في فرنسا بدأت الرحلة الشاقة والمفعمة بالروح الجهادية على مستوى جبهات الفكر والثقافة والإبحار في مكنون الحضارة، فأسس لنفسه عالما خاصا بعد أن قلّب نظره في هذا الكون الفسيح، وغاص في أمراض المسلمين، ليستنتج بأن الحياة على وجه الأرض تنطلق وتنتهي عند حدود مفردة الحضارة، التي يعتبرها مصطلحا للشق المادي للثقافة، أو هي تمازج دقيق للتراب والإنسان والزمن، مشترطا كي يتفاعل هذا التمازج أن يكون هناك عامل ثالث أسماه مالك بن نبي بالمركب الحضاري الذي هو الأيديولوجية أو العقيدة بالمفهوم الإسلامي.
لم تكن فرنسا بالنسبة للمفكر مالك بن نبي سوى استراحة محارب، ولو أن حياته في فرنسا امتدت لسنوات طويلة شملت حتى الحياة الأسرية بعد أن تزوج من الفرنسية خديجة المسلمة، ومن فرنسا كان الكتاب الأول “الظاهرة القرآنية” عام 1946، ثم “شروط النهضة” عام 1948، ثم “وجهة العالم الإسلامي” عام 1954، لينتقل إلى القاهرة بعد إعلان الثورة التحريرية عام 1954، فكان له هناك تأليف آخر هو “فكرة الإفريقية الآسيوية” عام 1956. بعد استقلال الجزائر عاد إلى الوطن فعيّن مديرا عاما للتعليم العالي الذي كان محصورا في جامعة الجزائر المركزية، حتى استقال عام 1967، ليتفرغ للكتابة بادئا هذه المرحلة بكتابة مذكراته بعنوان “مذكرات شاهد القرن” فنشر الجزء الأول بهذا العنوان وحده بالفرنسية، وترجمه إلى العربية السيد مروان القنواتي عام 1969، وأضيف بعد ذلك تحت هذا العنوان في الجزء الثاني الذي نشر عام 1970، اسم الطالب لكونه يخص مرحلة الدراسة في فرنسا ابتداء من عام 1930.
ومذكرات شاهد القرن هي صورة عن نضال مالك بن نبي الشخصي في طلب العلم والمعرفة أولا، والبحث في أسباب الهيمنة الأوروبية ونتائجها السلبية المختلفة وسياسة الاحتلال الفرنسي في الجزائر وآثاره ثانيا، مما عكس صورة حية لسلوك المحتلين الفرنسيين أنفسهم في الجزائر ونتائج سياستهم ووجوهها المختلفة الاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
يقول أحد تلامذة مالك بن نبي وهو الدكتور محمد سعيد مولاي: “اتخذ مالك كعنوان لدراساته قوله تعالى “إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم” وانصبّ جل تفكيره في هذا الاتجاه. إذ كيف مثلا يرفع مهانة الاستعمار عن الشعوب من غير رفع وطأة “القابلية للاستعمار” وتحرير الرقاب من الأفكار الميتة، وهل من سبيل إلى الرقي الحضاري بدون الاعتناء بتقويم الإنسان قبل “تكديس الأشياء”، وهل تقوم النهضة على التغني بأمجاد ما مضى ونسيان ما هو قائم و واقع وتركه للغزو الثقافي ومكر الكثير من المستشرقين”.
وقد ساعده اطلاعه الواسع على كل الحضارات الغربية والحضارة الإسلامية، وغيرها من الحضارات ليفهم مكمن الداء، والعلاج المطلوب، معتبرا أن الأمم لا يمكن لها أن تلج الحضارة إلا إذا تسلحت بسلاح الفكرة، ولو أن بن نبي يعتبر “من الخطر أن تترك فتاة تسير وحدها في الليل، وأحيانا حتى في النهار كذلك من الخطر أن تترك فكرة لوحدها، كما لا يكفي أن تبدع أفكارا بل يجب أن تؤمّن لها الحياة”، بعبارة بسيطة إن الأفكار قد تبدع لكن قد تخطف، أو تموت في لحظة معينة قبل أن تؤدي مفعولها.
