لماذا الحديث عن انتقام الثورات المخذولة، عبر العصور؟
محمد مصطفى حابس جينيف / سويسرا
مثل ما هو معلوم ومتداول منذ أيام غطت مواضيع عيد الثورة المباركة في الفاتح من نوفمبر الذي صادف اجتماع القادة العرب في الجزائر، أذ غطت هذه الاخبار على الكثير من الأحداث المحلية والدولية، كما جاءت هذه القمة التي استضفتها الجزائر وهي الأولى بعد ثلاث سنوات عجاف، جراء وباء كورونا، كما تناقلت وكالات الانباء، أن اجتماع وزراء الخارجية العرب منذ أيام حقق اختراقاً إيجابيا في ملفات تخص دول الجوار لا بل حتى على نطاق أوسع لامس رقعة دول العالم الثالث، كما نجح اللقاء – ولو مرحليا- في احتواء التوتر المغربي الجزائري ، أما الصراع الإسرائيلي الفلسطيني والأوضاع في سوريا وليبيا واليمن المدرجة على جدول أعمال القمة، فقد تُعين القادة العرب والوفود المشاركة لإيجاد مخارج دبلوماسية معقدة في صياغة القرارات النهائية – التي يتم تبنيها بالإجماع، علما أن كل دولة عربية لها أجندتها الخاصة بها وقد تكون هذه الاجندة، أمليت عليها، من جهات غربية وغريبة ضاغطة كما هو معلوم للعام و الخاص، الأمر الذي يجعل مفكرينا وساستنا يحسبون ألف حساب وحساب للتاريخ الذي لا ينسى وللأمم التي لا ترحم، و بالتالي تنتقم أجيال من أجيال وثورات من ثورات عند كل تقصير وخيانة، لا ننسى فالتاريخ دول كما هو معلوم، مصداقا لقوله تعالى : ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ﴾- سورة آل عمران، اية:140.
التاريخ تنحته الثورات المباركة في جباه الأجيال وقلوبهم:
نعم، التاريخ ذاكرة الأمم والشعوب، وهو مادة أصيلة في تربيتها لأبنائها عبر الأجيال، ولا سيما إذا كانت أمة ذات تاريخ عريق ومجيد كالجزائر عبر العصور، فلما نعود لقراءة شعار الدولة الجزائرية الخالد بهدوء وروية، ونتمعن في النشيد الذي يحفظه العام والخاص منا. هذا النشيد الذي نحته في جباه الرجال وقلوبهم وقمم الجبال وهضابها الزعيم الروحي لحرب التحرير، العلامة الامام بن باديس بدمه وعرق جبينه، والذي يعد بحق دستور الأمة الجزائرية عبر العصور، بل يُعد فلسفة حياة الأمة الجزائرية وسر وجودها وبقائها، إذ أنشد يقول، رحمه الله:
شَعْـبُ الجـزائرِ مُـسْـلِـمٌ*** وَإلىَ الـعُـروبةِ يَـنتَـسِـبْ
مَنْ قَــالَ حَـادَ عَنْ أصْلِـهِ *** أَوْ قَــالَ مَـاتَ فَقَدْ كَـذبْ
أَوْ رَامَ إدمَــاجًــا لَــهُ ***رَامَ الـمُحَـال من الطَّـلَـبْ
و معنى هذه الابيات البسيطة في تراكيبها والعميقة في معانيها، كما تعلمناها ونحن صغرا في المدارس، أن “الجزائر وطننا والاسلام ديننا ونحن قوم أمازيغ ننتسب للعروبة”، من قال غير ذلك فقد كذب علينا وأراد شق صفوفنا و تمزيق وحدة ترابنا.. انتهت القصة، طويت الصحف وجف القلم وبهت الذي كفر، بل وبالتعبير السياسي أوصدت أبواب كل التأويلات الاستعمارية البغيضة والتخمينات العنصرية المقيتة ..
