منظر التغريب والشيوعية يتعلق قلبه بمشايخ جمعية العلماء
الفيلسوف المفكر الفرنسي، رجاء قارودي نموذجا..
وثيقة إشهار إسلامه تنشر لأول مرة
مصطفى محمد حابس: جنيف / سويسرا
إن الاهتمام بالمبادئ والشخصيات والمحطات التاريخية التي أسست نظما ودولا، بل وأمما، له من المعاني والدلالات الشيء الكثير في استنهاض الهمم وإحياء مناقب الأسلاف وما أنجزوه، بل فيه بعثا وتتويجا لماضي الأجداد الحافل بالخبرات والعبر التي بصمت التاريخ عند الشعوب المتحضرة، عبر حلقات متراصة الفصول يشد بعضها البعض الآخر، ويحمي حاضرها ماضيها ويستشرف مستقبلها بثقة وأمل كبير، ومن باب الاعتراف التاريخي وجب التنويه بإنجازات الأقوام الذين بذلوا الغالي والنفيس في سبيل تأسيس دولهم وفق دساتير ومناهج ونماذج تخدم البلاد والعباد.. تخدم الجميع حكاما ومحكومين وليس كما هو الحال – مع كل أسف- في عالمنا العربي والإسلامي تفصل الدساتير على مقاس شخصٍ ما أو عائلة حاكمة ما وفق هواها وأطماعها الدنيوية الآنية، وتؤرخ لهم، بل وتبيض الصفحات السوداء أو الرمادية لبعض الزعماء متناسين مبدأ التداول الحضاري البديهي بين الأجيال، القائل:” لو دامت لغيرك ما وصلتك”، والعمل بهذا المبدأ النبيل، يستحق من الأحفاد والأبناء والمحبين كل الإجلال والاحتفاء بشخصيات بصمت تاريخها بمنارات العدل والإنصاف إلى المستضعفين عبر الأجيال..
القضية الفلسطينية، في فكر وأقلام غير العرب
ونحن نحتفي بذكرى ميلاد الـ 93 لجمعية العلماء، حري بنا أن نتذكر اليوم جهود علماءها، على وقع حرب ظالمة مجنونة على أهلنا في فلسطين منذ أشهر، أحببتُ كعادتي أن أعود لبعض الشخصيات التي كانت لها صولات وجولات دفاعا عن القدس وفلسطيننا السليبة، من معاصرينا، أول رموز أجيال الصحوة المباركة في الديار الأوروبية، منهم شيخنا الجليل العلامة محمود بوزوزو الذي أهدى مكتبته النفيسة لجامعة جنيف كما أهدى مكتبه الواقع في شارع “روايوم (مملكة)” لجمعية إنسانية تدافع عن شعب فلسطين، وشيخنا الجليل الدكتور سعيد رمضان الذي أحترق دفاعا عن فلسطين بقلمه وروحه، وشيخنا الجليل الدكتور توفيق الشاوي (لمّا كان في فرنس والمانيا)، صاحب كتاب “نصف قرن من العمل الاسلامي”، وشيخنا الجليل فيصل مولوي (المفتي الفطن لمّا كان في فرنسا)، وشيخنا الجليل عصام العطار الشاعر المفكر القدوة، الذي رحل عنا هذا الأسبوع وكانت أخر كلماته “دفاعا عن فلسطين وغزة هاشم، وقد شيّع جثمانه الطاهر بمدينة آخن الألمانية التي كان يستضيفنا بسمته في مركزه الإسلامي، أي مسجد بلال، مشايخنا الأفاضل يتقدمهم الشيخ عصام العطار و الشيخ متولي موسى وأستاذنا الكبير الدكتور سي العربي كشاط، عميد مسجد الدعوة الأسبق، وغيرهم كثير، حيث كانت أيامها ندوات تنويرية فكرية تربوية ماتعة، في تسعينات القرن الماضي، يأتيها الشباب المسلم من جل دول، إذ لا تخلو ندوة من دراسة لوضع الامة البائس و
ما أكثر جروحنا الدامية في كل ربوع الوطن الإسلامي، ومنها خصوصا فلسطين الجريحة، الى يوم الناس هذا!!
