إن منظمة التحرير التي تدخل هذه الأيام عامها 45 لم تعلن عن فشلها. وليتها كانت كذلك. بل أعلنت ردتها عندما استنت بسنن الأنظمة العربية التي باعت العرض والأرض بثمن بخس. لقد تحولت " ف ت ح " من فتح إلى " ح ت ف " حقيقي للقضية المحورية للأمة.
فقد كانت منظمة التحرير أيام عزتها تستمد تلك العزة من عزة محيطها العربي الذي لم يكن بينه مقاوم أيام كان هذا المصطلح أو هذه الظاهرة كانت عامة لا تحتاج إلى من يرفع شعارها أو يتبناها. باعتبار العرب كلهم أنظمة وتنظيمات. نخبا و شعوبا من أعلاها مصر و عبد الناصر إلى أدناها كلها كانت مقاومة. و بغض النظر عن إيديولوجيات الحكام و طبيعة أنظمة الحكم. فقد كانت غاية طرد الصهاينة وتحرير الأراضي المحتلة عقيدة سياسية ودينية وثقافية بالإضافة إلى كونها "موضة" تلك الفترة الزمنية عكستها موجات التحرر التي انعتقت فيها شعوب كثيرة من نير الاستعمار. وكانت شعوب أخرى قاب قوسين أو أدنى من طرد مغتصبي أراضيها ومصادري قرارها على غرار الشعب الفيتنامي. فلم يكن يومها من الصعب على رجل مثل القائد الراحل ياسر عرفات أن يجد بين العرب وحتى بين العجم من يكون ركنا شديدا يأوي إليه فيحتضنه ويؤيد حقه وحق شعبه في تقرير المصير. و لم يكن أبو عمار وجماعته بأقل كاريزما و إلهاما من داعميه. سيما وأنه كان ينعم بتأييد عربي منقطع النظير بفعل دعم القوى العربية الكبرى ماليا وسياسيا وعسكريا ودبلوماسيا. وعلى رأسها سعودية الملك فيصل وعراق البعث ومصر الناصرية والجزائر البومدينية. وبفعل تكاثف جهود هذه الأنظمة القوية الفاعلة كان لزاما على بقية العرب تبني المواقف نفسها طوعا أو قصرا. كانت ترجمة هذه المعطيات على الصعيد السياسي قرارات قمة الخرطوم الشهيرة بلاءاتها الثلاث. وعلى الصعيد العسكري شن حربين شاملتين ضد الكيان الصهيوني. رغم أن نتيجة الأولى كانت نكسة فظيعة في عام 1967. إلا أنها لم تنل من عزيمة العرب مثقال ذرة. بل كانت نتائجها الوخيمة أسبابا مباشرة للثأر وتحقيق انتصار خرافي غير مسبوق في رمضان 1973. هذا النصر الذي كان بدوره سببا رئيسيا للصهاينة للإعادة النظر الجذرية في تسيير صراعهم ضد العرب ونقله من المواجهة العسكرية إلى الخبث و الدهاء السياسي والدبلوماسي الذي خبرت إسرائيل أنه البلسم الناجع في صراع مرير كهذا يختلف عن أي صراع على الأرض. لأنه لم يكن صراع تصفية استعمار ولا صراع حدود. بل هو صراع وجود عنوانه العام " أكون أو لا أكون". وهو غير قابل لحلول وسيطة. وبرحيل القادة الكاريزما أو بالتعجيل برحيلهم أو اغتيالهم. كما حدث للملك فيصل ثم هواري بومدين الذي بنا صرحا حقيقيا لمواجهة الصهيونية على أنقاض الأطروحة الناصرية بإنشاء جبهة الصمود والتصدي، الهادفة إلى الصمود في وجه الصهاينة والتصدي لمكرهم ولخيانة العرب مخافة ركوبهم موجة المقاولة بدل المقاومة والتنازل عن الحقوق بعد زيارة السادات المشؤومة إلى القدس ثم إمضاء شهادة وفاة القضية الفلسطينية في زواج مثلي بين القاهرة وتل أبيب بمباركة ذئب الدبلوماسية الأمريكية الماكر هينري كيسنجر. وبعد هذا وجدت الحركة الوطنية الفلسطينية نفسها خارج مجال التغطية العربية. وشاة قاصية عن القطيع المدجن الذي اقتفى آثار التيس الأكبر في زريبة العار والانبطاح. فانتقل هذا الانقسام والانشطار الذي نكبت به الأمة إلى الجسد الوطني الفلسطيني. وهو المتكون من موزاييك من الإيديولوجيات، ما حملها إلى الانضواء في تكتل منظمة التحرير إلا ضمان بقائها و استمداد أسباب استمراريتها من القوى العربية الكبرى. و بمرور الزمن اكتشفنا أن وحدة الصف الفلسطيني ووحدة كلمته أملتها ظروف الستينيات والسبعينيات. فكانت إفرازا لوحدة الأمة. فلما تشرذمت وحدة العرب الرسمية، تشرذمت وتشظت اللحمة الفلسطينية. ورغم ذلك أبت فتح أن تكون غير ما ألفت نفسها عليه من الوصاية على الشعب والقضية. ولم تكن في مستوى هذه المهمة. إن المحطة التي بلغتها حركة فتح راهنا تجعلنا كعرب نعيد النظر في أمرين مهمين. أولهما تشبيه فتح بجبهة التحرير الجزائرية إبان الثورة التحريرية. و ثانيهما قضية الديمقراطية كمطلب فلسطيني خصوصا وعربي عموما.
