قراءة من منظور سنني رسالي للعلامة سيد قطب، في تسجيل نادر(1952)، ينشر لأول مرة؟
من أبلغ أسرار الإعجاز في الهجرة، تقديم الرسالة على الرسول وتقديم المنهج على الشخص!!
محمد مصطفى حابس: جينيف / سويسرا
لم يترك العلماء الأوائل للأواخر مسألة فقهية وشرعية إلا وأشبعوها بحثا ودراسة وتنقيبا، رغم ذلك بقي باب الاجتهاد لعلماء هذه الامة مفتوحا عبر العصور والأزمنة، وقد جاء في كتاب ” الملاحم ” لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ اللَّهَ يبعَثُ لِهذِه الأمَّةِ على رأسِ كلِّ مائةِ سَنةٍ من يجدِّدُ لَها دينَها).
و المجدد مجتهد، ” والاجتهاد لغة: مأخوذ من الجَهد، وهو المشقة، أو بذل الوسع، أو الطاقة، وأما الاجتهاد عند علماء الفقه، أو الأصول: فقد عرَّفوه بتعاريف متقاربة في ألفاظها، ومعانيها، وكلها تدور حول بذل الجَهد، والطاقة لمعرفة الحكم الشرعي من دليله، وأدق ما قيل في تعريفه: “إن الاجتهاد هو: بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظنِّي” ” الموسوعة الفقهية ” ( 1 / 18 ، 19 ) .
اجتهاد الصحابة في معرفة الأحكام، واجتهد التابعون ومن بعدهم العلماء
ولم تزل الأمة تمر عليها النوازل، ويحتاج المسلمون إلى معرفة حكم الله تعالى فيها، ولا يتم ذلك إلا بالاجتهاد في النظر في الأدلة الشرعية لمعرفة الحكم الشرعي لها وأبعاد أخرى يكتشفها الناس عبر العصور والأيام..
وقد اجتهد الصحابة رضوان الله عنهم في معرفة الأحكام الشرعية، واجتهد التابعون ومن بعدهم العلماء ونُقلت إلينا اجتهاداتهم، ولازال باب الاجتهاد مشرع مصراعيه الى يوم القيامة..
و في موضوع معاني الهجرة استوقفتني هذه القراءة النورانية للمفكر الإسلامي الكبير سيد قطب، رحمه الله، صاحب تفسير الظلال، الذي يبحر بالباحث في أغوار القرآن وأسراره العجيبة، ونحن نتدارس هذه الأيام موضوع الهجرة النبوية بمناسبة فاتح شهر محرم الحرام 1445، استوقفتني هذه المعاني البليغة في قراءة من منظور سنني رسالي بصوت المرحوم سيد قطب، في تسجيل نادر، ينشر لأول مرة، نتوّقف عند بعض أسرار الهجرة التي يسر الله لهذا المفكر تجليتها للعام والخاص بأسلوب سلس أخاذ!!
تقديم الرسالة على الرسول وتقديم المنهج على الشخص:
و قبل ذلك، كنت قد اشرت في مقام آخر، إلى عبقرية الصحابة في اتخاذ تاريخ هجرة النبي، للتقويم الإسلامي، بدل تاريخ ميلاده أو موته أو غير ذلك، كما هو الشأن بالنسبة لمن سبقهم من الاقوام كاليهود والنصارى و ..!! .. بحيث يبهرنا العلامة غازي التوبة، حفظه الله، بهذه الحقيقة الناصعة، التي غفل عنها الكثير من العلماء المعاصرين، أي تقديم الرسالة على الرسول إذ كتب يقول – حفظه الله – :” إن تقديم الرسالة على الرسول وتقديم المنهج على الشخص – في اختيار الهجرة مبتدأ التاريخ – كانت نقلة نوعية في تاريخ البشرية لأن معظم الضلال الذي وقعت فيه الأمم السابقة على الإسلام كان من تعظيمهم الأشخاص وتقديمهم على المنهج والوقوع بالتالي في تأليههم وعبادتهم بعد ذلك.” ، و هو كلام غاية في الأهمية و غاية في المنطق !!
