نعود للجزائر والتي صار اليوم دستورها يشبه لحد بعيد كراس المحاولات الذي يلجأ إلى تبديله أو رميه في سلة المهملات كلما رأى الضرورة لذلك، فكأن هذه البلد لم تنجب رجلا واحدا غير بوتفليقة ليقودها، وهو الكلام نفسه الذي قيل لليمين زروال لما بقي الشد والمد حول ترشحه في أولى إنتخابات رئاسية "تعددية" في 16 نوفمبر 1995، حتى خيل لنا حينها أن الحياة ستتوقف في الجزائر لو رفض زروال الترشح أو غيب من المشهد السياسي، كان من المفروض أن الأمة ستخضع للدستور وليس الدستور من يخضع لكل رئيس يصنعه على مقاس جواربه، فعيب كل العيب أن عمر "إستقلال" البلاد أكثر من 40 سنة ولم تصل بعد لدستور موحد يحمل الناس على التقيد بقيمه وإحترام مواده، أعرف أن كل الدساتير التي صنعت بالجزائر كانت تقاس على إبط الحاكم مرة وأخرى على أجزاء أخرى من جسمه، ولا أحد يفكر في صناعة دستور يكون بقيمة دولة تؤسس لإنسان يسير وفق قيم حضارية وتقدمية، لكن "المشرعون" –إن سلمنا لهم بهذا الإسم جدلا- يفكرون وهم على طاولة الإبداع وفق قصاصات ومراسلات جاءت من القاضي الأول في البلاد، وطبعا لا يفكر إلا في مصالحه وكرسيه الذي يريد أن يغادره إلا نحو القبر وبأمر من ربه وليس من شعبه، الذي لا يساوي عنده نشاف قصره العاجي أو منشفة تستعملها أحد عشيقاته بفيلا فاخرة بموريتي…
ليس موضوعنا قصة الدستور الجزائري وليس موضوعنا العهدة الثالثة لبوتفليقة التي لا خيار سواها للسلطة الموازية في الجزائر، والتي وجدت ضالتها في هذا الرجل، لكن حديثنا عن جزء مهم في ملف ما يسمى بالمصالحة الوطنية في الجزائر، والمتعلق بالمساجين المفرج عنهم في إطار عفو شرعته القوانين التطبيقية لميثاق السلم الذي صادق عليه الشعب الجزائري في إستفتاء 29 سبتمبر 2005، وإن كانت لنا مؤاخذات مختلفة ومهمة عن ذلك الإستفتاء وحتى عن صيغة السؤال التي جاءت من أجل "المصالحة الوطنية" في الجزائر، بعدما رسمت الجنة والأمن والثراء من مجرد وضع ورقة نعم في الصندوق، لذلك أن الشعب وافق على مبدأ المصالحة وليس على إجراءات تطبيقية ظهرت بعيدة كل البعد عن حقيقة ما أستفتي عنه الشعب، وهو ما يمكن وصفه بالنصب على الأمة في إطار قانوني لا غبار عليه، فلماذا لم تصدر القوانين وهي حتى تتم المصادقة عليها وليس ميثاقا يحمل الصيغ العمومية ولغة غير واضحة تحمل على أوجه متعددة، تعطي النفس للمشرعين في ما بعد لصناعة ما يخدمهم من قوانين تطبيقية؟ هذا فضلا من أن السلطة نفسها دعت الشعب الذي يوجد أكثر من 35 بالمئة أميين منهم، إلى قراءة ما بين السطور وإستنتاج النافع منه، وأما من قرأه وإستنتج ما يتنافى وتيار السلطة فهو أمي وجاهل وأعمى لا يدرك الحقيقة التي تشبه الشمس في رابعة النهار، فتأييد الرئيس لمسعى المصالحة الوطنية لا يختلف فيه إثنان، والمصالحة الوطنية المقصودة هي تلك التي توقف إراقة الدماء وتعيد الأمن للمواطنين، وتساوي بين كل الناس في الحقوق والواجبات والفرص، وتعطي المواطنة مفهومها الصحيح البعيد عن المزايدات الإيديولوجية والحزبية الضيقة النطاق، ثم تضع كل واحد من أطراف الأزمة والحرب الأهلية في مكانه الحقيقي، فلا يحمل علي بن حاج الذنب ويترك خالد نزار يصول ويجول، وأكثر من ذلك تعطي للمفقودين كل الخفايا عن الإختفاءات القصرية لذويهم من دون لف ولا دوران، وتضع دم كل قتيل في عنق قاتله بلا خلفية ولا تزوير، بل أكثر من ذلك أن يفتح ملف الحرب الأهلية بتداعياتها ومسبباتها ومخلفاتها على طاولة الحوار الناضج، ويتحمل كل طرف مسئوليته بلا تردد، فالخفايا توجد ملفاتها سواء بين يدي الأجهزة الأمنية والإستخباراتية أو الجماعات المسلحة بمختلف مكوناتها ومشاربها، بعد كل ذلك نعلن طي الصفحة برد المظالم لأهلها سواء بالتعويض المادي