الوحدة العربية على المحك:
قد يتساءل المرء: لماذا العودة اليوم إلى موضوع الوحدة العربية ونهضتها، هذه الوحدة التي وقعت في القرن التاسع عشر الميلادي ونحن اليوم في القرن الحادي والعشرين؟
الجواب ببساطة وصراحة: لأن أوضاع الأمة العربية الإسلامية اليوم أسوأ مما كانت عليه في العصر الذي استوجب يقظة عربية لتغييرها وإصلاحها وتحسينها
كانت الأمة العربية آنذاك مقسمة إلى بلدان تحت حكم الإمبراطورية العثمانية أو البريطانية أو الفرنسية، ويهيمن الجهل على شعوبها التي ترزح تحت وطأة الفقر والمرض، وانتشرت فيها البدع والخرافات البعيدة عن روح الإسلام. وكانت لغتها العربية مهمشة مهملة.
” لمّا أدعو لاستقلال الجزائر فإني أدعو لاستقلال الأمة العربية”:
لا لشيء إلا لأن الإمام عبد الحميد بن باديس، أيامها كان يدرك عمق أبعاد وخطورة تفرقنا وأهمية وحدة الأمة الجزائرية بمختلف مكوّناتها، فكان له في هذا المضمار مواقفه التاريخية الصلبة وصيحاته المدوية، التي يؤكد فيها وبها هذه الحقيقة الناصعة، من ذلك قوله،- إن لم تخني الذاكرة- :” لما أدعو لاستقلال الأمة الجزائرية فإني أدعو لاستقلال المغرب العربي ، ولما أدعو لاستقلال المغربي العربي فإني أدعو لاستقلال الأمة العربية، ولما أدعو لاستقلال الأمة العربية فإني أدعو لاستقلال العالم أجمع”، أو شيء من هذا القبيل، وأما في خطاب أخر خاص بالشعب الجزائري، ألقاه في نادي الترقي بجمعية العلماء، سنة 1936 م، يقول فيه: ” إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام.”، ونقل عنه قوله:” .. وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة الدين”، هذا معنى من معاني نصرة القضايا العادلة في الداخل والخارج وعدم خذلنها مهما كانت فاتورة التكلفة على الفرد والمجتمع..
لماذا الحديث عن انتقام الثورات المخذولة؟ :
إلى هذا المعنى في عمومه، كتب أستاذنا المفكر الجزائري الدكتور الطيب برغوث منذ مدة وتحدث في مناسبات كثيرة، وفي مقالات وكتب عديدة، عن فكرة، انتقام الأفكار أو الحركات أو الثورات المخذولة من شعوبها، وهو ما قد يجعل بعض القراء الأفاضل يتساءلون لماذا كل هذا التركيز على هذه الفكرة، أي فكرة الخذلان وعدم النصرة؟ إذ يقول المفكر الجزائري تحت عنوان مهم لافت في أحد مقالاته:” لماذا الحديث عن انتقام الثورات المخذولة؟ ” أن الأمر لا يعد أن يكون فكرة مركزية أساسية في فقه الثورات والحركات التغييرية والإصلاحية، بل وفي الحياة الإنسانية عامة، لو استوعبها الناس جيدا، وتحوّلت لديهم إلى وعي وثقافة سارية في حياتهم، لتغير كل شيء فيها وفي المجتمع والدولة، لأن من يستوعب حقيقة انتقام الأفكار والحركات المخذولة من خاذليها في العاجل والآجل معا، وسلب الخيرية والبركة والرحمة من حياتهم، وتعريضهم لمحن الحياة الدنيوية والأخروية بسبب ذلك، وفق قانون الجزاء العادل “جزاء وفاقا “، لن يتوانوا في اليقظة والحذر والاحتياط، والخوف من أية مواقف أو سلوكيات أو أعمال تضر بميثاق الثورة أو الحياة عامة، وتتسبب في العودة بالمجتمع إلى حالة الإنحراف والفساد والتناقض مع سنن الحياة مرة أخرى، بعد أن جاءت الثورة لتغيرها وتضع حركة المجتمع في مسارها السنني الصحيح.”
