تجرّعنا هذه “القابلية للدنية”، في قرار ذواتنا حتى كدنا نفارق الحياة على طعم هذه المرارة المكبّلة للإرادة. وعندما دقّت لحظة التحرّر، حيث استفاقت شعوب عالمنا العربي وقرّرت كسر القيود وتحدّت هاجس الخوف حاملة روحها على كفّها، لتقول “لست كذلك”، مفندة هذا الاعتقاد الكاذب الذي حاولوا غرسه في أعماق نفوسنا بل وفي صبغيات خلايانا، لمّا نهض العربي ليخرس لسان كل من رماه بهذه الفرية، ومن زعم أنّ الفشل عنوانه عربي، وجّهت إلى هذه الشعوب الثائرة شتيمة أخرى واتهاما لا يقلّ شناعة، وقوبِلت هذه الشعوب المتحرّرة بالريبة والتشكيك والتخوين.
وممّا يدلّ على درجة إفلاس الأنظمة الآيلة للانهيار، ومدى الهلع الذي انتابها وهي تشاهد مذهولة حراك لم تكن تتصوّره يومًا، أنها راحت توعز كعادتها إلى كتيبة أقلامها للّعب على الوتر الحساس، واستغلال العواطف الوطنية، فانهمرت أودية من الحبر الدسيس، بأقلام مدمني الخنوع الوظيفي، يحلّلون لنا الوضع، في محاولة يائسة منهم لإقناع “الغاشي” (المواطنون من الدرجة السفلى من منظورهم) بأنّ ما يجري في العالم العربي من “شغب” لا يمتّ بصلة إلى الثورة، بل هو مجرّد “ألاعيب” مدبرة، ومؤامرات تنسج خيوطها القوى الإمبريالية والصهيونية و… ومنفذوها (الشعوب) حطب هذه الحروب ليس إلا، مجرّد رعاع من السذّج الذين يعتقدون زورًا أنهم ثوّار! هذا إن لم يتّهموا بالخيانة والعمالة للغرب الحاقد على “تحررنا واستقلاليتنا”. فالعربي من منظور هؤلاء كائن خامل وفاشل إذا أخلد إلى النوم، وخائن وساذج، لعبة بين أيدي غيره إذا رام التحرر؛ فهو على الجانب الخطأ من المعادلة مهما فعل وأبد الآبدين.
إلى هؤلاء الذين أدمنوا نهش لحم العربي، أسألُهم: قولوا لنا بصراحة وصدق، ماذا تريدون من الشعوب العربية؟ هل تريدون زرع اليأس في نفوسها، لأنّكم تعتبرونها دون مستوى غيرها من الشعوب؟ هل ترونها أضعف من أن تفتكّ حقّها في الحرية والكرامة والسيادة، لأنها في نظركم أدمنت عيش الاستعباد والاستبداد؟ هل تريدون منها أن تعرب عن امتنانها لمن يسومها سوء العذاب؟ هل تعتقدون أنّ الجنس العربي، بتركيبته البيولوجية والوراثية والنفسية، محكوم عليه أن يكون حتما في الاتجاه المعاكس لصيرورة التاريخ؟ هل تريدون أن تشكّكوا في قدراته الفطرية التي حباه الخالق عزّ وجلّ بها، ومن ثمّ تدفعون به نحو القنوط من رحمة الله؟ أم أنّ وراء الأكمة ما وراءها؟
عندما تمكّنت الشعوب العربية بعد جهد وصبر، طيلة عقود من الاستعباد والجور، أن تأخذ مصيرها بيدها لتسقط رؤوس الاستبداد في كلّ من تونس ومصر وليبيا، وهي في طريقها لتلحق بهم رأسي طاغيتي سوريا واليمن، لتكمل بعد ذلك مهمتها في كامل الوطن العربي الجريح، خرجت علينا أقلام التشكيك واحتقار الذات، تغمز في اتجاه الشعوب الثائرة، تشكّك في كونها هي التي أسقطت هذه الأنظمة، وكأنها تجهل أنّ هذه الجهات “المتآمر الغربية” التي ينسب إليها مؤامرة “إسقاط” الأنظمة المتعفّنة، هي نفسها الجهات التي قدّمت الدعم التام بكل أشكاله لهذه الأنظمة على مرّ الأزمان، وهي ذات الجهة التي لم تدّخر جهدًا لإجهاض مساعي الشعوب للتحرّر من قبضة استبداد حكّامها، وهل ينسى أحد أنّ فرنسا على سبيل المثال كانت من أشدّ مساندي وداعمي نظام بن علي، وأمريكا من أشدّ مؤازري نظام مبارك، تماما كما كانت تدعم صدّام قبل ذلك، وهي مَن زوّدته حتى بأسلحة الدمار الشامل عندما كان يخوض حربًا ضدّ إيران أو يقتل مواطنيه في حلابجة.
