إن الهاجس الذي تثيره تركيا التي تطرق الباب الأوروبي منذ عقود دون استجابة هو أفضل شاهد على ما يطرحه التواجد الإسلامي المتنامي في ما يسمى بالقارة القديمة من تحديات في ما يخص المقاربة للهوية الأوروبية وعلاقتها بالإسلام. وهو ما يفسر تنامي المظاهر السلبية تجاه الإسلام والمسلمين:
1— من سياقات وبنى (context and structure) متمثلة في المؤسسات والآليات والظروف التي تؤثر على توزيع وتلبية الضرورات الأساسية لحياة المسلمين، ومثل ذلك الإقصاء والتمييز وانعدام العدالة وهضم الحقوق وسلب الحريات وعدم المساواة، الخ؛
2— ومن اتجاهات سلوكية (attitudes) أي الميول الداخلية في الإدراك والفكر والعاطفة والإرادة التي تحرّك بعض الأوروبيين وتكيّف رؤيتهم لأنفسهم وتصورهم للمسلمين مثل الجهل والكراهية والاستكبار والعنصرية والحقد والخوف، الخ؛
3— ومن سلوكيات (behaviour) وتشمل الأفعال وردود الأفعال والأنشطة والعمليات إزاء المسلمين مثل التظليل والتهديد والشتم وتدنيس المواقع الرمزية من مساجد ومقابر والقمع والقتل، الخ.
ويمكن تصنيف مظاهر مواجهة الإسلام والمسلمين في أوروبا في أربع ظواهر وهي:
1— معاداة الإسلام (anti-islam’-ism’) الناجمة عن أسباب دينية أو أيديولوجية؛
2— معاداة ما يسمى بالإسلاموية أو الإسلام السياسي (’anti-’islamism) الناجمة عن الأصولية العلمانية؛
3— رهاب الإسلام (islamophobia) وهو الخوف من الإسلام الناجم إما عن الجهل بالإسلام أو عن عوامل نفسية وتاريخية تتعلق بـ”جروح جماعية” حديثة وقديمة أُهملت فلم تندمل؛
4— نقد الإسلام (islam-criticism)، أكان سلبيا هدّاما أم إيجابيا بنّاء، الناجم عادة عن الوعي أو الإحساس بتضارب (حقيقي أو وهمي) بين القيم الأوروبية والقيم الإسلامية.
النزاعات التي يفرزها تضارب القيم
يطرح التواجد الإسلامي المتنامي في أوروبا تحديات تتعلق بتضارب القيم الذي من شأنه إفراز نزاعات مفتوحة. ويعرّف أهل الاختصاص النزاع كونه علاقة بين طرفين أو أكثر (أشخاصا كانوا أم جماعات أم دولا أم حضارات) لهم أهداف متضاربة أو متناقضة (أو يتوهّمون ذلك). وقد تكون هذه الأهداف على مستوى المواقف أو المصالح أو الحاجيات أو القيم.
وخلافا لما هو متداول في العالم العربي والإسلامي فالنزاع ليس بالضرورة وأيّا كان شكله أمرا مذموما، فالاختلاف والتخاصم والتدافع بين الأشخاص والجماعات والدول ظاهرة بشرية وسنة ربانية لا جدوى من إنكارها، وهي تساهم في تحقيق التوازن بين المصالح وتحول دون الطغيان وهضم الحقوق، وتحفز على الإبداع من أجل تحسين أوضاع البشر بشكل عام. ويُعرّف فقهاء علم النزاع والسلم أنّ حالة السلم لا تكمن في غياب النزاع وإنما في حسن التعامل معه، فالذي يجب تفاديه هو أن يتحوّل النزاع إلى صدام عنيف قد يصل إلى درجة الصراع الدموي. و يُعرَّف العنفُ بأنه أيّ عمل أو لفظ أو اتجاه سلوكي أو بنية أو نظام يُلحق ضررا جسديا أو نفسيا أو اجتماعيا أو محيطيا بالأشخاص و/أو يعيقهم عن تحقيق كامل إمكاناتهم البشرية.