هنا يجول بنا المفكر الجزائري، في رحاب بعض المفاهيم المفتاحية لهذا الموضوع المهم الشيق الشائك، منها باختصار وعلى الترتيب:
مفهوم الثورة – حقيقة الثورة- المفاهيم الجزئية للثورة – عمق الثورة وجوهرها – بركات الثورة – خذلان الثورة – عواقب الخذلان للثورة – انتقام الثورة المخذولة – خطر الحيدة عن منطق السننية الشاملة :
مفهوم الثورة:
الثورة في مفهومها العام، هي تغيير وإصلاح شامل وعميق، لأوضاع متفاقمة المظالم والمفاسد والمضار المناقضة لحقائق الوجود الإلهي، وحقائق وفطر الوجود الكوني والإنساني، والعودة بها إلى حالة الانسجام والتوازن والتكامل والفعالية والخيرية والبركة والرحمة الكونية العامة، التي بها ينجز الإنسان خلافته في الأرض، ويحقق إنسانيته ويترقى في مدارج الكمال الإنساني.
حقيقة الثورة:
هذه هي الثورة في عمقها السنني الحقيقي.. فهي تحرك مجتمعي جاد وحاسم، نحو تحقيق مطابقته أو انسجامه مع حقائق الوجود الإلهي، وحقائق وفطر الوجود الكوني والإنساني بشكل مستمر. وكل ما لا يتحرك نحو التطابق أو الانسجام مع حقائق الوجود الإلهي والكوني والإنساني، فهو وضع مضر بالإنسان والكون، ويقود إلى الفساد والظلم والضنكية بشكل أو آخر، ولذلك يجب تغييره وإصلاحه ومطابقته مع سنن الحياة في الآفاق والأنفس والهداية والتأييد.
المفاهيم الجزئية للثورة:
وكل ما عدا ذلك من مفاهيم الثورة فهي مفاهيم جزئية أو سطحية، مهما أحدثت من تغييرات مظهرية طفرية آنية، ما لم تذهب وما لم تنفذ إلى عمق التغيير والإصلاح الحقيقي، وهو تحقيق التطابق والانسجام مع حقائق الوجود الإلهي، وحقائق الوجود الكوني والإنساني؛ في التصورات العقدية للإنسان، وفي المنظومات المعرفية التي ينشئها، وفي النظم التربوية والثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية التي يقيمها.
وكل ثورة أو تغيير أو إصلاح لم يتحرك أو لا يتحرك نحو العمق المشار إليه آنفا، فهو تغيير محدود المدى والجدوى، وسرعان ما يفقد حيويته وفعاليته وهويته الإنسانية، ويجد نفسه قد أعيد استيعابه من أوضاع الفساد والانحراف والظلم والسابق، كما نلحظ ذلك في حركات وثورات كثيرة في التاريخ، تمت إعادة إحتوائها من جديد!
عمق الثورة وجوهرها:
والثورة بهذا المعنى هي في حقيقتها عهد والتزام وميثاق فكري ونفسي وروحي وأخلاقي وسلوكي واجتماعي غليظ، بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين المجتمع، وبينه وبين سنن الله الناظمة للحياة والكون، وبينه وبين الله المحيط بذلك كله، يفرض عليه كفرد وكمجتمع، الحرص الدائم على محاولة ضبط ومطابقة تفكيره وسلوكه وعلاقاته ومواقفه.. مع منطق ومقتضيات السنن التي لا تسمح لأوضاع الظلم والفساد السابقة عليها، بالعودة مرة أخرى، وتدفع بأوضاع الأفراد والمجتمع إلى المزيد من المطابقة أو الانسجام مع حقائق الوجود الإلهي، وحقائق وفطر أو سنن الوجود الكوني والإنساني.
بركات الثورة:
وكلما وعى الإنسان فردا ومجتمعا، هذا العمق في الثورة، وبرمج وأدار حياته وحركته الفكرية والنفسية والروحية والأخلاقية والسلوكية والاجتماعية والحضارية على ضوئها، وجدد وعيه بذلك بشكل مستمر، وحافظ عليه وعلى مكتسباته، من خلال تقديم أهل الكفاءة والخبرة والأمانة والمصداقية و الرسالية العالية في المجتمع والدولة، كلما منحته الثورة خيريتها وبركتها ورحمتها، وارتقت بفعالية إنجازيته الاجتماعية إلى أعلى مستويات كفاءتها وقوتها وتأثيرها في حياته ومحيطه، ومنحت المجتمع مكانته وهيبته اللائقة به في محيطه الإقليمي والعالمي.
