صرح وزير المجاهدين، محمد شريف عباس، بأن 95 بالمائة من البرنامج الخاص بالاحتفالية المخلدة للذكرى 50 لاسترجاع السيادة الوطنية ”صار جاهزا”، لكن ما يميز هذه الاحتفالات هذه السنة، إذا تجاوزنا رمزية نصف القرن، هو ذلك الجدل والخلاف العميقين حول مشروع قانون تجريم الاستعمار، الذي أصبح أكثر منه ورقة يتاجر بها، مدا وجزرا، كل طرف لأسباب تخصه بحسب ما يخشاه من انكشاف حقيقة ما جرى في تلك الحقبة التي ظلت مبهمة طيلة نصف قرن منذ استقلال البلد، وأخطر ما في الأمر أن المؤرخين الجزائريين يتحملون الجزء الأكبر من المسؤولية في تزييف ذلك التاريخ وتوظيفه من شتى الأطراف التي تحكمت في مصير البلد، وذلك من خلال موقفهم المريب كونهم لزموا صمتا ‘غير مبررا’ في وقت كان الشعب في أمس الحاجة إلى معرفة جزء من تاريخه، وفهم ماذا جرى، من وجهة موضوعية غير منحازة، في تلك الحقبة من تاريخ بلده، بإشراقاته وتجاوزاته، كباقي الأمم وعموم البشر، وكـأن المؤرخين تشبثوا بموقف يعفيهم من تبعات ‘الحقيقة’ المجردة، ويحميهم من عواقب إحراج أطراف في السلطة. وبينما يكثر فيه الإنتاج الأكاديمي حول هذه الحقبة في الأوساط الجامعية الفرنسية، الموجهة نحو القارئ الفرنسي حول خمسينيات استقلال الجزائر، يتميز الحقل الأكاديمي عندنا بقحط على كافة المستويات، حيث لم يصدر ولا كتاب واحد حول ذكرى 19 مارس 1962، بينما الجامعة تغظ في نوم أهل الكهف، لا محاضرات ولا ندوات، والمفارقة أن هذا يحدث في بلد بنى مشروعه السياسي على الشرعية التاريخية كما يقول أحد الصحفيين مستنكرا.
لطالما تعالت الأصوات من داخل ‘البرلمان’ ومن الأحزاب السياسية لمطالبة فرنسا بالاعتراف بجرائمها إبان الاستعمار وحرب التحرير، لكن لم يصل الأمر يوما أن طالبت السلطة السياسية من فرنسا بشكل رسمي الاعتراف بجرائمها، مما يبين غياب نية حقيقية في تلك الصرخات الإعلامية، ربما ذلك لأن فرنسا الدولة تعلم مدى خواء تلك الصيحات، لما تملكه هي من معلومات حول هوية المطالبين بها، الأمر الذي يفسر تطاولها ومواصلة تصريحاتها المستفزة بهذا الشأن، دون خشية رد جزائري حازم وفعال، من قبيل تصريح ساركوزي من أن بلده ليس معنيا بالاعتراف بجرائم لم يرتكبها، بل قامت فرنسا بما هو أشنع حتى مقارنة بدول استعمارية أخرى كألمانيا وإيطاليا، حيث مرر البرلمان الفرنسي قوانين لتمجيد الاستعمار واعتباره أداة لتحضير أمم بدائية، وفي المقابل يقوم نفس البرلمان بتجريم كل من ينفي جرائم الدولة العثمانية بحق الأرمن، ومعاقبته قانونيا! وهكذا فرنسا تسن قانونا يمجّد الجرائم الاستعمارية في الجزائر، وتدعمه بقانون آخر يجرم من يسيء للحركى، في حين أننا في الجزائر عجزنا عن سن قانون واحد يجرّم الممارسات الاستعمارية في الجزائر! ونظل نتشبث بالفلكلور والقشور في الاستعراضات تخضيرا للذكرى الخمسينية للاستقلال!