ألم تكن هذه الجهة التي أصبح ينعتها المشككون بالمتآمرة، هي أكبر رابح من تربّع هؤلاء القادة على سدّة الحكم في تلك البلدان، حيث وفّروا لها كل ما تريده بأقلّ الأثمان دون مراعاة مصالح الشعوب؟ وهل يخفى على المواطن العربي أنّ صوته لم يكن يوما هو مصدر شرعية الحكام في بلده، حيث لم تكن صناديق الاقتراع تعبّر حقا عن إرادة الشعوب، بل إنّ أوراق اعتماد الساسة كانت ولا تزال تُستخرج من باريس ولندن وواشنطن، حيث كان يحجّ إليها القادة لتجديد الولاء والولايات، أو تمريرها إلى أولادهم عندما يهرم القائد، كما كان يرغب إلى ذلك مبارك في توريث جمال، عبر إفادته حاجًّا إلى البيت الأبيض؟ ما الذي تغيّر إذن لتغيّر هذه الدول العظمى مسار تفكيرها وتموقعها، علمًا أنّ تلك الدول لا تتصرّف انطلاقا من دوافع أخلاقية؟ هل فات هؤلاء المشككين أنّ مردّ ذلك التحوّل يعود ببساطة إلى أنّ هذه الدول العظمى قد أدركت أخيرًا أنّ استفاقة الشعوب هذه المرّة جذرية ولن تقبل بأقلّ من إسقاط الفساد مهما كلفها الثمن، فأدركت هذه القوى العظمى من منطلق واقعي، أنّ الحفاظ على مصالحها في هذه المنطقة من العالم يحتّم عليها تغيير الاتجاه وركب قطار ربيع الثورات العربية؟
ما العيب إذا تقاطعت إرادة ومصالح الأطراف، طالما صبّ ذلك في صالح شعوب وطننا العربي؟ وهل من الضروري أن يشكّل تطابق طموحات الشعوب العربية (أو غيرها) وتخلّصها من الاستبداد، مع مصلحة جهات أخرى حتى ولو كانت “استعمارية” حاقدة، خيانة وعمالة لهذه الجهات؟ إذا انتهت هذه القوى الدولية إلى نتيجة مفادها أنّ بيادقها العتيقة قد استنفدت أغراضها وهي آيلة إلى الزوال لا محال، فاستبدلت “الحصان” بحثًا عن استدامة مصلحتها، ممّا يؤكد مرّة أخرى مقولة “ليس ثمة أصدقاء دائمون، بل مصالح دائمة”، هل يجعلنا ذلك نشكّك في نوايا الشعوب العربية ونرميها بالخيانة والعمالة لهذه القوى؟ ثمة في هذا السياق تصريح واضح أدلى به مؤخّرا مساعد وزير الخارجية البريطاني قدّم فيه اعتذاره الرسمي للشعوب العربية على وقوف حكومات بلده المتعاقبة إلى جانب الدكتاتوريات العربية منذ نصف قرن من الزمن، وهو بذلك يعرب عن عزم بلده تصحيح ذلك المنهج، معتبرًا أنّ مصالح بلده سوف تُحفظ في ظلّ الربيع العربي، وليس الاستبداد العربي. العيب كل العيب هو أن ترضى الشعوب أن يمتطيها المستبدّ، أيًّا كان جنسه حتى ولو كان عربيا من بني جلدتها، وتحت أيّ ذريعة أو حجّة كانت. كان حريّ بمن غمز في اتجاه الثائرين، أن يرى في تغيير اتجاه القوى العظمى، نقطة “إيجابية” تحسب للشعوب، وتؤشّر إلى مدى قدرة هذه الشعوب على تحديد مسار التاريخ عندما تقرّر أخذ مصيرها بيدها، فترغم “الجميع” على مراعاة إرادتها وأخذها في الحسبان. الشعوب العربية ليست غبية بحيث تجهل أنّ الدوافع وراء تغيير الغرب حساباته ذات طابع أخلاقي أو إنساني بحت، لكن في الوقت ذاته، لم يكن يومًا من أهداف الشعوب العربية مناهضة مصالح هذه القوى طالما لم يعطّل ذلك مصالحها ويجهض طموحاتها.