في ذكرى الهجرة، كما يراها سيد قطب:
يقول رحمه الله في هذه المناسبة الإسلامية، أنه : إذا كنا نحتفل بيوم الهجرة فيجب أن نحاول أن نكون جديرين بالاحتفال بهذا اليوم، يجب ألا يكون احتفالنا بالهجرة النبوية ككل احتفالٍ بذكرى من ذكريات الأرض، أو بعملٍ من أعمال الناس، إنما يجب أن يكون لهذا الاحتفال طابع خاص، وأن يكون لهذا الاجتماع جوٌ خاص وأن نُهيئ نحن أنفسنا لنكون جديرين بالاحتفال بمثل هذه المناسبة الكريمة “..” ولن نكون جديرين بأن نحتفل بيوم الهجرة إلا حين نرتفع بأرواحنا، وحين نرتفع بأخلاقنا، وحين نرتفع بأعمالنا، وحين نرتفع بقيمنا إلى هذا المستوى الشامخ، إلى هذا القَدْر الرفيع… قَدْر الهجرة النبوية الشريفة..”.
مبوبا كلماته وفق التسلسل التالي:
1- كيف نتدارس السيرة؟ – 2 – لا تفاوض على العقيدة
3- كيف بدأت الهجرة؟ – 4 – دروس من الهجرة !!
5- ذكريات النبي ليست سلعةً في السوق !!
6- قولًا ثقيلًا!! – 7 – الطريق يُمهَّد بالتضحيات
9 – الجهاد (بأنواعه) هو سبيل النجاة
10- ألا إن نصر الله قريب؟
(تفريغ كلمة صوتية للعلاّمة سيد قطب/ 1952، نقلا عن مجلة تبيان الالكترونية)
كيف نتدارس السيرة؟
إن سيرة الرسول-صلى الله عليه وسلم-وسيرة هذا الإسلام لا يجوز أن تكون تاريخًا يُتلى، ولا أن يكون احتفالاتٍ تمضي، إنما يجب أن يكون حياةً تُعاد وأن يكون واقعًا يُحقق، فما جاء هذا الإسلام ليكون تاريخًا، وما مضت أيام الرسول – صلى الله عليه وسلم- لتكون ذكرى، إنما جاء هذا الإسلام ليكون واقعًا حيًا في تاريخ المسلمين، وإنما مضت هذه الأيام لتكون فيها- إلى الأبد- أُسوةٌ وقدوةٌ لمن يتبعون رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كيف يكون الاحتفال؟
يجب إذا حاولنا أن نحتفل بعيد الهجرة أن نرتفع بأنفسنا إلى مستوى الهجرة… أن نرتفع بأرواحنا إلى مستوى الهجرة… أن نرتفع بواقعنا إلى مستوى أيام الهجرة… فهذا الإسلام قديرٌ جاهز على أن يحقق ما حققه مرةً في تاريخ البشرية. إنه لم يجئ لزمان، ولم يجئ لمكان، إنما جاء للزمان كله… وجاء للأرض كلها… وجاء للبشرية كلها، فإذا شئنا نحن اليوم أن نحتفل بيومٍ من أيامه فلا يجوز أن نقرَبَ هذا الاحتفال إلا وقد أعددنا أنفسنا كما يُعد المؤمن نفسه للصلاة بالوضوء، وكما يتهيأ بروحه ليقف بين يدي الله. يجب أن نرتفع إلى إدراك المعاني الكبيرة الكامنة في هذا اليوم الكبير، ومعاني هذا اليوم لا تحصيها ساعة، ولا تحصيها خطبة، ولا يحصيها كتاب، فهي كتاب مفتوح للبشرية منذ 1400 عام، إنما نحاول أن نلخص شيئًا… نحاول أن نُقلِّب في صفحاتٍ قلائل من هذا الكتاب الضخم الذي لم تنتهِ صفحاته على مدى 1400 عام، ولن تنتهيَ صفحاته حتى يرث الله الأرض ومن عليها
} قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا {.