وتنص نظرية النزاع والسلم الحديثة بأنّ فض النزاع يبدأ بتحليله وتحديد الأهداف المتعارضة وفهمها، ثم يتبع ذلك تقييم لمدى مشروعية هذه الأهداف. فإذا كان النزاع بين طرف له أهداف مشروعة وطرف له أهداف غير مشروعة فإنّ حلّ النزاع يمر حتما بتحقيق أهداف الطرف الأول خاصة إذا كانت على صعيد الحاجيات الأساسية التي لا تستقيم الحياة بدونها، ويحق له في ذلك استعمال كافة الوسائل المشروعة ومنها المقاومة، فعند فقهاء علم النزاع والسلم “لا تفاوض في الضرورات الأساسية”. أما إذا كانت الأهداف المتعارضة للأطراف المتنازعة جميعها مشروعة — كليا أو جزئيا — فتأتي حينئذ مرحلة تحويل النزاع باستحداث واقع جديد يزول فيه وجه التعارض وهذه العملية ليست سهلة لأنها تتطلب قسطا كبيرا من روح الإبداع. ويعتبر النزاع الناجم عن تعارض القيم الأشدّ استعصاء للمعالجة، لصعوبة التنازل في مجال القيم، ولأنّ هذا الصنف يتطلب جهدا فكريا أكبر لتجاوز التناقض ومن ثَمّ تحويل النزاع.
والأمثلة عديدة عن النزاعات التي يفرزها التضارب في القيم، والتي نجد لها أشكالا في شتى المجتمعات. فمثلا التعارض بين قيمة التنمية البشرية والنمو الاقتصادي على وجه الخصوص، من جهة، وقيمة حماية البيئة، من جهة أخرى، إشكالية قائمة على الصعيد الدولي. وكذا التعارض الذي قد يقع بين قيم الحريات من جهة والحقوق من جهة أخرى كحرية التدخين للفرد وحق المدخنين في العلاج من طرف الدولة، والذي عادة ما يكون مكلفا للخزينة العامة، عند المرض الناجم عن التدخين. كما يمكننا الحديث عن تعارض بعض القيم الوضعية مع بعض القيم الإسلامية كتعارض المفهوم العقدي للديمقراطية (وليس مفهومها العملي الممارساتي) القائم على مبدأ الحاكمية للشعب مع مبدأ الحاكمية لله في الإسلام، إلخ. إلا أننا في سياق هذه المقالة نودّ التركيز على مثالين من تعارض القيم يخصان الإسلام في أوروبا وهما:
1— التعارض بين الحق في حرية الرأي والتعبير، من جهة، والحق في احترام المقدس، من جهة أخرى. وظهر ذلك جليا في أزمة الصور الكاريكاتورية المسيئة للرسول (ص) التي نشرتها صحيفة يولاندس بوستن الدنمركية في 30 سبتمبر 2005 وفي أزمة فلم “فتنة” الذي أنتجه السياسي الهولندي غيرت فيلدرز وأصدره على الانترنت في 27 مارس 2008.
2— التعارض بين الحقوق الديمقراطية، من جهة، وحقوق الإنسان، من جهة أخرى، أو بين الإرادة الشعبية، من جهة، والتزامات الدولة القانونية على الصعيد الدولي، من جهة أخرى. وظهر ذلك جليا في أزمة حظر المآذن في سويسرا وفي حظر الحجاب في المدارس الفرنسية والنقاش الدائر حاليا عن حظر النقاب في الفضاء العمومي في فرنسا.
إنّ التواجد الإسلامي في أوروبا الذي يتسبّب في مثل هذه الإشكاليات التي قد تبدو شائكة، من شأنه أيضا أن يثري النقاش حولها وأن يساهم في طرح رؤى لمعالجتها. فمثلا إذا اعتبرنا النظرية الإسلامية للحقوق نجد أنّ المقاربة الإسلامية لمفهوم الحق تتميّز عن غيرها بما يلي:
1— الحق عند المسلمين مصطلح ذو وجهين، فهو يشمل في نفس الوقت مفهوم الحق ومفهوم الواجب المتعارف عليهما في الغرب، وهنا تكمن صعوبة ترجمة مصطلح الحق للغات أخرى. فليس هناك حق لك إلا وهو حق عليك. فمثلا إذا كان لك الحق في التعبير فعليك في نفس الوقت، من جهة، واجب ضمانه للغير، ومن جهة أخرى، واجب ضمان أنّ ما تتلفّظ به لا يمسّ حقا من حقوق الغير.
2— لا ينظر المسلمون إلى الحقوق نظرة شظوية أو نووية بل نظرة كلية شاملة فهي لا تُعتبر عندهم منفصلة بل مترابطة بعضها ببعض، تُكوّن جسما متماسكا متوازنا لا يطغى فيه أحد الحقوق على حقّ آخر. ولذا فإنّ الحق في حرية التعبير والحق في حماية المقدس، على سبيل المثال، قد يبدوان متعارضين إذا نُظر إليهما كحقّين منفصلين، لكن يزول التعارض الظاهر إذا اعتبرا مترابطتين متكاملتين.
