بعدها عادت حملة أخرى للتشكيك في صحة الرئيس، والتي بلغت ذروتها في الأيام الأخيرة، فندها في فرصة كانت من ذهب، وهو المرض "المفاجئ" للشيخ القرضاوي، وتنقل الرئيس تحت عدسات كاميرا التلفزيون لزيارته، وظهر أمام الشيخ كأنه يشكو من الذين مسوا شرفه في الحديث الكاذب عن صحته، واستطاع بذكاء أو ربما بمكر أن يبلغ رسالته على لسان الشيخ العلامة… فضلا عن التخوفات التي تقض مضاجع المسئولين من الإنتخابات المحلية القادمة، التي قد يكون مصيرها كالتي سبقتها حيث سجلت أعلى نسبة رفض وإمتناع في تاريخ الجزائر، وما عاد الشعب يثق في "المشاريع" الوهمية للسلطة، لهذا ليس غريبا على نظام أراد أن يحافظ على عرشه ضحى بأكثر من نصف مليون مواطن، أن يضحي بحفنة من الشباب الذي جاء عله يستطيع أن يوصل شكوى للرئيس بالوالي أو أي احد من المسئولين المحليين…
النظام الجزائري وكعادته في كل مناسبة يعامل الشعب بطريقة مهينة وموروثة من مخلفات الحزب الواحد وعهد المحافظين ومجلس الثورة، هذا في زمن العولمة وحضارة الإعلام الجديدة، كأن الأجيال لم تتعلم ولا دخلت المدارس ولا تثقفت ولا نالت أوسمة وشهادات دولية، ولا يزال يقبع في أحضان الثورات الثلاث التي ما زادت للزراعة إلا تخلفا وللصناعة إنهيارا، والثقافة صارت في يد مثل خليدة تومي للأسف الشديد… فمثلا أن يروج بأن المدعو "أبو مقداد" جاء من الغرب الجزائري و"خطط" لإغتيال رئيس الدولة الجزائرية، والذي تروج الأجهزة الأمنية على أنه من أكبر الرؤساء المستهدفين في العالم، والمعروف أنه قبل أن يتنقل لأي مكان يسبقه جيش جرار من الدرك والشرطة والمخابرات والأمن الرئاسي للتمهيد وإعداد زيارة فخامته !! فمن غير المعقول أن يقبل هذا الشاب المغمور والإرهابي حاملا "قنبلة فتاكة" في كيس بلاستيكي وربما يكون أسودا في زمن منعه من طرف وزير البيئة رحماني، كتحدي سافر للنظام وعدم موالاة "للطاغوت"، كأنه ذاهب في طريقه إلى سوق شعبي من أجل التسوق أو ربما للتشاجر مع أقرانه، وبعدها تتواصل المسرحية بهزل يثير التقزز في نفسية كل من يحمل أدنى ضمير أو وعي أو فهم بسيط، أتدرون لماذا أقبل هذا الشاب على مشهده المثير؟ !!
نعم إنه جاء من بعيد يتأبط كيسا به قنبلة !! لأجل إغتيال رئيس الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية وبالضبط الرئيس بوتفليقة وليس محمد بوضياف !!… يتواصل المشهد أمام المتفرجين الذين كانوا في قمة خشوعهم من الوقوف في محاريب الزعيم القادم، لتزيد الرواية الرسمية أن المواطنين انتبهوا للغريب الحامل لجسم أغرب فيهم بالهروب نحو وجهة أخرى، إلا أن مفتش الشرطة قطاف الطاهر المدعو لمين كان له بالمرصاد ليقبض عليه، إلا ان الإنتحاري فجر نفسه ليذهب معه إلى العالم الآخر، إنها قمة التضحية والإخلاص للزعيم لا نجده إلا في أفلام هوليودية أو مسلسلات درامية، بل وصلت الجرأة الشنيعة بالصحف إلى مقارنته بشلالي محمد منقذ حياة جاك شيراك ابن منطقته من محاولة إغتيال في 14/07/2002… هنا تسقط أشلاء أخرى لمواطنين عزل ذنبهم أنهم جاءوا من كل حدب وصوب للتعبير عن حبهم المجنون و"الانتحاري" للرئيس الجزائري، وهكذا تمضي الجهات الرسمية في تفاصيل غبية حاولت ان تستثمرها في صالح ما يسمى تجاوزا الالتفاف الشعبي على بوتفليقة ومشاريعه… إذا هكذا كانت "محاولة اغتيال بوتفليقة" وهكذا أستهدف مشروع الرئيس للمصالحة من طرف تنظيم موالي للقاعدة التي غيرت مجرى التاريخ بالحادي عشر من سبتمبر 2001، وعلى غير العادة يصرح بوتفليقة مباشرة تصريحا مثيرا تتناقله وسائل الإعلام الدولية، ويتهم جهات أجنبية من دون أن يسميها بالتورط في الإعتداء على الشعب الجزائري، ثم يوجه أصابع الإتهام لأعداء المصالحة الوطنية الجزائرية…