وضمن تقاسم الأدوار في هذه الملف لتضليل المواطن وإرباكه، نجد السيد عبد الحميد سلاقجي رئيس جمعية 8 ماي 1945 يدعو الطبقة السياسية والمنظمات والجمعيات الوطنية إلى التجند كرجل واحد لإصدار قانون يجرّم الاستعمار الفرنسي ووجوده بالجزائر، ومطالبة فرنسا بضرورة رفع يدها عن الأرشيف الجزائري المقدر حسبه بـ8 ألاف طن، في حين نسمع وزير المجاهدين يصرح أنه غير متحمس للمصادقة على قانون تجريم الاستعمار، فضلا عن توجيه رئيــــس الحكومة أوامره إلى السيد زياري (مجلس الشيوخ) لسحب ملف تجريم الاستعمار، بل وصل برئيس الحكومة الشـــطط أن اتهم رئيس الوزراء التركي بالمتاجرة بقضية الجزائر، عندما طالب السيد أوردغان من فرنسا الاعتذار عن جرائمها في الجزائر، وكأن مزايدة أويحيى تأتي استجابة حكومية جزائرية مباشرة لما تريده فرنسا من الساسة في الجزائر، لكن هل يملك هؤلاء الذين تحكموا بملف المجاهدين أن يطالبوا فرنسا بالاعتذار والاعتراف؟ وللمرء أن يتساءل، أليس من الأجدر، قبل مطــــالبة فرنسا بالاعتذار وتجريمها، أن يعرف الشعب الجزائري تاريخه بشكل مستقل ومن خلال استرجاع الأرشيف؟ ثم هل يجهل عاقل، من الجهة التي تقف وراء تجهيل الشعب الجزائري بتاريخ بلده، وظلت طيلة خمسين سنة تعمل على صناعة بطولات مزيفة ويشوه أخرى ضمن حسابات سياسية قذرة؟
إن أول نظرة في أرقام المجاهدين، كمجرد مؤشر، تبين الزيف وتفضح المتاجرة بهذا الملف منذ استقلال البلد، حيث تشير مصادر الجيش الفرنسي والجزائري إلى أن عدد المجاهدين عند التوقيع على وقف إطلاق النار، 19 مارس 1962، كان ما بين 10 آلاف و15 ألف مجاهد، ليقفز هذا الرقم غداة الاستفتاء على تقرير المصير إلى 30 ألف، معظمهم ممن كان يطلق عليهم اسم المارسيون، في إشارة إلى من التحقوا بالثورة بعد وقف إطلاق النار في 19 مارس، والآن بعد مضي 50 سنة، وبدل أن يتناقص هذا العدد لأسباب طبيعية، نجد أن المنظمة تزعم أنه يوجد …127 ألف!
هذا التزييف لحقيــــقة المجاهــــدين وعددهم المتضخم بشكل فاحش ومستفز هو الذي جعل أحد القضاة الشرفاء، السيد ملوك، يشكك في الأرقام ويقدم شهادات على تزوير ملفات المجاهــــدين، وتحدث إلى وسائل الإعلام عن عدد من القضاة تحصلوا على شهادات مجاهدين مزيفة، فيهم من كان متعاونا مع المحتل، فكان جزاؤه أن تعرض لسيل من الضغوط من قبل قضاة آخرين وحتى من قبل منظمة المجاهدين الذين نصحوه بالتزام الصمت.
وإذا تتبعنا مسار منظمة المجاهدين، يلاحظ أنه بالإضافة إلى كونها جهازا وأداة في خدمة النظام الحاكم على مر الأزمان، كان همها الوحيد الجري وراء الامتيازات مما شجع على تزوير الشهادات والمتاجرة بها، وساهم في تضخيم عدد المجاهدين المزيفين. هذه المعطيات تبين بوضوح سبب تكثيف جهود المنظمة والوزارة والحكومة وكل الأطراف النافذة لعدم ‘إحراج’ السلطات الفرنسية، كونهم يعلمون أن بيد فرنسا ما يمكنها أن تحرجــــهم به، خاصـــة إذا أفرجت عن الأرشيف المتوفر، وهذا بدوره يفسر عدم تحمسهم الفعلي في المطالبة به رغم كونه جزء من تاريخ البلد.
ومن هذا المنطلق ليس غريبا أن تتبنى منظمة المجاهدين ووزير المجاهدين على الدوام موقـــف السلطة القائمة، والدفاع عن كل ســـياساتها، منها مواقفها المناهضة لشعــــوب بلدان الجـــوار التي ثارت في وجه حــــكامها المستبدين وأســـقطتهم من الحـــكم، من قبيل التصريح الأخــــير من وزير المجاهدين رافضا تسمية انتـــفاضة شعوب عربــــية ضد أنظمــــتها ”ثورة” ، قائلا ”ما وقع في هذه البـــلدان، أن شـــعوبها غارقة اليوم في الأزمة. واللــه وحده يعــلم متى ستخرج منها”!
ثم هل يملك هؤلاء أن يطالبوا فرنسا بالاعتذار، وهم يعلمون أن بقائهم في الحكم يعتمد بالأساس على ساسة فرنسا بالتحديد لعدة أسباب، منها على وجه الخصوص حيازتها على أوراق اعتمادهم، أو إسقاطهم، بمجرد ‘إطلاق سراح’ الأرشيف الذي يبين من هم.
وما دامت الجزائر تخضع لأمثال الشريف عباس وأويحيى ونزار والتوفيق ومن على شاكلتهم، لن يطلب أحد من المستعمر الفرنسي بالاعتراف باستعماره ناهيك عن تجريمه، فلتطمئن فرنسا وتنام قريرة العين، إلى أن يستعيد الشعب سادته وتاريخه، فعندها تتغير الأمور وهو ما تعمد فرنسا على إجهاضه أو على الأقل تأخير حدوثه.
د. رشيد زياني شريف
عضو حركة رشاد ـ الجزائر
27 مارس 2012