أزمة حظر المآذن في سويسرا
في الفاتح من مايو 2007 أطلقت في سويسرا مبادرة شعبية تهدف إلى إضافة بند إلى المادة 72 من الدستور الفدرالي يحظر بناء المآذن في البلد، وذلك من طرف عدد من الشخصيات السياسية معظمها من اتحاد الوسط الديمقراطي وهو يصنف كحزب من أقصى اليمين. وبعد حملة لجمع التوقيعات دامت سنة كاملة، تمكّن المبادرون من الحصول على النصاب المطلوب (100 ألف توقيع) وقدموا في 8 يوليو 2008 إلى أمانة المجلس الاتحادي 114137 توقيعا، أُقر 113540 منها. وابتداء من ربيع 2009 كان هناك نقاش حاد في البرلمان الاتحادي حول المبادرة الشعبية التي اعتمدت في نهاية المطاف بأغلبية واسعة. وقد ناشد البرلمان الاتحادي وكذا المجلس الاتحادي الشعب السويسري برفض نص المبادرة عندما تُطرح للتصويت.
وبعد اعتماد البرلمان الاتحادي المبادرة الشعبية للتصويت، وحين حُدّد تاريخ ذلك، انطلقت حملة تحسيس وتحميس وحشد للناخبين دامت عدة شهور. وأثناء هذه الحملة، كما كان الحال طوال حملة جمع التوقيعات، كان هناك موقفان يتواجهان: الأول يرى في المآذن “رموزا للهيمنة السياسية” وأن حظرها لا يمس بحق المسلمين في حرية الاعتقاد والتديّن، بينما يعتبر الموقف الثاني أن مثل هذا الإجراء من شأنه أن ينتهك حقا أساسيا للإنسان ألا وهو حرية التعبير عن المعتقد، وأنّ الإجراء لا يمكن تطبيقه لأنه يتعارض مع المواثيق التي سويسرا هي طرف فيها. وقد ضخ المبادرون في حملتهم إمكانيات معتبرة ومتعددة الأشكال: الحضور الدائم في وسائل الإعلام، المساهمة المتكررة في النقاشات العمومية، الاستعمال المكثف للملصقات، إلخ. وفي مقابل ذلك كان الحضور الإسلامي في هذه الحملة خجولا قريب الانعدام. فكان بذلك النقاش حول مسألة المآذن غير متوازن ولا متماثل، يتميّز غالبا بغياب مناقضين ذوي مصداقية في وجه أنصار المبادرة.
في 29 نوفمبر 2009 تم قبول نص المبادرة عن طريق الاقتراع الشعبي بنسبة 57.5% من المصوتين وبمشاركة نسبتها 53.4%، وبأغلبية الولايات إذ رفض نص المبادرة من قِبل أربع ولايات فقط من أصل 26 وهي جنيف وفو ونوشاتيل وبازل-المدينة. وقد أثارت هذه النتيجة دهشة، بل صدمة الجميع، حتى في معسكر المبادرين الذين لم يكونوا يتوقعونها. وما زاد في الدهشة هو أن استطلاعات الرأي التي نُشرت عشية الاقتراع توقّعت رفض نص المبادرة. وبعد التصويت طُرح السؤال الآتي في كل الأوساط السويسرية من حكومة ونخبة وقوى سياسية، بما في ذلك الأوساط المبادرة: ما هي كيفية التعامل مع “ما بعد 29 نوفمبر” في داخل سويسرا من أجل الحفاظ على اللحمة الوطنية، وفي الخارج حيث قد يبدو الواقع السياسي في سويسرا مثيرا للاستغراب فاقدا للشرعية والمصداقية.
لا شك أنّ الغياب الملحوظ للأصوات الإسلامية في النقاش الذي رافق حملات جمع التوقيعات وحشد المنتخبين، وكذا الخطاب “الملائكي” لمن كانوا يعارضون المبادرة، كانا من أهم العوامل التي تفسّر نتيجة اقتراع 29 نوفمبر 2009 غير المرتقبة.
ويمكن ردّ نقص التمثيل الإسلامي في النقاش العمومي إلى ضعف التنظيم وقلة المشاركة في الساحة العمومية. كما يمكن تفسير ضعف التنظيم بعدة عوامل منها:
1— انعدام مؤسسة دينية في الديانة الإسلامية على غرار الفاتيكان بالنسبة للكاثوليك؛
2— تنوع المدارس الفكرية والفقهية الإسلامية المتواجدة في سويسرا؛
3— رغبة السلطات السويسرية في عدم التدخل في شؤون المسلمين الداخلية؛
4— تدخّل الدول والتنظيمات الأجنبية.
وإنّ قلة المشاركة الإسلامية في الساحة العمومية وخاصة في العمل الجمعوي والسياسي والإعلامي يحرم السويسريين ذوي الديانة الإسلامية من مسموعية ومرئية ومن تفاعل في المجتمع ويحكم عليهم بالعزلة الرمزية. وتشترك النخب السويسرية (الإعلام، القوى السياسية والجمعوية، النقابات، إلخ.) من مسلمين وغيرهم في المسؤولية عن هذا الوضع.
