة العربية على وجه الخصوص) يبدو أن النظام في الجزائر أدرك أن هذه الوسيلة التي طالمــــا استغــــلها وساعدته على ذلك الظروف الدولية، خاصة في أعقاب أحدات 11 سبتمبر (التي امتـــطاها ليعــــرض نفسه شرطي المنطقة)، أدرك الآن أن هذه الورقة قد استنفدت وفقدت مفعـــولها ووهجها، وإحدى المؤشرات على ‘اقتنــاعه’ بأنه أصـــبح خـــارج ‘اللعبة’، طريقة تصرفاته الأخــــيرة في مواجهة الانتفاضة الجمعوية والحقوقية والنقابية، التي أضحت ترعبه وتقض مضجعه، وهي حركة سلمية آخذة في التوسع، تهدد أركانه إلى حد فقدان توازنه.
رغم كل محاولاته المتتالية، عاد الصراع إلى مربعه الأول، أي إلى ‘المواجهة’ التي لا يملك أدواتها ويتخبط خبطة عشواء في إدارتها، ومما زاد من روعه، أن رقعة هذا الصراع المدني السلمي، بدأت تتسع لتشمل شتى أنحاء الوطن، وتنتقل إلى مختلف القطاعات، الأمر الذي يفسر تصرفاته الهستيرية الأخيرة، وما نجم عنها من ارتباك المؤذن بقرب نهايته، من قبيل ما قامت به أجهزته المختلفة من اعتقالات تعسفية طالت في الأيام الأخيرة العديد من النشطاء السلميين، وملاحقتهم قضائيا من قبل ‘جهاز عدالة التلفون’، في محاولة لشلّ حراكهم. يبدو أن ساسة هذا الجهاز بدأوا شيئا فشيئا يدركون أن أنصار هذا الحراك السلمي المتصاعد لم تعد تردعهم أو ترهبهم أساليب الأجهزة المختلفة التي استخدمتها عقودا من الزمن، بل أصبحت هذه القوى النضالية الحية تواجه قمع الأجهزة بدماثة ومصابرة وتحد لم يكن يتصورها المرء من قبل، كمؤشر على انهيار جدار الصمت والخوف، فلا ‘بقايا الإرهاب’ والتلويح به، ولا المجازر والتطرف، عادت حجج مقنعة تثني المواطن عن مواصلة النضال لوضع حد لهيمنة هذا الجهاز.
وما يمكن اعتباره أحد المسامير الأخيرة التي تم دقها في نعش هذا الجهاز، لتنكشف عورته وجرائمه، لأول مرة، على نحو ملفت للغاية، أن هذه الأجهزة الأمنية ‘النظامية’ التي كانت تصاب بالهلع وتشل حركاتها أمام جبروته، بدأت تتحرر من هيمنته، بعد أن ضاقت ذرعا بتصرفاته التي طالما ورطتها في جرائم هي بريئة منها، وتحملت ‘علنا’ المسؤولية عنها، رغم جسامة تبعات مواجهة غضب وسخط المواطنين المنتفضين على تلك الجرائم. وكمثال على هذا ‘التمرد’ غير المسبوق من أجهزة الأمن ‘التنفيذية’ على سطوة المخابرات، ما جاء في تقارير أمنية ومحاضر قضائية، ذات الصلة بقضية اعتقال أحد النقابيين والحقوقيين (ياسن زيد)، وتحميل جهاز المخابرات (الدي أر أس) علنا مسؤولية هذا الاعتقال التعسفي، مثلما يوضحه محضر النائب العام، الذي استند في ذلك إلى وصل يحمل خاتم مديرية الأمن والاستعلامات. ومما يعزز هذا الانطباع، ما صرح به الجنرال نزار، بجرأة غير معهودة منه، عندما حملّ خلال لقاء تلفزيوني بثته إحدى القنوات الجزائري ‘المستقلة’ (النهار)، جهاز المخابرات بقيادة الجنرال التوفيق المسؤولية عما آل إليه الوضع في البلاد، وما اعتبره الجنرال نزار تدخلا لا مبرر له من قبل هذا الجهاز في كل شؤون البلاد. ومن النماذج الأخرى ‘للمتحررين’ من جبروت هذا الجهاز، السيد أويحيى، رئيس الحكومة السابق والمعروف بقربه الشديد بهذا الجهاز، عندما صرح بتاريخ 2 يونيو الماضي بأن المال صار يتحكم في كل شيء بل وتحوّل إلى مال مافياوي، في إشارة واضحة إلى تغلغل الفساد في كل شيء، وعلى رأس ذلك جهاز المخابرات، دون أن ننسى تصريح عضو المجلس الأعلى للدولة (الرئاسة الجماعية التي تم تنصيبها للتغطية على انقلاب يناير 1992)، السيد علي هارون، الذي دعا هو الآخر على هامش مشاركته في ندوة في وهران، إلى ضرورة التمرد على النظام القائم! وما هي إلا أيام قليلة حتى وجه الجنرال محند يعلى، قائد القوات البحرية سابقا، نداء إلى الشعب الجزائري يدعو فيه إلى إحداث تغيير جذري للنظام القائم! كيف يمكن تفسير هذه التصريحات المتتالية من قبل رجال ذوي وزن ثقيل من منظور سلطوي وبهذا الجرأة، إن لم تكن مؤشرات واضحة على انفكاك عورة وروابط الجهاز الشبح الذي ظل عقودا كاملة، جاثما على صدر الأمة.