لم تعد مجدية هذه الحملة المحمومة التي تزعم أنّ الثورات دبّجت خططها في مخابر السي أي إيه وما إلى ذلك، لأنّ هذه الأجهزة المشار إليها ثبت أنها كانت على صلة وطيدة بالأنظمة الفاسدة التي تطالب الشعوب بإسقاطها، فضلا على كون هذه الأجهزة الاستخباراتية كانت تبذل قصارى جهدها لإفشال هذه الثورات لأسباب لا يجهلها منصف وكانت لها مكاتب معترف بها في جلّ الدول العربية المستبدّة. ألم يضحّي ساركوزي، على سبيل المثال برأس وزيرته للخارجية أليو ماري، التي كانت تدعم نظام بن علي وتمدّه بكل الوسائل، مع الإشارة أنّ تخليه عنها لم يكن بسبب دعمها نظام بن علي، لأنّ ذلك كان سياسة فرنسية رسمية معتمدة سواء في عهد الاشتراكيين أو اليمينيين، وإنما فعل ذلك بسب إخفاقها في استقراء الوضع، مما أحرج فرنسا وأظهرها أمام الشعب التونسي والشعوب العربية عامة، في صورة المساند للاستبداد؟ والشيء مثله بالنسبة لأمريكا، مثلما تبيّن من تصريح مساعد وزير الخارجية الأمريكي وولش الذي بذل مساعي حثيثة بحثًا عن “علاقة” تربط المجلس الانتقالي الليبي بالقاعدة (على غرار العلاقة المزعومة بين صدّام والقاعدة لتبرير الحرب على العراق) وذلك لتبرير شن أمريكا هجوما عسكريا ودبلوماسيا على ثوار ليبيا، وفي الوقت ذاته مواصلة دعم القذافي الذي كان حتى قبل فترة قليلة يشكّل خير ضامن لمصالح أمريكا، كما توضّحه الوثائق التي عثر عليها الثوّار في مكتب مسؤول المخابرات الليبي بعد فراره، ونشرتها البي بي سي، وهيومن رايتش ووتش.
في الختام، أطرح هذه الأسئلة على أقطاب آكلي لحم العربي المتحرّر:
— مع التسليم بأنّ فرنسا عدوّة العرب وكلّ ما تريده من وراء مساندتها الثوّار هو ضمان حصّتها من النفط وأشياء أخرى، ونحن نعتقد جازمين أنّ الأمر كذلك بالفعل؛ ولنفترض أنّ أمريكا تريد موطأ قدم في المنطقة لترسيخ تواجدها فيها ضمانًا لمصالحها الجيوستراتيجية، وهو أيضا أمر لا نشكّ فيه البتّة؛ والأمر ينطبق على جلّ القوى التي أبدت تعاطفها مع الليبيين، حيث نعتقد جازمين أنّ هذه القوى لا تتحرّك بوازع أخلاقي بحت ولا حتى من منطلق مبدئي بل حماية لمصالحها بالدرجة الأولى، فما الضير من ذلك إذا أفتكّت الشعوب حرّيتها وسيادتها دون الخضوع لهذه القوى أو غيرها؟
— هل محرّم على الشعوب العربية أن تثور على فساد القادة “من أبناء الوطن” ممّن أشبعوا شعوبهم ظلما وإذلالا وحرموهم من كافة مقومات المواطنة؟ هل كون القائد “ابن الوطن” يجعل ممن يحارب فساده وفشله، خائنا لبلده، ومتواطئا مع الأجنبي، حتى وإن تقاطع ذلك مرحليا مع ما تبتغيه قوى أخرى؟
ليس خفي أنّ ثمّة من يحاول تثبيط همم دعاة الثورات على الأنظمة الفاسدة، من خلال العزف على وتر ذلك “العصر الذهبي” الذي ينبغي أن نتحسّر عليه، عصر كانت فيه هذه الشعوب بزعمهم تنعم برفاهية وأمن ثمينين، ويضربون لنا مثلًا على ذلك ليبيا في ظل حكم القذافي التي كانت مزدهرة وتتصدر قائمة البلدان العربية والإفريقية من حيث الدخل للفرد الواحد ومستوى التعليم وما إلى ذلك من ضروريات الحياة، متناسيين الجحيم الذي كان يكابده الشعب الليبي الذي حُرِم طيلة 42 سنة من الحرية والكرامة بل ومن ضروريات الحياة، وكان يتجرّع الأمرّين من ذلّ وهوان وتجويع وتعذيب وتقتيل وتغييب وترويع في ظل حكم الديمقراطيات الشعبية العربية في وقت كان قائد الثورة يبدّد بلايين الدولارات لشراء ذمم قادة دُوَل وقوافل من المنافقين والمرتزقة من كافة الأطياف من المثقفين والسياسيين وغيرهم. فيما يتباكى البعض الآخر على سقوط الجماهيرية، بحجّة أنّ ذلك يفسح المجال أمام الشركات العالمية لتسريع وتيرة ضخّ النفط واستغلاله لمصلحتها فقط، وما إلى ذلك من مغالطات أوّلها أنّ تلك الشركات، حتى دون النيتو، كانت تسرح وتمرح في أرض ليبيا (وغيرها) وتأخذ من نفطها ما شاءت في عهد القذافي، لقاء سكوت الساسة على استبداده.