أو المعنوي، أو بالقرار السياسي المسئول… أما أن تأتي المصالحة من طرف واحد وتحاك في الخفاء بين أشباح كانت بالأمس ولا تزال هي المتهم الرئيسي في إشعال الحرب وإستباحة دماء الجزائريين بسبب إختيار إنتخابي، ظهر فيه الشعب كأنه أحمق وغبي في مسعاه ذلك وفاقد للأهلية تفرض الوصاية عليه ومن طرف الذين لا وصاية لهم على أعراضهم ونسائهم وبناتهم… لكن لما وافق هذا الشعب المسكين الجريح على لعبة إستخباراتية سميت تجاوزا "مصالحة" صار الشعب الرشيد والأبي ويستحق التقدير والتبجيل في الخطب العصماء، وليس في ثروة الأمة المستباحة من طرف مفسدين ولصوص…
الإخفاق الذي رافق الميثاق من بدايته يجعلنا نؤكد على الفشل الذريع الذي مني به، فقد كان بوتفليقة عرابا في البداية للعفو الشامل ولكن السلطة الموازية والخفية المتمثلة في الجنرالات وشركائهم من أرباب المال والأعمال، التي إختار لها الرئيس لفظ التوازنات ومن دون أن يوضح اطراف اللعبة التي دفعته إلى أن يوازن بينها في ميثاق لم تقطف ثماره سوى عصابة السلطة التي لا تزال وستبقى المسئول الأول عن دماء الجزائريين، ثم بعد حملة واسعة النطاق أنفقت فيها الوعود ذات اليمين وذات الشمال، ورسمت الجزائر ما بعد 29 سبتمبر بتلك الجنة التي لن تصل لها أعظم الدول، وهب الرئيس نفسه يوعد بأنه سيتخذ إجراءات أخرى خولها له الميثاق في مواده إن كانت المشاركة قياسية، وحصل ما حصل لأن الشعب قرأ بين السطور ما علق في لافتات عبر مختلف ولايات الوطن، وما راح به العرابون يجيدون به في خطب عصماء، وكنت حينها أرى ان الفشل سيكون حتما مصير هذا الميثاق مادام يسبح له الإستئصاليون من أمثال رجل المهام القذرة أحمد أويحيى كما يحلو له تسمية نفسه، والذي ظل وهو رئيسا للحكومة يردد من أن الإرهاب قد إنتهى ومن تحت قبة البرلمان، وأيضا ذلك الإمام العاهر الفاسد بوقرة سلطاني الذي تحول من مجند للأفغان لأجل الشهادة إلى مفسد لا فساد بعده… وليس المجال طبعا للخوض في حنايا تلك الحملة الإنتخابية وفي وعود عبدالعزيز بلخادم وموسى تواتي وخالد بونجمة والطيب الهواري وغيرهم ممن لا هم لهم سوى إرضاء السلطة ونيل الصكوك التي تحمي وجودهم في المنطقة الخضراء "نادي الصنوبر"… بعد الإستفتاء والندوات الصحفية المهللة بصلوات الشكر للشعب الخدوم الذي وافق بإجماع مطلق على مسار المصالحة، عاد الراقصون على جراح شعبنا لبيوتهم ينعمون بما حصدوه في حملة إسترضائهم لبوتفليقة، وبقي الشعب والمساجين وكل أطراف الحرب الأهلية التي ابدعوا في تسمية جديدة لها وهي "المأساة الوطنية"، وصار المسلحون والقتلى والمفقودون ضحايا هذه المأساة التي طويت في 29 سبتمبر، ينتظرون الوعود المزركشة التي فتحت باب الريان لشعب صام الدهر من الجوع والفقر… من ذلك الحين ولا أحد يعرف شيء عن موعد التطبيق فكل ما يظهر سوى ألفاظ مختلفة وهي "قريبا"، "مستقبلا"، "القوانين التطبيقية قادمة لا محالة"… ثم تطور إلى "لا تراجع في المصالحة"، لكن مع "المرض" المفاجئ لبوتفليقة في ديسمبر 2005، وفي ظل تعتيم إعلامي تمارسه السلطة عاش ملف الميثاق أحرج مراحله، وصار الترويج لمسألة التراجع الذي أجبر عليه بوتفليقة من طرف جهة ما، وإن كنت حينها أرى انه لا يمكن ان يتراجع الجنرالات عن ميثاق يحميهم ويرد الإعتبار لهم ويحصن مسيرتهم الجديدة، ويحميهم من منظمات دولية تملك ملفات إدانة لهم في جرئام ضد الإنسانية، ليعود العرابون… الإنتهازيون… الفاسدون… من جديد للواجهة للتأكيد أن المصالحة لا تراجع فيها، وأنها الخيار اليتيم الذي لا يمكن للدولة التي تتطلع للخير أن تتجاوزه، وأكثر أنها خيار الشعب وليس من الديمقراطية أن يتصدى أي كان لهذا الخيار، والنظام ممن يتفانى في الحرص على قرار الشعب السيد !