لا تفاوض على العقيدة
ونحاول أن نجمع كلمات قلائل من تلك الكلمات التي لا تنتهي، أن نقلب صفحات قلائل من تلك الصفحات التي لا تنتهي، فنجد الصفحة الأولى من صفحات هذا اليوم المجيد في تلك الكلمات الخالدة… تلك الكلمات التي فاه بها لسان محمد-صلى الله عليه وسلم-وقريش بعظمائها بسادتها بكبريائها تَقدُمُ إلى بيت عمه أبي طالب تطالبه في أمر محمد إن كان يريد مالًا أعطَوه، وإن كان يريد سيادةً سودوه، فإذا بتلك الكلمات القلائل تخط أول صفحة من الصفحات المشرقة الكريمة في تاريخ تلك الدعوة، “والله يَا عْم لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي، عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يُظْهِرَهُ اللَّهُ أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ”
بهذه الكلمات تبدأ تلك الصفحة الكريمة… لم يكن محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-مضطرًا أن يهاجر، ولم يكن محمدٌ-صلى الله عليه وسلم-مضطرًا أن يغترب، لو أنه أخذ المال، ولو أنه أخذ الجاه، ولو أنه استجاب لتلك الدعوة: “إن كان يريد مالًا أعطيناه، وإن كان يريد سيادةً سودناه” ولكن محمداً كان يريد ما هو أعظم… ما هو أعظم من الشمس توضع في يمينه، ومن القمر يوضع في يساره، كان يريد ما هو أعظم من هذا الكون… ما هو أعظم من هذه السماوات والأرض… ما هو أعظم من هذه النجوم والكواكب، كان يريد عقيدةً تنتصر، وفكرةً تسود، ومجتمعًا يتكون، وإسلامًا يقوم على وجهِ هذه الأرض؛ يُعلم الناس ما لم يتعلموه قبل هذا الإسلام العظيم…
كيف بدأت الهجرة؟
هذه هي الذكرى الأولى… هذه هي الخطوة الأولى التي استصعدنا بها محمد-صلى الله عليه وسلم-في بدء خطواته، فلنوجِّه إليها أنظارنا، ولنوجِّه إليها قلوبنا… ونحن نحتفل بهذا اليوم، إننا وجدنا أن نستطيع لا أن نرتفع هذا الارتفاع، ولكن أن نتطلع إلى هذا الأفق ليدفعنا إليه.
إذا وجدنا في أنفسنا استعدادًا للتطلع، إذا وجدنا في أرواحنا خفةً للتحقيق، إذا وجدنا في نفوسنا زهدًا في مال، وزهدًا في المنصب، وزهدًا في الجاه، لأننا نريد ما هو أكثر من المال، ونريد ما هو أكثر من المنصب، ونريد ما هو أكثر من الجاه، إذا أحسسنا في نفوسنا هذا الإحساس كنا جديرين أن نحتفل بيومٍ من أيام محمد عليه الصلاة والسلام.
دروس من الهجرة
ومنذ اليوم يجب أن نستحضر في أنفسنا هذا المَلحظ فلا نجرؤ على الاحتفال بيومٍ من أيام محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا أن نكون على استعداد في ذوات أنفسنا أن نتطلع إلى فعل محمد..
ذكريات النبي ليست سلعةً في السوق
إن ذكريات محمد -صلى الله عليه وسلم- لا يجوز أن ترخُص، لا يجوز أن تصبح سلعةً في السوق، لا يجوز أن تكون مجالًا لأن يحتفل بها كل مَن يحتفل قبل أن يُعد نفسه لهذا المستوى الرفيع… لهذا المستوى الكريم… الذي أعدَّ محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- نفسه له وهو يقول: “والله يا عم، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه” .
مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة فليعرف أنه لا يأتي إلى المال، وليتأكد أنه لا يؤدي إلى منصب، وليوّطد نفسه أنه لا يؤدي إلى جاه في الأرض… وإن كان يؤدي إلى جاه عند الله…مَن شاء أن يسلك طريق هذه الدعوة، فليعلم أن الوزارة قد تفوته، وأن الإمارة قد تفوته، وأن المال قد يفوته، وأن الجاه قد يفوته، ويبقى له ما هو أكرم من هذا كله… يبقى له وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
قولًا ثقيلًا
ومعنى آخر… معنى آخر من معاني الهجرة يجب أن نستحضرها في أرواحنا… يجب أن نُعد أنفسنا له، ما قاله سبحانه وتعالى وهو يخاطب رسوله في أول الدعوة، قال له:
} يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا. نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا { لماذا كل هذا؟ لماذا كل هذا الاستعداد؟ لماذا سَهَرُ الليل؟ لماذا الصلاة؟ لماذا الاتصال بالله؟
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا)… إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا لا في كلماته… ولا في عباراته، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} فألفاظ القرآن ميسورة، وعباراته ميسورة، وهذا الثقل في القول ليس في ذات القول، ولكن في التبعة، في المهمة، في الواجب… في المشقة التي يحتملها من يحمل هذا القول الثقيل… ” إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا “.
الطريق يُمهَّد بالتضحيات
إن الطريق شاق… إن الطريق ليست مفروشة بالزهور والورود، إن الطريق مفروشة بالأشواك، لا… بل إنها مفروشة بالأشلاء والجماجم، مزينة بالدماء، غير مزينة بالورودِ والرياحين، وهذا هو المعنى الثاني الذي يجب أن نستذكره ونحن نتطلع ونحاول أن نرتفع إلى أفق الهجرة الكريمة، إن سالكه لن يفوته المنصب وحده، ولن يفوته الجاه وحده، ولن يفوته السيادة وحدها- السيادة في هذه الأرض- ولكن سيتحمل قولًا ثقيلًا، وسيحتمل جهدًا ثقيلًا، وسيجتاز طريقًا ثقيلًا؛ فَلْنُعِدَّ أنفسنا لما أعدَّ محمد -صلى الله عليه وسلم- نفسه له؛ لنكون جديرين بأن نحتفل بيوم هجرته.
وكان من الميسور أن يدعو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على قومه دعوة تهلكهم فينتهي، كان ميسورًا أن يدعو كما دعا نوح { أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ } ولكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يُلقِ دعوته، ولم يدعُ دعوته هذه على قومه، إنما اختار الطريق الشاق، واختار الطريق الطويل..
الجهاد بأنواعه هو سبيل النجاة
لقد كان نوح يملك أن يدعو على قومه فيهلكهم الله؛ ليبدل الأرض قومًا غيرهم، لأن دعوته موقوتة، لأنه جاء لقوم، لأنه جاء لدين، أما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكان يعلم أن دعوته هي دعوة الأبد، وأن رسالته هي الرسالة الأخيرة، وأن السماء وقد تفتحت بنورها إلى الأرض… لن تتفتح بهذا النور إلى الأرض مرةً أخرى؛ لذلك لم يَخترْ أن يدعو على قومه، ولم يختر أن يدعو الله بالنصر فيرتاح في لحظته… إنما اختار طريق الجهاد، لأنه إن انتصر اليوم… إن انتصر نصرًا يسيرًا… إن انتصر نصرًا سهلًا… فمَن يُؤتي أمته، من يُؤتي الأجيال بعده؟
إن أمته يجب أن تُدرب، يجب أن تُعَد، يجب أن تجد فيه قدوة، ويجب أن يكون لها قدوة، في جهادٍ شاق طويل..
} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّـهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين{لا بد من فدية، لا بد من بلاء، لا بد من امتحان، لأن النصر الرخيص لا يبقى، لأن النصر السهل لا يعيش، لأن الدعوة الهينة يتبناها كل ضعيف، أما الدعوة العصية الصعبة فلا يتبناها إلا الأقوياء، ولا يقدر عليها إلا الأشداء {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّـهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ{
ألا إن نصر الله قريب؟
ألا إن نصر الله قريب؟ ولكن ممن؟ ممن احتملوا البأساء والضراء… ممن جاهدوا وبذلوا… ممن لم يُبقوا في طاقتهم قوةً… ممن احتملوا مشاق الطريق… عندما يبذل الإنسان أقصى ما في طاقته، عندما يصل إلى نهاية الشوط، عندما يلقي بهمه كله إلى الله، بعد أن لم يبقَ في طوقه ذرةٌ… عندئذٍ يتحقق وعد الله { أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّـهِ قَرِيبٌ {.