— أمّا الذين استفاقت ذاكرتهم متأخرة، فراحوا يستخرجون ملفات أعضاء المجلس الانتقالي في ليبيا، ويتأهّبون لفعل الشيء نفسه بالنسبة لكافة المعارضة في الوطن العربي، ليبيّنوا لنا طبيعة فسادهم أو تواطؤهم أو حتى مشاركتهم في وقت ما الطغاة الذين انقلبوا عليهم. نقول إذا سلّمنا بمعلوماتهم، كيف يمكن أن نصف فساد القذافي (والأسد وصالح وغيرهما) وأزلامه الذين يستمرّون في قتل شعبهم الأعزل، ويهدّدون بحرق ليبيا عن بكرة أبيها، إذا لم يسلّموا للقائد بالبقاء حاكمًا مدى الحياة. أليس الذي عاد إلى شعبه ودافع عن حريته، أولى بالاحترام والإكبار حتى وإن سبق أن أخطأ في حقه، ممّن يواصل جرائمه؟
— ثمّة ذريعة أخرى تتشدّق بها الأنظمة الدموية ومن لفّ لفّها، أقصد مبدأ عدم التدخّل، وكأنّ الشعوب تجهل الهدف الذي يرومونه من وراء “عدم التدخّل”، الذي لا يعني بالنسبة لهم أكثر من حقّ الطغاة من القادة في نهب ثروات الشعوب، ومعاقبة وتعذيب وقتل شعبهم، بحيث يجعلون محرّم على أيّ جهة التدخّل أو إبداء أيّ رأي أو فعل أيّ شيء بهذا الشأن.
في أعقاب انهيار جدار برلين شهد العالم أجمع وأدرك أنّ المنظومة الديمقراطية الاشتراكية التي كانت تزعم منافسة النظام الرأسمالي العالمي الفاسد، لم تكن في واقع الأمر سوى عبارة عن نظام دولي بيروقراطي غير ديمقراطي فاشل وغير عادل، وأنّ ذلك النظام القمعي كان مجرّد أداة في يد الطغاة لاستعباد الشعوب تحت يافطات براقة، وهو ذات النموذج الذي ألهم الديكتاتوريات المسماة ثورية في الكثير من بلدان العالم الثالث، ولا غرابة أنه كما انهارت هذه الأنظمة الاشتراكية “المناهضة للإمبريالية” في ثمانيات القرن المنصرم، نشهد الآن انهيار نظيراتها العربية، بعد ربع قرن من الزمن، وفق نفس السنن الكونية. بصراحة، لم يعد أحد يثق بمن خانوا شعوبهم طيلة عقود من الزمان، ولا دروسهم عن الغيرة على الوطن واستقلاليته وسيادته وهم من رهنوا مصير بلدانهم لصالح هذه الجهات، ليبقوا حكّاما رغم أنف شعوبهم، خاصة وقد اثبت التاريخ أنّ الطغاة هم من فتحوا بلدانهم أمام تدخّل القوى الأجنبية وليس دعاة التغيير السلمي مثلما يزعم دجّالو الاستبداد في عهد الربيع العربي الزاهر.
رشيد زياني-شريف
5 أكتوبر 2011
تعليق واحد
RE: ثورات العرب بين منهزم ذاتيا ومشكّك غير بريء ومتربّص واهم
أخي السيد رشيد:
“”الفِتَنُ تَرْتَكِسُ بين جراثيم العرب، أَي تَزْدَحِمُ وتتردد.””
صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
وأحسنت في تشخيصك الواضح والصائب لوضع الأمٌة، لكن أبشر، لقد “أتى أمر الله”