بعد تلك المرحلة الحرجة وعودة بوتفليقة للجزائر قادما لها من مستشفى فال دوغراس العسكري بباريس وتحت مسيرات "شعبية عفوية" يقودها الوزراء والعسكر للترحيب بـ "رجل المصالحة"، ورددت الشعارات التي أعطت تفعيلا وتهويلا للميثاق الذي كاد أن تغرب شمسه في دهاليز النسيان، ليتمخض الجمل ويلد فأرا معتوها… ظهرت أخيرا القوانين التطبيقية وتمت فبركتها على مقاس خاص ووفق الرؤية التي كانت تحكم تخيلات أقطاب المبادرة بمختلف توجهاتهم داخل هرم النظام، وممن يمكن أن نسميهم "الجيل الجديد للحرب الأهلية"… ومن ابرز ما تم التركيز عليه هو بداية الإفراج عن المساجين وذلك مساء يوم السبت 04 مارس 2006 وهبت العوائل من كل حدب وصوب قبالة السجون لإنتظار ذويهم، الذين أكد المحامون لهم بأنهم ممن يشملهم العفو بلا نقاش ولا جدال، وظهرت الكثير من الأمور والتلاعبات في قضاياهم وصار يتعامل معها وفق تقارير أمنية تعد من داخل السجون، وهذا الذي تحدثنا عنه في مقالنا المنشور حول المساجين الذين أبطل الشعب متابعتهم وبقوا خلف القضبان، حيث تناولنا بالإسم وتفردنا بكثير من الأمور في ذلك، أكثر من ذلك أن اللجنة العربية لحقوق الإنسان نشرت تقريرا عن التعذيب في سجون الجزائر، وكشفت الكثير من الحقائق حول ما تعرض له هؤلاء المساجين "الإسلاميين" قبل العفو الذي غربل قضاياهم حسب ما تأمر به الأجهزة الأمنية وليس ما تقرره غرف الإتهام والقضاة الذين تم تعيينهم لهذه المهمة، ومصادر أكدت لنا ان جلسات غرفة الإتهام على مستوى المجالس القضائية يحضرها ضباط أمن بين أيديهم تقارير سرية…
المخلفات والآفات…
السلطة كما ذكرنا تصر على أن ميثاق السلم والمصالحة نجح نجاحا باهرا، ومن دون أن تقدم التقرير عن حصيلته الحقيقية بلا مزايدة، لذلك نرى النفي المطلق لوجود القاعدة بالجزائر، وطبعا هذا الإصرار هو التمهيد لأجل تنفيذ مخطط "العهدة الثالثة" الذي درست أوراقه منذ فترة ووضعت المخططات وآليات التنفيذ، لكن في الوقت نفسه العمليات التي تنسب لما يسمى بـ "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" ويتبناها في بيانات على شبكة الأنترنيت لم يحصل التأكيد من صحتها ولا قادة التنظيم الأم تحدثوا عنها سواء في خرجات أسامة بن لادن أو نائبه أيمن الظواهري، بالرغم من الحديث المتشعب عن كل القضايا التي تشغل بال العالم العربي والإسلامي ولم تسلم حتى الأمم الأخرى، ظلت تزرع الأشواك في الدرب الوردي لهذه العصابة، وان حاولوا إستثمارها بطرق بشعة لصالح مشروعهم…
لقد تجلت عدة أمور كالأحكام القاسية من إعدام ومؤبد عكس ما أكده الرئيس بوتفليقة في حملته للميثاق من وعد النظر بعين الرحمة لقضايا كل من لم يشملهم العفو والمتورطون في الإستثناءات الثلاث وهي الإغتصاب والقنابل في أماكن عمومية والمجازر، وهذا الذي تحدثنا عنه في مقالنا المنشور تحت عنوان: "المصالحة الجزائرية: بين قسوة المحاكم ورحمة الرئيس"، ونجد أيضا أن المساجين الذين أفرج عنهم صاروا يصنعون الحدث المسلح، بالرغم من عدم وجود حصيلة رسمية حول المفرج عنهم الذين إلتحقوا مجددا بمعاقل القاعدة، إلا ان بعض المصادر أكدت لنا أن نسبة كبيرة منهم وقعوا ضحية غسل الدماغ سواء بالسجن أو حتى من طرف بعض المؤيدين لأفكار القاعدة الجهادية، وقد زادت نسبتهم خاصة بعدما قابلت "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" دعوة الرئيس للإستفادة من الميثاق ان صارت "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"، وقد