في الملف الفلسطيني، شخصيات من غير العرب استوقفتني!!
ومن غير العرب، هناك العديد من المفكرين الفرنسيين والغربيين الذين أنصفوا قضايانا العديدة، ومنهم قضية فلسطين، وقد ذكر كاتب هذه السطور تعريفات مسهبة ومواقف مشرفة لبعضهم، لا داعي للرجوع اليه والإطناب، يكفي أن نذكر منهم المفكر الفرنسي” فرانسوا بيرقات” و”إدوار سعيد” و“ريجيس دوبري” و”إدوي بلنيل ” و”ميشال أنفري” .. وغيرهم ممن خصصنا لهم مقالات طويلة، لمن يرغب من القراء الافاضل العودة اليها …
أما الشخصية التي استوقفتني هذه الأشهر في ملف من دافعوا عن القضية الفلسطينية، من غير العرب، حتى أخر رمق من حياتهم والذي حوكم في العدالة السويسرية والفرنسية لمدة سنوات، من أجل مواقفه تلك، والتي أسالت كثيرا من الحبر والدموع، بل وكثيرا من التجاذبات طيلة عقود الثمانينات والتسعينات، المفكر الفذ المسلم الفرنسي، رجاء (روجي) غارودي (1913-2012)، الذي قد نختلف مع بعض طروحاته أو نوافقه في بعضها الآخر، إلا أن الشيء الذي شدني أليه والذي لا يعرفه كثيرا من الناس أن المرحوم غارودي يعتبر الجزائر وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين هي سبب الفضل عليه وملهمته ومرشدته لاعتناقه الإسلام !!
في الجزائر عاش تحولاً فكرياً جذرياً بلقائه بعظمائها في ثلاث محطات مفصلية ..
حيث عاش في الجزائر هذا المفكر الفرنسي، تحولاً فكرياً جذرياً بلقائه بعظمائها في ثلاث محطات منفصلة رئيسية من عمره، الأولى لما كان سجينا محكوما عليه بالإعدام في مدينة “الجلفة ” ورفض مجندون جزائريون تنفيذ حكم الإعدام فيه رميا بالرصاص بعد صدور الحكم عليه من الجنرال الفرنسي بيتان؟؟
والمرحلة الثانية لما التقى بشيخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين العلامة الملهم البشير الإبراهيمي فأبهره هذا الأخير، بحقيقة الإسلام وأبعاده ورجاله في الجزائر، خاصة شخصية الأمير عبد القادر التربوية الروحية الجهادية!! وغارودي يومها كان منظر الشيوعية في العالم وله فيها صولات وجولات عبر كتبه وندواته، والمرحلة الثالثة لما أشهر إسلامه، على يد أحد تلاميذ الامام العلامة عبد الحميد بن باديس، المغفور له الإمام العلامة شيخنا محمود بوزوزو، إمام مسجد جنيف بسويسرا، بعد لقاءات به، وبعد جولات ومطارحات عديدة معه في مسجد جنيف الكبير ومكتبه بشارع (روايوم)، بجنيف!
قصة إسلام روجيه غارودي، على أيدي وعقول جزائرية
إن أحد أسباب انجذاب المفكر الفرنسي قارودي نحو الإسلام هي حياة المسلمين العاديين، وإخلاصهم لقيمهم، واحترامهم للإنسان؛ حيث يروي قارودي نفسه القصة التالية حينما كان محكوما عليه بالسجن لمدة ثلاث سنوات، في أحد المعتقلات الفرنسية النازية في الصحراء الجزائرية في شهر سبتمبر من عام 1940، في حكومة فيشي، بواسطة الماريشال بيتان، وبقي رهن الاعتقال في معسكر بمنطقة الجلفة في الصحراء الجزائرية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية!!
شرف المحارب المسلم يمنعه من أن يطلق النار على إنسان أعزل !!