ويفرّق هنا مالك بن نبي بين أفكار وأفكار، إذ يقسم الأفكار إلا قسمين اثنين: الأفكار الموضوعة والأفكار المطبوعة: “الأفكار الموضوعة تختلف عن الأفكار المطبوعة التي كانت في القوالب الأصلية، وهذا الاختلاف أو هذا الغدر يدوي في كل نشاطنا ويعرض هذا النشاط للانتقام من طرف الأفكار الأصلية انتقاماً يكون أحياناً غاية في العنف على الصعيد السياسي عندما تنتقم الأفكار المخذولة. وقد يكون من الأيسر تصور هذا الانتقام في المجال التقني عندما تصمم خطأً إحدى الماكينات وتنفجر أو أحد الجسور فينهار لأن الانتقام في هذه الحالة يكون فورياً. ولكن المجتمعات والحضارات والممالك قد تنهار هي أيضاً بنفس الطريقة وليست كوارث التاريخ في غالب الأحيان إلا آثاراً مباشرة لنوع من انتقام الأفكار المخذولة”.
وعندما تقابلنا هذه الأزمات التي نكاد نغرق في مستنقعها الآسن، ندرك حقيقة ما يقصده مالك بن نبي من أفكار مخذولة، كما نفهم لماذا لا ننتج سوى الأفكار المخذولة على عكس الغرب النصراني الذي يسعى في كل ساعة وفي كل دقيقة وثانية نحو إنتاج أفكار، وتجسيدها على أرض الواقع.
كما أننا نقف على حقيقة أنفسنا، كون منتوجنا من الأفكار والحضارة توقف عند الزمن الذي قالت فيه تلك الأم لابنها عندما سقط آخر حصن في الأندلس أبك اليوم ملكا مضاعا لم تحافظ عليه كالرجال، ولو أن الأتراك استعادوا الأمجاد من خلال هضبة الأناضول، وكانت هذه الفترة من الفترات التي حافظت لقرون على بعض البقاع العربية والإسلامية، بيد أن سلطان الأفكار افتقدناه إلى اليوم.
وليس هذا فحسب فالأمة العربية والإسلامية باتت عبئا حتى على الدول الغربية، في مأكلها ومشربها، وملبسها، وفي صناعة ما تفكر به في يومياتها الحياتية.
ولكن عندما تسود فكرة المطالبة بالحقوق مع تضييع القيام بالواجبات، و في نفس الآن تغليب التفكير الطفولي الذي ينزع نحو الاهتمام بمظهر الأشياء الخارجي، دون التمعن في مضمونها، فإننا لا ننتظر مستقبلا مجهولا مفتوحا على كل الاحتمالات فقط، ولكن مستقبلا محفوفا بالمخاطر يدرك في كل لحظة وأخرى، ويرجع مالك بن نبي السبب في كل ذلك إلى أنّ هذه الأمة استولى عليها مرض الكلام.
لقد شاءت إرادة الله أن يموت جسد هذا الرجل العظيم، ويتحلل إلى طبيعته الأولى سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا، كما شاءت نفس الإرادة الإلهية أن يُخلّد اسمه في سجل العظماء والقدسين، ويكون له قراء ومعجبون، وهكذا فليكن العظماء، وهكذا فليكن العلماء والمفكرون الذين لم يرثوا ولم يورّثوا دينارا أو درهما بل عاشوا حياة العفاف والكفاف، همهم أن يوقدوا الشموع للحيارى من الناس، وينيروا بنورهم السبل الموحشة، ويبددوا بعلمهم ظلمات الجهل الدامس.
وتقول الأخبار مؤخرا في الجزائر أن منزل هذا العملاق مالك بن نبي قد تعرّض إلى الإفساد، وهناك من استعمله وكرا للدعارة، وقد قدمت مجموعة من الكتاب والمفكرين والصحفيين عبر كافة أنحاء العالم – وقد كنا منهم – عريضة تطالب فيها رئيس الجمهورية عبد العزيز بوتفليقة بالتدخل الشخصي للحفاظ على هذا الموروث الحضاري، والضرب من حديد لكل من سولت له نفسه أن يمس هذا المعلم بسوء..” وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون”.
عبدالباقي صلاي
19 سبتمبر 2009