شنت حملة على السجون التي تحولت إلى مدارس للإنتحاريين، وتناولت وسائل الإعلام ذلك بكثافة وسال الحبر كثيرا منذ تفجير المجلس الدستوري في 11 ديسمبر من طرف شارف العربي المكنى "عبدالرحمان أبو عبدالناصر العاصمي"، وهو ممن إستفادوا من ميثاق السلم والمصالحة، حيث غادر سجن الحراش في ماي 2006 أي بعد 3 أشهر من بداية التطبيق الفعلي للميثاق، والذي شهد أسبوعه الأول الإفراج عن أغلبية المساجين الذين تمت برمجة العفو عنهم، وأما من تأخر أمرهم فتعلق بتقارير أمنية لم تصل بعد للقضاة المكلفين حتى يصدروا أوامرا بإنتفاء وجه الدعوى أو إسقاط العقوبة، وطبعا رددت وسائل الإعلام أسماء أخرى تخرجت من السجون تحمل الفكر الجهادي "أبو الحارث"، "عبلة – ح"، "عبدالرحمن"… الخ، ومن حين لآخر يطلع خبر عن إلتحاق جديد بالعمل المسلح، نذكر مثلا ما صرح به العميد أول للشرطة صالح نواصري الذي أكد مؤخرا أن 4 أشخاص ممن أفرج عنهم بتلمسان حملوا السلاح…
نعود لشارف العربي الذي أكدت لنا مصادر لا يشوبها الشك أبدا انه كان من بين المساجين الذين لا يحملون فكرا سلفيا جهاديا أبدا، ولا يملك ثقافة دينية واسعة، حيث أنه عاش لسنوات في سجن الحراش وبالقاعة "2 مكرر أ" ومع من يسمون أنفسهم "إمارة السجن" الذين يعتبرون متطرفين في أفكارهم وسلوكهم، إلا أن شارف العربي ظل يأخذ الأمور ببساطة ولا يهتم كثيرا بتلك الأطروحات الجهادية التي ظل يروج لها في السجن (لمعرفة الكثير عن ذلك يرجى مطالعة ملفنا المنشور تحت عنوان "الإسلاميون من وراء القضبان: حروب الجماعات وتناحر الأمراء" ففيه أمور دقيقة جديرة بالتنويه)، هذا إلى جانب أن مصادر عائلية اكدت أن إختفاءه مشوب بالحيرة والتساؤل، وبينهم من حمل الأمن مسئولية إعتقاله… فإختياره لتلك العملية الدموية –مهما كان مصدرها- والتي نرفضها وندينها هو إختيار غير بريء أبدا، ربما ممن لهم المصلحة في خلط الأوراق على ملف المصالحة والذي يعني مباشرة الوقوف في وجه الرئيس بوتفليقة الذي يراهن على خطواته في تلك المصالحة لأجل المرور لعهدة ثالثة، سواء من داخل السلطة أو حتى خارجها…
من وراء بعث رفاة "الجيا" مجددا؟
في الآونة الأخيرة كثفت مصالح الأمن في بحثها عن محمد صدوقي المكنى "عبدالقادر الروجي"، وراحت وسائل الإعلام المختلفة في الجزائر لتلميعه وجعله "النجم" الجديد في دنيا العمل المسلح أو ما يسمى بـ "الإرهاب"، من خلال القصص المختلفة التي يبدو أن مصالح الأمن جادت بها لقاعات التحرير، بل أكثر من ذلك أكدت مصادر مختلفة أمنية أن "الروجي" قد أعاد للحياة من جديد التنظيم الدموي والمثير للجدل "الجماعة الإسلامية المسلحة" المعروف بتنظيم "الجيا"، وذلك برفقة مجموعة ممن أفرج عنهم في إطار ميثاق السلم، حيث إستطاع أن يجدد الإتصال بهم وتجنيدهم، وأكثر من ذلك أن "الروجي" رفض الإنضواء تحت لواء ما يسمى "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" وطلب أن يعمل تحت لواء تنظيمه السابق "الجماعة الإسلامية المسلحة"، وهو ما وافق عليه أميرهم عبدالمالك درودكال، وصار الآن يرابط في نواحي ولاية المدية بمجموعته التي وصفت بالخطيرة، وصارت مصالح الأمن تتخوف من عودة المجازر الجماعية التي تستهدف المدنيين، من طرف هذه المجموعة التي تعد على الأصابع حسب الواقع…