كما هو الحال في العديد من الدول الأوروبية، غالبا ما يُنظر إلى السويسريين ذوي الديانة الإسلامية على أنهم “كيان أجنبي” مرتبط بالهجرة واللجوء، ويُعتبرون “مسلمين” يقيمون في سويسرا، فهم بذلك أصلا – أو أصوليا – مسلمون ثم بعد ذلك سويسريون. فلا غرابة إذن أن يطالب بعض المتطرفين بطردهم من سويسرا، لأنهم، في نظر هؤلاء المتطرفين، يشكلون خطرا داهما على البلد، وشكلا من أشكال “الطابور الخامس”. وإنّ هذه النظرة تجانب الواقع الاجتماعي الجديد في سويسرا المتمثل في التواجد الإسلامي في المشهد متعدد الديانات للبلد، وينبغي تصحيح هذه النظرة لأنها تساهم في الخلط بين إشكاليتين منفصلتين وهما: من جهة، التواجد الإسلامي في سويسرا بإسهاماته وبالمخاوف التي قد يثيرها، ومن جهة أخرى، ظاهرة الهجرة بما تطرحه من تحديات داخل المجتمع. ويجدر بالتالي في الخطاب العمومي الحديث عن “السويسريين ذوي الديانة الإسلامية” عوض “المسلمين السويسريين”، أو “مسلمي سويسرا”، أو “المسلمين المقيمين في سويسرا”، وحتى عبارة “الجالية الإسلامية في سويسرا” ينبغي تجنبّها لسببين، فهي تلمّح إلى الانطواء على الذات وتوحي بأنّ مصير هذه المجموعة من المواطنين هو حتما الجلاء.
الهُوية الأوروبية في واقع القرن الحادي والعشرين
خلافا لما كان عليه الحال منذ عقود خلت، لم يعد التواجد الإسلامي في أوروبا مرتبطا حصرا بظاهرتي الهجرة واللجوء، بل أصبح مظهرا جليا في المشهد الأوروبي الحديث. ولا شك أنّ هذا الأمر يطرح عددا من الإشكاليات للأوروبيين ذوي الديانة الإسلامية وأيضا لمواطنيهم غير المسلمين. ومن أهم الإشكاليات المطروحة تلك المتعلقة بالهُوية التي أصبحت مركّبة وأضحى التعامل معها أكثر تعقيدا من ذي قبل. فمن جهة يتعيّن على الأوروبيين من ذوي الديانة الإسلامية والمنحدرين من أصول غير أوروبية أن يجدوا صيغة مثلى للربط بين مفاهيم المواطنة والجنسية والديانة، وهي مكونات أساسية للهُوية. ففيما كانت “حقيبة السفر” دوما عالقة في ذهن الأجيال السابقة من المهاجرين إلى أوروبا من الجنوب وذلك لحنينهم الثابت لأوطانهم الأصلية، ترى الأجيال الجديدة من الأوروبيين من ذوي الديانة الإسلامية أنّ أوطانها الأوروبية هي المستقر الدائم والمقر الذي تمارس فيه المواطنة، وهي في نفس الوقت متمسكة بانتمائها الإسلامي. ومن جهة ثانية يتعيّن على الأوروبيين من غير المسلمين أن يعوا العلاقة التي تربطهم بنوع جديد من المواطنين يدينون بديانة كانت تقليديا مرتبطة في الوعي الجماعي الأوروبي بالشرق، بما يحمله هذا المصطلح من خيال. وقد حان الوقت لإطلاق تبادل بين الطرفين لتحديد ماهية ومعالم هُوية أوروبية تتلاءم مع واقع القرن الحادي والعشرين.
عباس عروة
31 مارس 2010
مقالة نشرت في مجلة التواصل في عددها 20 المخصص لمفهوم الهُوية
تعليق واحد
الله يجازيك يا سي عباس عن هذا التحليل القيٌم ؛ ودعني فقط، كما بات الأمر من “اختصاصي” أن أندٌد بمعظم أنظمتنا المارقة التي نفضت أياديها من شؤون ومصالح أبنائها في الخارج – سواء مزدوجي الجنسية أو المقيمين – كما هو الشأن في الداخل على العموم. إذ، كما تعلم جيٌدا، بالنسبة إلى المقيمين، لو كانت السٌفارات والقنصليات التابعة لدوٌلنا قائمة على حماية أبناءنا كما يقتضيه واجبها الأوٌل لما تُركت جالياتنا في أوروبا عرضة للإذلال والكراهية والإهانة من قِبَل سلطات وشعوب البلدان المستضيفة.