يمدد زيارته لحضور الجنازة وتقوم التلفزة بنفخ كير الأحزان وتأجيجها بعمق شعب ما عاد يستطيع أن يوفر خبز يومه، طبعا ومن دون أدنى شك أو تردد يتبنى العملية ما يسمى بتنظيم القاعدة لكنه يؤخره من أجل العملية الأخرى ليصبح التبني واحدا، بالرغم من أن الأولى أريد منها إغتيال الرئيس والثانية قتل فيها جنودا ربما أغلبهم من شباب الخدمة الوطنية، إذا هكذا يفكر تنظيم القاعدة الذي ظهر زعيمه مؤخرا بـ "لحية سوداء" بعد ما يقارب الثلاث سنوات من الغياب ويوجه رسالة للشعب الأمريكي يطلب منه الدخول في الإسلام، بالفعل أمر عجيب كان من المنتظر أن يظهر ويلقي خطابا يكشف فيه الكثير من "الخفايا" التي تحرق أمريكا لأجلها كل العالم الإسلامي والعربي، غير أنه ظهر برسالة أقل ما يقال فيها انها الحمق بعينه، بل أنقذ بوش من ورطته في العراق وتركه يتبجح بأشياء عفا عنها الزمن، ومن شدة فرحته فقد صوابه في صور تناقلتها وسائل الإعلام الدولية، لم يتحدث عما يحدث في الجزائر من طرف تنظيم تابع له ولا في العراق ولا في أفغانستان، كل ما قاله أنه أشاد بالرقم 19 من دون ترحم عليهم، وطبعا نعرف كلنا معجزة هذا الرقم في القرآن وما يردده الإسلاميون كثيرا…
وزير الداخلية يزيد زرهوني كان على درب سيده ورئيسه وولي نعمته، ووجه أصابع الإتهام للخارج، حتى صار الشعب يحس أن احتلالا وقف على بوابة سيدي فرج من جديد، وهذه حال الأنظمة الشمولية التي توزع العمالة بالمجان دائما، ولا أحد منهم يتجرأ ويتهم جهة بعينها، لأنهم لا يستطيعون ذلك فلو أتهمت امريكا لأتهم شكيب خليل الحامل لجنسيتها ويتصرف في شؤون المحروقات عصب الحياة للجزائريين، ولو أتهمت فرنسا لأتهم محمد بجاوي واتهم الكثيرون حتى من جنرالات الجيش الذي يمنع القانون الداخلي للمؤسسة على حمل جنسية أخرى أو الزواج من أجنبية، ولو أتهمت روسيا لأتهم بن بوزيد الذي يصاهر قائد قوات الدفاع الجوي الروسي… الخ.
تتواصل "مسرحية الزعيم" بتفجير آخر كما ذكرنا يستهدف ثكنة عسكرية وتتناثر الجثث من جديد، ويسمح بتصوير جثث العسكريين وهم ممددين على الأرض وملطخين بالدماء بل تمت تغطيتهم ببطانيات خضراء وفاء للزي، ولكنه يعتبر مساس بسيادة المؤسسة المقدسة وحرمتها، والكل يتذكر ما فعلته أمريكا لما بثت قناة الجزيرة القطرية صورا لقتلاها في العراق، وما فعلته أيضا لما بث التلفزيون العراقي الرسمي في عهد صدام حسين إعترافات لأسرى الحرب من القوات الأمريكية… فأن يقتل عسكري داخل ثكنته ومحميته ثم يصور وتنقل صورا لجثته وبزيه الرسمي ممددا على التراب وملطخا بالدماء عبر القنوات الفضائية، هي بالفعل إهانة لا نظير لها للجيش الجزائري الذي لولا حفنة من الفاسدين الذين يتحكمون فيه لكان خير جيش في العالم، إنها بالفعل كارثة لا نظير لها نشجبها وندينها ونطالب بالتحقيق ومحاكمة المتورطين فيها، فقد كنا نتذكر من قبل أنه يمنع منعا باتا تصوير العسكريين الجرحى أو حتى ذكر اسمائهم في وسائل الإعلام، ولكن هذا الجيش الذي إدعت قيادته من قبل أنه لا يهزم وانه جيش وطني يحافظ على أمن البلد والشعب، ويحفز الآباء على ان يرسلوا أبناءهم للخدمة الإجبارية او حتى للعمل بصفة رسمية داخل ثكناته، وقد كان الآباء يخشون على أبنائهم من الحواجز المزيفة عند عودتهم في إجازات لذلك يطالبونهم بالبقاء في ثكناتهم الآمنة، لكن بهذا الفعل الشنيع الذي تتحمل مسئوليته السلطة ما عادت الثكنات التي هي رمز السيادة آمنة، فكيف نرجو الأمن لشعب فقير اعزل لا يملك قفلا جيدا لبيته؟ !!!