فقبل الحديث في هذا الموضوع وجب أن نكشف أسرارا تنشر لأول مرة عن "عبدالقادر الروجي"، وهي مهربة من سجن الحراش حيث كان يقبع لسنوات قبل الإفراج عنه في أواخر مارس2006، في إطار عفو ميثاق والسلم والمصالحة الوطنية… محمد صدوقي هو صهر زميله الآخر عزوق مقران حيث أن هذا الأخير متزوج من شقيقته، إلى جانب أن والد "الروجي" كان أيضا موقوفا بسجن سركاجي "وسط العاصمة" ولم يستفد بداية الأمر من العفو الذي شمل إبنه، بالرغم من أنه متهم في القضية نفسها التي توبع فيها أيضا سلمان جمال وعوار محمد وعزوق مقران –طبعا- الذين حكم عليهم ضمن ما يعرف بمجموعة "ابوتراب" في 07 نوفمبر 2007 حيث حكم على عوار وعزوق وكركار رشيد بالإعدام، والمؤبد للمتهمين الآخرين… للتذكير أن وزارة الإتصال الجزائرية عرضت على الصحفيين يوم الجمعة 09 أوت 2002 شريطا تضمن إعترافات خطيرة للجماعه، وقدم عزوق مقران على أنه مسئول الدعم والإسناد في تنظيم الجيا، وخفايا عن تفجيرات مختلفة هزت الأربعاء "ولاية البليدة"، ومعلومات أمنية مختلفة عن تنظيم "الجيا" ونشاطاته…
قبل الإفراج عنه كان "الروجي" يعيش في القاعة "1ب" مع جماعته بإسثناء سلمان جمال الذي كان في القاعة "2 مكرر أ"، بعدما أعلن توبته من جماعة الهجرة والتكفير لذلك قبل أميرهم انضمامه لإمارته، المكونة من عدة قاعات حينها، القاعة التي كان بها "الروجي" لها مميزات خاصة منها السماح بالتدخين في الساحات ويمنع داخل القاعة، وكذلك يسمح بمشاهدة الأفلام مع حظر رؤية المرأة أو سماع الموسيقى، ووجود ما صار يعرف في السجن بجماعة "الجيا" في القاعة يعود لأسباب عقدية لأنه ممنوع عليهم الإلتحاق بالقاعات الأخرى في إطار الحرب على التكفيريين التي يشنها المساجين، وهو الأمر نفسه الذي يتعرض له التائبون أو ممن قبض عليهم وأدلوا بمعلومات لمصالح الأمن… كان "الروجي" برفقة مقران وعوار وذباح بشير وآخرين ينصبون خيمة مصنوعة محليا عن طريق إخاطة إزار كبير الحجم وعدة مناشف حمام، حيث لا يستطيع أي احد أن يطلع على سلوكهم وخفاياهم في زاويتهم، فقد خصصوا خيمتهم للطبخ والدروس الدينية وحلقات حفظ القرآن، ولا أحد يتجرأ على الدخول عليهم، بل ان الآخرين يتفادونهم لما يتمتعون به من رعب حول تنظيمهم أو حتى عمليات دموية قاموا بها، ولا هم يحتكون مع غيرهم أو يصلون معهم… كان "عبدالقادر الروجي" دائما مكحل العينين، يلبس سروالا أفغانيا وما يعرف بلباس نصف الساق، يداوم على حفظ القرآن وقيام الليل، لا يخالط سوى مجموعته في القاعة أو شامة محمد المدعو "القعقاع" الذي يعتبر أحد أمراء "الجيا" والذي قام بتصفية رشيد قوقالي المدعو "أبو تراب" لحساب آخر الأمراء نورالدين بوضيافي المدعو "حكيم اربي جي"، والذي كان ينزل في "1 س" وهي القاعة المتواجدة قبالة "1 ب" في الجناح المخصص للإسلاميين والمحكوم عليهم نهائيا من مساجين الحق العام، وأيضا يتردد عليهم رفيقه في القضية جمال سلمان الذي يتواجد في ما يسمى بـ "الإمارة" أو حسين بوشمة في "1 مكرر أ" وكان محكوم عليه بالمؤبد في قضية إغتيال شرطي بالقبة "العاصمة" وصار يحمل الفكر التكفيري في السجن، أفرج عنه صيف 2006 بعدما شن عدة إضرابات عن الطعام…