لقد كانت إذن هذه الموجة من الاعتقالات التعسفية في صفوف المناضلين المسالمين، مناسبة لتتعالى العديد من الأصوات الإعلامية والسياسية والنقابية، بكل شجاعة، لتوجه تساؤلا بسيطا لكنه يختصر في ثناياه لب المشكلة: بأي حق يتدخل جهاز عسكري في شؤون مدنيين مناضلين يمارسون حقوقهم المضمونة في الدستور، ومن خوّله ذلك الحق، ليكيل ذلك السيل من التهم الخطيرة، لمواطنين عزل ذنبهم الوحيد ممارسة حقوقهم المشروعة، وعدم رضوخهم لتهديدات ذلك الجهاز؟ هذا تحديدا ما يريد المواطن الجزائري أن يتوقف بلا رجعة.
إن القراءة المتأنية والموضوعية للحراك الجمعوي المحموم، سواء الحقوقي منه أو النقابي، إلى جانب هذا الكم الهائل من التصريحات غير المسبوقة من مسؤولين كانوا قبل قليل يحسبون على هذا الجهاز الأخطبوطي، يطالبون فيها بالتمرد عليه وبضرورة التغيير الجذري (مطالب كانت تنحصر في المعارضة خارج نطاق هذا النظام)، كلها مؤشرات تؤذن باقتراب النهاية المقصودة في عنوان المقالة، لأن الوضع الشاذ الذي ساد عقودا ليفتك بالبلاد والعباد، لا ينبغي له أن يستمر، وكل هذه الأصوات التي أشرنا إليها تطالب بشيء واحد، وضـــع حد لسيطرة جهاز شبح على الحياة السياسية والمالية والاجتماعــية والأمنية، جهاز يفترض أن تنحصر مهامه في حماية حدود البلد من العدو الخارجي وحفظ أمنه، أي أن يقوم بوظيفته الطبيعية المنصوص عليها في دستور البلاد، لا أن يتحول إلى جهاز هيمنة مطلقة وقمع ضد شعبه بحجج مألوفة عاف عليها الزمن من قبيل ‘المساس بأمن الدولة’، بينما الغرض منها هو إسكات المعارضين والرافضين لاستحكام هذه الأجهزة السرطانية.
حان الوقت ليدرك هذا الجهاز أنه بتصــــرفاته هــــذه وتدخلاته على كافة مستويات الحكم، كان السبب الأول والأساسي في خنق طموحات وآمال المواطنـــين، وعرقلة دواليب الحكم الطبيعي، مما حال دون انطلاقة المجتمع، بما جعله يتخلف عن ركب غيره من المجتمعات التي حققت نجاحات واسعة، وأخرها دول ثورات الربيع العربي، والجدير بهذا الجهاز أن يدرك هذا التحول الكبير قبل أن يباغت بانفجار لن يستطيع مقاومته، على غرار قياصرة مصر وتونس وليبيا واليمن، أو سفاح سوريا التي يستمر نزيفها، وحري بقادة هذا الجهاز الذي سطا على مقاليد الحكم منذ فجر الاستقلال، أن يدرك قبل فوات الأوان أنه ليس من مصلحة البلاد شعبا وأرضا ومشـــروعا، ملاحقة الأحرار الذين يريدون ازدهار بلدهم، ولم يكونوا يوما أعداء للوطن، بل هم حماته ودعامته، كما يجدر بالجميـــع أن يدركوا أن مصلحة الجزائر تقتضي عودة الأمور إلى حالتـــها الطبيعية، أي اضطلاع مؤسسات الدولة بواجبها، بحرية ومسؤولية ومحاسبة، ومن خلال اختيار حر وسيادي للمواطنين دون وصاية من أحد أو إقصاء لأحد، لأن الجزائر تتسع لكافة أبنائها، والحكم فيها ليس حكرا على فئة دون أخرى، مهما كانت اليافطة التي يرفعها هذا الفريق أو ذاك، بهذا فقط ستنهض الجزائر وستواصل مشوارها، ليتسنى لها تضميد جراحها وتعوض عما فاتها. هل من متعظ؟ هل من مجيب؟.
رشيد زياني شريف
1 نوفمبر 2012
المصدر: القدس العربي