ويحكي عن تلك الفترة روجي غارودي، بقوله:” هناك وقع حادث عجيب فعلا، فقد تزعمتُ تمردا في معسكر الاعتقال، وأجرى الكموندور الفرنسي قائد المعسكر محاكمة سريعة، وأصدر حكما بإعدامي رميا بالرصاص، وأصدر أوامره بتنفيذ إطلاق النار، ولم أفهم السبب لأول وهلة لأنني لا أعرف اللغة العربية، وبعد ذلك علمت من مساعد جزائري بالجيش الفرنسي كان يعمل في المعسكر أن شرف المحارب المسلم يمنعه من أن يطلق النار على إنسان أعزل!! وكنتُ هذه أول مرة أتعرف فيها على الإسلام من خلال هذا الحدث الهام في حياتي، وقد علمني أكثر من دراسة عشر سنوات في السوربون !!”
“كان ذلك، يوم الرابع من آذار مارس سنة 1941م كنا زُهَاء 500 مناضل من المعتقلين والمسجونين لمقاومتنا الهتلرية، وكانت حراستنا بين الأسلاك الشائكة في معسكر الاعتقال مدعومة بتهديد رشاشين، وفي ذلك اليوم – بالرغم من أوامر القائد العسكري وهو فرنسي- نظمت مظاهرة على شرف رفاقنا من قدامى المتطوعين في الفرق الدولية الإسبانية، وقد أثار عصياننا حفيظة قائد المعسكر، فاستشاط غضبًا وأنذرنا ثلاثًا، ومضينا في عصياننا، فأمر حاملي الرشاشات – وكانوا من جنوب الجزائر- بإطلاق النار، فرفضوا، وعندئذٍ هددهم بسوطه المصنوع من طنب البقر، ولكنهم ظلُّوا لا يستجيبون، وما أجدني حيًّا إلى الآن إلا بفضل هؤلاء المحاربين المسلمين.” !!
” وعندما أطلق سراحي بقيت في الجزائر مدة عام، وخلاله التقيت برجل عظيم، كان له أكبر الأثر في نفسي – هو الزعيم الإسلامي الشيخ البشير الإبراهيمي – رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين – و قد قمت بزيارته بصحبة عمار أوزقان، صاحب كتاب ” الجهاد الأفضل”، أو أفضل قتال (بالفرنسية).
Ouzegane, Ammar (1 Jan 1962). Le meilleur combat
الأمير عبد القادر والشيخ الابراهيمي في فكر رجاء غارودي ..
وأردف قارودي بقوله: ” وفي مقر الشيخ الابراهيمي لاحظت صورة كبيرة لرجل مهيب .. ولأول مرة أتعرف على صاحبها. عندما شرح لي الشيخ البشير الإبراهيمي جوانب من حياة الأمير عبد القادر الجزائري – عدو فرنسا – كبطل محارب و عابد ناسك.. بل واحد من أعظم أبطال القرن التاسع عشر..
ويعتبر هذا الدرس – من الشيخ الإبراهيمي بالنسبة لي – المرة الثانية التي التقي فيها بالإسلام “..!!
بعد ذلك عدت إلى فرنسا، وكانت المرة الثالثة إبان الحرب الجزائرية، وأنا أعتبر الجزائر وطني الثاني، وقد اتخذت موقفا ضد الدعاية الاستعمارية الفرنسية – كما هو معلوم – ونشرت موضوعات كثيرة عن الممارسات الفظيعة التي كان ينشرها قادة الحرب (الفرنسيين) من أمثال الجنرال بيجو ..
أما أخر وأطول اتصال لي بالإسلام، فقد بدأ عام 1968 عندما ظهرت – في اعتقادي – أول بادرة تغيير عند الأوروبيين بشكل عام، و في السياسة الفرنسية بشكل خاص، وقد كنت في هذه الفترة أعمل أستاذا بالجامعة، ولكنني تعلمت مع مر الأيام من طلبتنا وعمالنا درسا كبير، مفاده أن بعض الأنظمة قد تشكل خطورة كبيرة بنجاحها أبعد من الخطورة التي تنتج عن فشلها.. ويتمثل النظام في النمط الغربي سواء رأسماليا كان أو شيوعيا !!