لقد تردد عليه ضباط المخابرات في السجن – حسب تقرير اللجنة العربية لحقوق الانسان عن التعذيب في سجون الجزائر – في الفترة الممتدة بين ماي 2005 وجوان 2006، وكان دوما برفقة جماعته يرددون أنهم لن يستفيدوا من ميثاق السلم لأنهم توبعوا في تفجيرات بأماكن عمومية ومجازر إرتكبوها إلى جانب الإغتصاب الذي توبع فيه عوار محمد، ولكن في مارس حدثت المفاجأة أن وصل أمر الإفراج عن ذباح بشير وصدوقي محمد "الروجي" وآخر، ولكن لما وصلوا إلى إدارة السجن وأثناء التوقيع على دفاتر الخروج، ليصدموا بأمر إعادتهم مجددا للسجن، ولما أصروا على معرفة السبب أجابهم ضابط أنه وقع خطأ في أحد الأسماء، لذلك سوف يتأكدون لدى أمانة غرفة الإتهام بالعاصمة التي أصدرت أمر الإفراج، وكانت الحادثة ضربة قاصية لهم، وراودتهم الشكوك من كل جانب حتى ما عادوا يتناولون وجباتهم، بعد خمسة أيام تعاد المناداة عليهم وغادروا السجن، ليفتح ذلك أمالا لعزوق مقران وسلمان جمال وعوار محمد – الذي نقل لسجن البليدة حيث متابع في قضية أخرى – غير أن الأمور سارت عكس ما تمنوها، فقد قبض على عزوق متلبسا بحيازة هاتف نقال وحكم عليه بتهمة حيازة ممنوعات بعامين نافذين، "الروجي" وذباح في ما بعد ظلوا على إتصال هاتفي بزملائهم حيث أخبروهم أنهم إشتغلوا في التجارة بأسواق الخضر، حيث طويت صفحة الماضي عندهم وتفرغوا لحياتهم الشخصية…
عزوق مقران نقل للقاعة "2 مكرر 1" بعد عمليات الإفراج، وقد خصصت إدارة السجن قاعتين فقط بدل 6 قاعات التي كانت من قبل، مما إضطر ما يعرف بـ "الإمارة" أن ترضخ للأمر وتتنازل عن بعض الضوابط العقدية التي تتزمت فيها من قبل، فقد أكد لمساجين متواجدين معه في القاعة نفسها من أن المخابرات هي التي وافقت على الإفراج وان محمد صدوقي قد إتفق معهم في عدة أمور ولم يكشف عنها، وإن كان يلمح لأنه سيكون ضمن الإتفاق هذا إستفادته من العفو أيضا على خطى صاحبه، لكن حكم عليه بالإعدام كما ذكرنا سابقا، مما يجعل طبيعة ما اتفق عليه طي المجهول ومحل الظنون المتناقضة… لقد شنت الصحف حملة غير بريئة، من أن صدوقي محمد المكنى "عبدالقادر الروجي" قد أعاد إحياء تنظيم "الجيا" من جديد، وبرفقة المفرج عنهم في إطار ميثاق السلم، وهو ما يبدو مخالفا للحقيقة لأن "الروجي" كان لا يخالط أحدا في السجن ولم يفرج عمن كان يخالطهم سوى ما يعد على أصابع اليد الواحدة، أما الآخرون والمتهمون معه فقد حكم عليهم ما بين الإعدام والمؤبد، ولا يمكن أبدا تشكيل تنظيم خطير كما يروج له بهذه الصورة، إضافة لذلك أن "الروجي" ظل تحت أعين مصالح الأمن منذ عودته لبيته، وأكثر من ذلك أن المساجين كلهم مستهم الحيرة بسبب العفو على "الروجي" الذي كان تكفيريا ويعد لدى المخابرات من العناصر التي يحسب لها الف حساب، ووضع في خانة الأسماء الخطيرة للغاية وهو لا يزال في السجن، والإدعاء بأنه إتصل بدرودكال وجماعته هو إدعاء باطل لأن "الروجي" محكوم عليه بالردة من طرف أنصار القاعدة في السجن، وكما ذكرنا ظل منبوذا من طرفهم، فكيف به يعود إلى معاقلهم ويتفاوض معهم؟…
إذن الحملة الجديدة وفي ظل الحب الشاملة التي يشنها ما يسمى تنظيم القاعدة على النظام، يجعل إحتمالات كثيرة قائمة على ما يجري من تلميع للروجي وتنظيمه العائد من القبر، بعدما أعلن حله ونهايته وعلى يد الأمن الجزائري، فقد يحتمل أن النظام يريد صناعة جيل آخر من خلاله يحول الحرب إلى داخلية بين القاعدة و"الجيا" هذه في طبعتها "الروجية" الجديدة، ومن خلاله يستطيع أن يعيد هذا التنظيم ومن عناصر ولاؤها المطلق طبعا له، وهو ما يساعد على عملية إقتفاء آثار القاعدة ومحاصرة سبل الإمداد التي تعتبر حبل الوريد في إستمراره وحيويته… قد يحتمل آخر أن النظام يريد إعادة التنظيم الذي تنسب له كل المجازر في حق المدنيين، وهذا ما يجعل عودة المجازر الفظيعة والعمليات القذرة قائما، وقد يتساءل البعض عن الفائدة التي قد يجنيها من خلال عودة "الجيا" إلى مسرح الأحداث، ربما