الفصل الأخير الهزيل جدا هو تلك المسيرات "العفوية" هكذا نطقها مقدم نشرة الثامنة كريم بوسالم، إلا انه في ما بعد وضح أنها عفوية بدعوة من النقابات العمالية بالرغم من أنها نقابة يتيمة على غرار اليتيمة التي يشتغل بها، بالفعل كانت "عفوية" في يوم واحد وفي لحظة واحدة وعبر كامل التراب الوطني، فقد تعجبت الصحافة الجزائرية في الأيام القليلة الماضية عندما أقدم إسلاميون مسجونون في إسبانيا على إضراب عن الطعام في يوم واحد، بالرغم من توقيفهم في عزلة ومحاصرتهم، وتعجبوا من طريقة التواصل في ما بينهم، لكنهم لم يتعجبوا من خروج الآلاف من الجزائريين في مسيرة سموها عفوية تجاوزا… المسيرات نددت بالإرهاب طبعا وراحت تؤيد الرئيس في مسعاه للمصالحة الوطنية، فلست أدري المصالحة بين من ومن؟
إن كانت المصالحة التي عرفناها من خلال الميثاق تتعلق بالإسلاميين والمسلحين، فكيف يتم التنديد بهم وفي الوقت نفسه الإشادة بالمصالحة ومطالبة الرئيس بالإستمرار فيها؟
أمر آخر كيف يطالب النظام شعبه بالتصفيق لخيار المصالحة ووزير الداخلية يخير المسلحين بالإستسلام أو الموت ويعلمهم أنه لا خيار ثالث لهم؟ !!!
لا اظن أنه لو كان بإمكان النظام قتلهم وتمزيق جثثهم ورميها في الشوارع كما الفنا من قبل، ما قام بذلك ولا تأخر لحظة… في الوقت نفسه التي ينادي فيها بوتفليقة بالمصالحة ويستنفر الشعب على غرار التفجيرات يعتقل ويختطف علي بن حاج وهو أحد أطراف الأزمة الجزائرية إلى جهة مجهولة لا تعلمها حتى أسرته…
في الحقيقة أنني أحسست بقرف شديد وأنا اتابع هذه المسرحية الهزيلة، التي جاء بها النظام في ظل حمى سياسية أشعل فتيلها رئيس الحكومة الأسبق بلعيد عبد السلام بمذكراته المثيرة للجدل، وزاد الصراع أكثر بين أجنحة النظام وسرايا الحكم برحيل الجنرال العماري اسماعيل الذي رحل لربه فقيرا ويده طاهرة عفيفة من دم ومال الشعب الجزائري !! وقد أعاد رحيله للأذهان الصور الفظيعة للمجازر التي اقترفت في حق المدنيين الجزائريين، وطبعا أصابع الإتهام كلها وجهت للراحل العماري والذي سيرحل قريبا الجنرال توفيق… ولكن جاءت هذه المجازر الجديدة في باتنة ودلس لكن بعد رحيل الجنرال "الحاج"… !!!
طبعا هذا مجرد إنطباع مواطن بسيط ومغلوب على أمره ساقته أقداره يوما بان كان شاهدا على الأزمة الجزائرية من الداخل، وهاهو اليوم يسجل إنطباعاته فيها من الخارج على وحي تجربة ليست بالبسيطة ولا المجال للخوض في غمارها..
أنور مالك
9 سبتمبر 2007