هذه هي الذكرى الثانية… هذا هو المعنى الثاني… هذا هو المعنى الرفيع… الذي يجب أن نُعد أنفسنا له ونحن نتطلع لكي نرتفع إلى ذلك الأفق السامي، ونحن نحتفل بالهجرة الكريمة.
[ انتهى نص تفريغ الكلمة الصوتية للعلاّمة سيد قطب/ 1952]
وقفات مع هجرة الرسول، دروس وعبر:
وهذه قراءة متممة لمعاني ذلك، بمناسبة هجرة العديد من المهَّجرين قصرا للغرب و قد تركوا اموالهم وممتلكاتهم، فيهم اليوم معنا مع مر السنوات أنه نسى أو تناسى من أين جاء، دخل في المجون والبذخ، نسوا صيامهم، نسوا هموم بلدانهم، تنكروا لأصولهم، للغتهم، خلعوا لباس الحشمة، نساء و رجالا، وهتكوا صيام رمضان و القائمة طويلة .. !!
قصة وعبرة: كيف هاجر الرسول وأصحاب الرسول؟
لما هاجر أصيل الغفاري، فقال له النبي:(يا أصيل! كيف عهدت مكة؟) قال: والله عهدتها قد أخصب جنابها، وابيضت بطحاؤها، وأغدق اذخرها، وأسلت ثمامها، وأمشّ سلمها، أي أن أصيل بدأ يتكلم عن جمال مكة وهواء مكة و زينة مكة .. فأسكته الرسول وقال له: (حسبك يا أصيل لا تحزنا، لا تبكينا.. دع القلوب تقر قرارها)… حتى أن النبي بكى لفراق مكة، بل كان يخاطبها، و يقول: ما أطيبك من بلد وأحبك إلي ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك .
اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد
من زار مكة يعرف أنها صحراء، لا تصلح للعيش بوصف القرآن الكريم نفسه،” وادي غير ذي زرع”.. لكنها كانت له وطن، ولا يعرف الوطن إلا من عاش الغربة.. القرآن جعل ألم الغربة أو فراق الوطن بعد ألم الموت مباشرة، حيث قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ) من سورة النساء، الموت فراق و الهجرة القصرية فراق..
حتى في العقوبات السياسية يأتي النفي من الوطن كعقوبة مباشرة بعد الإعدام
ولنا في التاريخ أسماء كبيرة، عبد الرحمان الداخل، عبد الرحمان الكواكبي، الأمير عبد القادر الجزائري، العلامة بن خلدون، نابليون وغيرهم.
دروس و معان في أبعاد هجرة الرسول الكريم:
حتى ” المهاجرين، بقي اسمهم ” مهاجرون” بالرغم من قسوة هذه الكلمة ومرارتها.. حتى النبي ظل اسمه النبي المكي القرشي، بالرغم من أنه عاش أهم فترة للرسالة في المدينة، لكنه ما خلع جلده وما تنكر لأصله، بالرغم من كل السوء والظلم الذي لحق به من أذاهم …
الرسول هاجر لكنه أسس أمة عاد بها إلى مكة ودخلها برايات بيضاء وخضراء..
الرسول هاجر و معه مسلم واحد، لكنه عاد إليها ومعه 10 آلاف مسلم ..
و مع ذلك لم ينقل الرسول مركز الدولة الإسلامية من المدينة إلى مكة .. حتى أنه لم يوصي أن يدفن في مكة أو ينقل جثمانه الشريف من المدينة إلى مكة مسقط رأسه ..
هو هاجر ليعلمنا أن الأهداف تبقى ثابتة، رغم قسوة الظروف، ليعلمنا أن عملنا ليس بالضرورة أن يكون في الوطن، لكن أثره لا بد أن يصل إليه ..