يعود بالفائدة على جناح يرفض التجديد والعهدة الثالثة لبوتفليقة، فعودة هذا التنظيم معناه الرجوع بخطوات عملاقة إلى سنوات الدم، مما يجعل كل ما قدم في سبيل المصالحة هو مجرد غثاء لم يزد الجزائر إلى غرقا في مستنقعات الدم… قد يأتي مراقب ثالث ويحتمل من أن النظام ينفي دائما وجود القاعدة في الجزائر، وفي عودة "الجيا" وبأعمالها القذرة يخلق توازن في الحرب ولا يجعل الصراع القائم بين النظام والقاعدة فقط، وهو الذي يفتح مستقبل العمل المسلح مرة أخرى على إحتمالات كثيرة، وخاصة أن "الجيا" وبإعتراف من أقطاب وأمراء الجماعات المسلحة تعتبر سبب السقوط والهزيمة التي مني بها ما يسمى عندهم بـ "الجهاد"… إحتمال آخر لصالح أنصار العهدة الثالثة قد يراه غيرنا من أن النظام يريد التأكيد على خيار المصالحة سيبقى قائما ولن يوجد سوى بوتفليقة لإطفاء هذه النار، لأنه في حالة نهاية العمل المسلح وإستتباب الأمن تجد السلطة نفسها أمام غول آخر وهو الأزمة الإقتصادية التي يعيشها الشعب الجزائري، وفي ظل الخزينة التي صارت على أبواب 100 مليار دولار وبفضل الصعود الصاروخي لأسعار النفط الذي صار على مشارف 110 دولار للبرميل، ففي ظل الأمن قد تنفجر الجبهة الإجتماعية ويفقد بارونات الفساد والسلطة الكثير من الفرص، لهذا لا مأمن لهم من الحساب على المال العام الذي ينهب صباح مساء إلا في إنشغال الناس بقضايا ما يعرف بالإرهاب وخوفهم على الشبح الذي يتصيد لأرواحهم… قد يرى البعض تناقضا بين بعض ما ورد وهو الحقيقة لأنها مجرد إحتمالات تراها مختلف الرؤى والعيون، لكن تبقى حسب ما يراد ويروج لها إعلاميا، فقد يراد من طبعة "الجيا" الجديدة الترويج من أن الدولة فتحت لهم الباب وعفت عنهم ولكن عادوا لضلالهم القديم، وان يدها ستظل ممدودة وخيار المصالحة يجب أن يستمر حتى يعالج الداء ويجتث من جذوره، فقد عولج أمنيا ولم يفلح ثم عولج قضائيا ولم يفلح وسيعالج مستقبلا فكريا ولا أحد في مستوى ذلك سوى بوتفليقة طبعا، لكن المعالجة السياسية تبقى بعيدة عن أجندتهم لأن فيها عودة شيوخ الجبهة المحظورة للساحة… أمر آخر قد يحمل ويروج على أن الدولة ارتكبت خطأ في الإفراج عنهم وأن الميثاق لم يكن في المستوى الذي سيعالج الأزمة، وسبب عودة التنظيم للواجهة هو الميثاق في طبعته الحالية وليس شيء آخر، وهذا ما صرنا نراه يوميا عبر الصحف التي تحسب على أجنحة ترفض العهدة الثالثة… هنا يجب التنبيه لشيء ما يجب نسيانه، فقد يقال أن الخطأ في المساجين المفرج عنهم بأن تحولوا إلى انتحاريين آو عادوا للجبال أو التحقوا مجدد بالعمل المسلح وليس في الميثاق الرئاسي، هذا نراه كلاما غبيا للغاية لمن لا يعرف طبيعة الأجهزة الأمنية الجزائرية التي ركزت تركيزا كبيرا في تلك الفترة على المساجين وأودعت ضباطا للمخابرات في زنازينهم، وبناء على التقارير التي ترسل تم الفصل في الملفات، ولا يوجد مكان يعبر فيه عن الفكر الجهادي مثل السجن، فالحلقات والدروس وقيام الليل والمعاملة مع الحراس وعقيدة الولاء والبراء الممارسة علنا، تعطي الصورة الحقيقية عن إيديولوجية كل سجين التي لا يستطيع إخفاءها، فكما قلنا عن "الروجي" أنه كان تكفيريا برفقة جماعته وظل دوما يمجد منهج "الجيا"، وزاره ضباط المخابرات مرات متعددة وتعرض حتى للتعذيب في العيادة كما ورد في تقرير اللجنة العربية لحقوق الإنسان عن التعذيب في سجون الجزائر، فكيف افرج عنه وقد أكد لنا ضابط كان من بين المندسين في وسط سجن الحراش انه أرسل تقريرا للمخابرات يحذر فيه من الإفراج عن "عبدالقادر الروجي"، ولكن تقريره ضرب به عرض الحائط وتم تجاوزه…وأو