غارودي يشهر إسلامه بجنيف على يد إمامها الشيخ محمود بوزوزو
والتحول الثالث والأخير، كان في جنيف بلقاءات متعددة بشخصية جزائرية ثالثة مع إمامها المناضل الشيخ محمود بوزوزو، الأستاذ بمعهد الترجمة بجامعة جنيف، والداعية والشاعر بل وأحد أنبل رجال و تلاميذ العلامة الجزائري، عبد الحميد بن باديس، وساعده الأيمن العلامة الابراهيمي، الذي تعرف عليه أثناء الثورة، لما أسس “مجلة المنار”، و صار بعدها أحد أقلام البصائر قبيل الثورة الجزائرية المباركة ..
وكان من آخر لقاءاته قبل اعتناقه الرسمي و العلني للإسلام مع الشيخ بوزوزو، لما دعي الى جنيف لإلقاء محاضرة عن أحد كتبه، اين التقى أيضا بسلمى نورالدين التي أصبحت زوجته بعد ذلك، حيث كتب يقول، عنها:” لما جئت لإلقاء المحاضرة حول كتابي الجديد ” الإسلام يسكن حضارتنا”.. رأيت فيها صورة حية للإسلام في وسط محيط أوروبي.. صحيح أنني زرت عدة بلدان إسلامية، مثل الجزائر – حيث تأثرت كثيرا بوجودي هناك – و المغرب وإندونيسيا و مصر والعراق .. ولكنني لم أكن أقترب كثيرا من العلاقات الحياتية للإنسان المسلم …
وقد أشهر إسلامه أيامها – رسميا بتاريخ 3 جويلية من عام 1983 -، في مسجد جنيف على يد الإمام العلامة، شيخنا محمود بوزوزو – بحضور زوجته ومدير المؤسسة الثقافية الإسلامية (المسجد الكبير) أيامها، السعودي الدكتور مدحت شيخ الأرض كما هو موضح في الشهادة المرفقة، لهذا المقال.
وبالتالي يكون غارودي لقد وَعَى عند دراسته للثقافة غير العربية الإمكانات الخاصة للإسلام، فالرجل لم يسلم بمحض الصدفة بل جاء إسلامه بعد بحث طويل في حضارات وديانات العالم كله؛ حيث كتب غارودي يقول:” أحب أن أقول: إن انتمائي للإسلام لم يأتِ بمحض الصدفة، بل جاء بعد رحلة عناء وبحث، ورحلة طويلة تخللتها منعطفات كثيرة، حتى وصلت إلى مرحلة اليقين الكامل، والخلود إلى العقيدة أو الديانة التي تمثل الاستقرار، والإسلام – في نظري- هو الاستقرار”.
وجد روجيه غارودي في الإسلام ما لم يجده في غيره من الأيديولوجيات والمعتقدات والأفكار والنظريات الفكرية التي تفرقت بين الكتب والمجلدات،
وقد حلّ ضيفا في العديد من المرات بعد إسلامه على ملتقيات الفكر الإسلامي التي تنظمها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف الجزائرية، أين تعرف عليه كاتب هذه السطور وعلى بعض أطروحاته و كتبه، رفقة أستاذنا الكبير المرحوم عبد الوهاب حمودة، الأمين العام الأسبق للوزارة، و الوزراء الشيخ عبد الرحمان شيبان وشقيقه السعيد شيبان – رحمهم الله – ، و أستاذنا الكبير الدكتور عمار طالبي و شيخنا الدكتور عبد الرزاق قسوم وأستاذنا العزيز سي الهادي الحسني وغيرهم من أهل الفضل علينا، من رجال السلف والخلف … و للحديث بقية، إن كانت لهذه الأرواح بقية !!
( يتبع)
*/ – مرفقا وثيقة إشهار إسلام المفكر رجاء غارودي الرسمية تنشر لأول مرة، من أرشيف وتوقيع شيخنا العلامة محمود بوزوزو بجنيف.
إسمه لما أسلم صار، رجاء غارودي بدل روجيه غارودي (أو جارودي)
بالفرنسية:
Roger GARAUDY est un homme politique, philosophe, écrivain français, né le 17 juillet 1913 à Marseille et mort le 13 juin 2012 à Chennevières-sur-Marne. De 1933 à 1970, il est une figure importante du Parti communiste français, un grand penseur et écrivain