ابتداء ليس هنا ثورة نظيفة. والثوار أيا كانت إيديولوجيتهم السياسية و عقيدتهم الدينية ليسوا ملائكة منزهين عن الشطط والانحراف. ولهذا فأنا شخصيا أتفهم أي تجاوز يصدر من أي ثائر. لأن تلك التجاوزات عادة ما يقترفها الثوار إما بحسن نية وإما تفاديا لما هو اخطر على ثورتهم. ولنا في ثورتنا الجزائرية وقفات قد يعدها البعض نكبات أو على الأقل كبوات. كالصراع المرير بين فريق الداخل وفريق الخارج أو الصراع على الأولوية بين العسكر والسياسيين. ولكنه كان يمثل نوعا من التطرف الحقيقي في وجهات النظر لم يفسد للود قضية. وحتى الاغتيالات التي طالت بعض الرموز أولت يومها بأنها فداء للثورة. على غرار مقتل عبان رمضان ومذبحة الطلبة. بدليل أن الكل كان يتلافى حتى مجرد الخوض فيها سلبا أو ايجابيا. وما عادت إلى الوجهة والنبش في ملابساتها إلا راهنا كقضايا تاريخية لبلد مستقل. وهذا مع الأسف ما لم تهتد إليه الثورة الفلسطينية التي أصبح ما يلاقيه فيها مناضل في تيار ما من قبل نظيره في تيار آخر أكثر مما يحيق بالاثنين من لدن الصهاينة الملاعين. و هو ما أتاح لإسرائيل هامشا واسعا للمناورة وشراء الذمم وعرض صفقات العمالة على"المقاولين" لتحييد المقاومين سواء بالتفاوض أو بغيره (الخيانة و العمالة المباشرة). بحيث نجحت في تكسير حركة فتح إلى "فتحين" متناقضين. أحدهما كان بزعامة أبي عمار المفاوض بالعقلنة والحنكة الثورية المتبنية لقاعدة "خذ وطالب" مع عدم التجرؤ على تجاوز الخطوط الحمراء المتمثلة في الثوابت الوطنية. والتي عبر عنها رحمه الله باليدين الشهيرتين واحدة تحمل غصن الزيتون والأخرى تحمل البندقية. وربما يكون أبو عمار في هذا و أمام تنكر بني جلدته من العرب له، ما جعله يتراجع عن موقف المغالبة الثورية ويرضى بما هو محرم في عرف كل الثورات الشعبية التي سبقت ثورته. على غرار الثورتين الأشهر الفيتنامية والجزائرية اللتان كان مسلحيهما في ساحة الوغى يفاوضون جيوش العدو بلغة الحديد والنار في نفس الوقت الذي كان فيه دبلوماسيوهما على طاولات المفاوضات يتغالبون بالحقوق ويتساجلون بالمواثيق والقوانين. وهذا أيضا وجه اختلاف عميق بين ثورة الجزائر وثورة فلسطين. أما فتح الثانية التي صنعت على أعين الصهاينة أيام كانت فتح الثورية تعد أنفاسها الأخيرة مع أنفاس أبيها الروحي القائد أبو عمار. فكانت جماعة "الدحلانيين" التي تولى دايتون كبر إخراجها إلى الوجود اعتمادا على بعض المرتزقة ممن باعوا الدين والطين لقاء مغانم دنيوية زائلة من أمثال محمد دحلان وجبريل الرجوب وخليفة ياسر عرفات رئيس بلدية الضفة الغربية. علاوة على لوردات الفساد في هذا الكانتون المالي الذي جعل من حركة فتح سجلا تجاريا لتحقيق أغراضه الدنيئة. فكانت فتح الممسوخة هذه أو سمها "حتف" مجموعة من عبيد المتاع بتعبير لينين، الذي يصف هؤلاء بأنهم أخطر على الثورة من أعدائها الحقيقيين .
المحور الثاني الذي يجب إعادة النظر فيه بجدية هو بلا شك الغاية الديمقراطية التي وبالنظر إلى الواقع الفلسطيني. يمكن أن نكون أشد الناس كفرا بها، و لو أنها لم تخدم العرب وبقية دول العالم الثالث عامة. إلا أن وقعها على مصير القضية الفلسطينية كان أنكى و أشر. صحيح أنها أفرزت حماس كقوة صاحبة مشروع وطني يستمد شرعيته من الشعب والدين والوطن. ويعمل على الحفاظ على ما يخدم هذه الثلاثية ويتماهى معها. إلا أنه أعطى فرصة للصهاينة لتقسيم ما جادت به تل أبيب من أرض على الفلسطينيين قبل أن تستعيده. حتى إنه يكاد المرء يؤمن بأن الحقوق أسقطت و إسرائيل نالت بهذه المؤامرة التي شارك فيها عرب الجور في الجوار والمجتمع الدولي ورموز الفساد الفتحاويين ما لم تنله في أربعة حروب ضروس بما فيها نكسة جوان 1967.
هذه مسيرة حركة فتح التي اختزلت منظمة التحرير بدل أن تكون عضوا فيها ورفضت مشاركة الفصائل الأخرى لها في السلطة، خاصة المقاومين على غرار حماس والجهاد الإسلامي. فتبرأ منها الشعب برمته بأن عاقبها في أول انتخابات ديمقراطية. وتحولت في النهاية إلى صنو لأي نظام عربي عميل يحكم شعبا لا صلة له به ويكتم أنفاسه ويسوسه بالحديد والنار ويتعاطى مع الخارج بالعمالة والبزنسة الرخيصة.
عبد الله الرافعي
4 يناير 2009