على هامش السراب…
هذه "المصالحة" مفتوحة الآن على جبهات مختلفة، جبهة تريد لها النجاح وهي تلك المحسوبة على الرئيس بوتفليقة وبكل الطرق، والنجاح الذي يقصد به هو تلميعها بأحداث مؤثرة تكسبها الهالة الشعبية، ولهذا السبب نرى أنه بعد كل عملية تفجير تجد التصريحات والمسيرات "العفوية" تسبح وتهلل بالمصالحة وتشجب وتلعن أعداءها، والحدث القائم الآن في سرايا الحكم يتوقف على ما تؤول إليه هذه المصالحة، التي جاءت لتخدم النظام أولا وتحصن وتحمي من سماهم الميثاق الرجال الذين هبوا لنجدة الجمهورية، وخاصة أن ضربات "القاعدة" وضعت بوتفليقة في مأزق كبير زاده بلة تلك العمليات التي قام بها مفرج عنهم في إطار الميثاق، وهو ضربة أريد منها توجيه رسالة من أن رفض القاعدة التي كانت حينها تسمى "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" للمصالحة والعفو، وهو الخيار العقدي الصواب الذي ينتهجونه – حسب رأيهم – ولا دليل عليه سوى إلتحاق المفرج عنهم بمعاقلهم وقيامهم بعمليات توصف عندهم بدعا بـ "الإستشهادية"، وأن ما يروج له النظام من نهاية المسلحين هو مجرد جعجعة لا طائل منها، وقد لاحظنا تركيز التنظيم في عملياته الإنتحارية على أجيال جديدة وحتى من المراهقين مما يعني استمرار التجنيد عكس ما يثار إعلاميا ان الشباب الجزائري يرفض هذا العمل الإجرامي، وإن كنا نرى ان الشاب الذي يمتطي قاربا للموت من اليأس قد يمتطي سيارة مفخخة من الحنق… السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل فشل ميثاق السلم حقيقة أو أن جهات ما أرادت له الفشل؟ خاصة أن النظام يرفض وجود حتى الذين عادوا للمجتمع سواء توبة أو في إطار العفو، لأنهم في نظر الأجهزة الأمنية هم متورطون في دماء الجزائريين وهو ما لن يغفر لهم مستقبلا، حتى أن بعض المتتبعين للشأن الجزائري يرى من أن المفرج عنهم وكانوا بالفعل محسوبين على الإسلاميين فقد توبعوا مرة أخرى، فبينهم من أعتقل بتهم جديدة يجمع أغلبهم على أنها ملفقة، وتشير بعض المصادر أن نسبة 20 % يتواجدون حاليا في السجون، وآخرون التحقوا بمعاقل الجماعات المسلحة وهي نسبة تصل لحدود 10 % ويكفي ما يثار عن الإنتحاريين وحتى عن التنظيم "الروجي" الجديد الذي إستقطب قدماء المقاتلين المفرج عنهم، مع العلم أن نسبة كبيرة ممن أفرج عنهم هم من لا علاقة لهم بالقضية الخاصة وهم في الأصل متهمين في قضايا تتعلق بالحق العام، كتهريب الرمال وعدم التبليغ والمتاجرة في اشرطة ممنوعة منزلة من الأنترنيت… فماذا بقي إذن من المساجين الإسلاميين المفرج عنهم؟
كما تقدم أن ميثاق السلم مني بالفشل حقيقة وبعث الروح فيه ليس بما تروج به حركة حمس المفلسة، ولا ما قد يأتي من طرف أحزاب أخرى، فما بني على باطل فهو باطل، ومعالجة الأزمة يجب ان تنطلق من روح وطنية حقيقية وليست من أجل مصالح آنية يراد منها طي ملفات متعبة كالمفقودين وحصانة المتورطين في الدماء من السلطة بمختلف مشاربهم ومراتبهم… فترى ماهي رهانات بوتفليقة للعهدة القادمة فهل سيكون النفس الآخر لجثة الميثاق الذي ولد ميتا أم صفقة سرية مع حسان حطاب ستكشف في حينها أم مشاريع إقتصادية ضخمة تبذر بلا حسيب لأجل كسب الرهان؟ طبعا بلا شك أن الأيام كفيلة بتبيان هذه المعادلة المتشعبة في عالم السياسة خاصة إن تعلق الأمر بالمشهد الجزائري المعقد…
أنور مالك
11 يناير 2008