هو هاجر ليعلمنا أن المكاسب في الغربة قد تكون أكثر بكثير من الخسائر لو أردنا نحن أن نحولها نحو لذلك..
هو هاجر ليعلمنا أن كثرة الناس من حولنا لا تجلب السعادة بالضرورة، ولا غيابهم يجلب البؤس بالضرورة..
هو هاجر ليعلمنا أن ما بين أهدافنا وتحقيقها حاجز هو نحن، أنا أو أنت
هو هاجر ليعلمنا أن الحق جهاد والعلم جهاد والعمل جهاد والعبادة جهاد إذا كانت خالصة لوجه الله العظيم الحليم الكريم..
هو هاجر ليعلمنا أن الحق عالي والعلم غالي والكسب غالي، وثمن الغالي غالي .. لا يناله أصحاب الخمول..
هو هاجر ليعلمنا أن الحرية هي حرية الفكر والكلمة، لا حرية العري و التنكر للمبادئ..
هو هاجر ليعلمنا أن النهضة تبدا بفكرة مع يدين مرفوعتين إلى السماء وقلب منكسر معلق برب السماء ..
هو هاجر ليعلمنا أن هذا الكون هو أكبر مني و منك، فيه من الاختلاف ما لا يسعه عقلي وعقلك، بل يسعه قول الله تعالى:” وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وأننا خلق بين الخلق، وأمة بين الأمم، لن تحترم، إلا إذا هي احترمت، وأن الاعتزاز بهويتنا وديننا، هو إعتزاز بإنسانيتنا في الاختيار..
هاجر ليعلمنا أن نفكر بالرأي المخالف من وجهة نظره هو، لا من وجهة نظرنا نحن، وأن نرى بعينه وأن نسمع بأذنه فلربما حكمنا إذن بحكمه ..
هاجر ليعلمنا أن لا ننتظر بل أن لا نتأمل من أحد شيء فالأمل الوحيد هو بالله وحده ومنا
هاجر ليعلمنا أن الخير موجود في كل مكان، نحن الذين لا نراه عندما لا نمعن النظر..
هاجر ليعلمنا أن الآخر ليس دائما على الخطأ، ممكن نحن الذين لا نسمع بإصغاء عندما يأخذنا الغرور بالنفس ..
هاجر ليعلمنا أن الحرية هي ما يجعل الانسان إنسانا ويكرمه فوق غيره
هاجر ليعلمنا أن الهجرة قد لا تكون بالضرورة النهاية، بل ربما تكون بداية كل شيء..
وكما صدح بذلك العلامة البشير الإبراهيمي في قومه بمناسبة مماثلة في عيد الأضحى قائلا:” أيها المسلمون، الهجرة أيام سياحة وعبادة وليست ايام انفلات ولا انطلاق شهوات، كما هو الحال عند بعض الملل والنحل، ، هجرات بعضهم شهوات، إباحية وسكر وملذات.. أما هجرتنا فهي عبادة تبدأ باسم الله والله أكبر، وتختتم بالصلاة والسلام على النبي الأكرم”..
عام هجري مضى وعام هجري جديد حل (1444 / 1445 هـ ) :
بهذه المناسبة السعيدة يطيب لنا الابتهال لله سبحانه ودعوته لنا و لكم، بكل خير..
فيا رب احفظنا فيه وأحبتنا وأكرمنا من نعيمك يا خير الحافظين
اللهم استرنا في الدنيا والآخرة واشغلنا بذكرك عمَّن سواك يا رب العالمين
ربي اجعله عاما سعيدا طيبا مباركا، وقربنا فيه من فعل كل خير، وباعدنا فيه من فعل كل شر، ونجنا وعبادك من كل هم وغم وفتنة ومحنة وكرب وشدة وبلاء ومرض، يا أرحم الراحمين.
كل عام والأمة الإسلامية والإنسانية بألف خير، أعاده الله علينا وعليكم بكل خير
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل، ورحم الله مشايخنا سيد قطب والابراهيمي على هذه اللفتات الجديدة المتجددة والتي نحن في أمس الحاجة اليها في أعيادنا وأفراحنا كما حتى في أقراحنا، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.