خذلان الثورة:
وكلما تجزأ أو اضطرب وتنافر الوعي بهذا العمق في الثورة لدى الناس، وخاصة النخب الفكرية والسياسية والاجتماعية منهم، كلما حصل الابتعاد عن روح الثورة وقيمها وأخلاقياتها ومقاصدها، وأثر ذلك سلبا على علاقة الناس بها، وعلى موقفهم منها، وراحت أسباب وعوامل وشروط الخذلان والخيانة لها ولميثاقها الغليظ، تتجمع وتتراكم تدريجيا، وتفعل فعلها السلبي في النفوس والأفكار والعلاقات والنظم، وتدفع بالأوضاع نحو المزيد من الصراع والتفكك الخفي والمعلن بين مجموعات النخب المؤسسة للثورة والوريثة لها، والمتسللة إليها، والمتربصة بها.. لتستحوذ على المزيد من القوة والنفوذ بأية وسيلة كانت، لتحقق الانفراد بالتحكم في مقدرات الدولة والمجتمع، واستعمالها في قهر وإذلال وترويض وتحييد كل من تشتم منه رائحة الخطر أو المنافسة على المغانم المادية والمعنوية! وهذا ما عبرت عنه المقولة الشهيرة المهمة في علم اجتماع الثورة وهي ” الثورة تأكل أبناءها ” أو ” الثورة تأكل نفسها!”
وفي خضم الصراعات المحمومة بين النخب على إرث الثورة ومغانمها من ناحية، وعلى بناء النفوذ والقوة والسطوة الفردية أو العائلية أو الفئوية أو الطبقية في الدولة والمجتمع من ناحية اخرى، تنفصل هذه النخب فكريا ونفسيا وروحيا وأخلاقيا واجتماعيا عن روح الثورة وعن المجتمع معا، وتشكل طبقة معزولة مترفة مستغلة مستعلية متسلطة، شرسة في التعامل مع مخالفيها، باسم مصالح الثورة! وحماية الثورة! وتعميق الثورة!
عواقب الخذلان للثورات:
فيما يخص هذا الباب يرى المفكر الجزائري أن الامر يتطلب شرحا وافيا فيقول :”لا أريد أن أخوض في تفاصيل عواقب خذلان الثورات، ومظاهرها في حياة الأفراد والدول والمجتمعات، لضيق مجال الحديث هنا، ولكن أؤكد على نتيجة خطيرة تتسلسل عنها نتائج خطيرة شتى، وهي غياب أو ضعف القدوة في النخب المديرة للدولة والمجتمع، الذي يؤدي مع مرور الوقت إلى اهتزاز الثقة بين هذه النخب والمجتمع، والانفصال النفسي والروحي والاجتماعي بينهما، ودخول هذه النخب في محرقة إزدواجية السلوك أو النفاق الاجتماعي، لترضية الجمهور واستغفاله والاستخفاف به، أو محرقة القهر له وفرض الأمر الواقع عليه بالقوة حينا وبإشاعة الفسوق حينا آخر، وهو ما يؤدي إلى تعمق الشعور بالخيانة للثورة وقيمها ومقاصدها لدى عموم الناس، واضطرار بعضهم إلى ولوج محرقة النفاق الاجتماعي للمحافظة على مصالحهم وقضاء حوائجهم، ودفع آخرين إلى المعارضات الجذرية المنهكة، وحمل غيرهم على ركوب مهالك العنف المضاد للدولة والمجتمع، ولجوء بعض القوى المتدافعة أو المتصارعة فيما بينها على المغانم والنفوذ والسطوة.. إلى الاستقواء بغيرها على بعضها البعض، ووضع نفسها ومجتمعها ودولتها بين مخالب القوى الإقليمية أو الدولية المتربصة بها”.. وهلم جرا
انتقام الثورة المخذولة:
هكذا إذن تتسلسل عواقب خذلان الثورات، وتحتد الخصومة بل والمقاتلة الظاهرة والخفية على مواريثها ومغانهما، بين بقية صانعيها، وكثير من المتسللين إليها والمتربصين بها، الذين يسعى كل واحد منهم إلى تحويلها أو تحويل جزء منها إلى سجل تجاري خاص به، يستفيد منه في زيادة أرصدة نفوذه المادي والاجتماعي والسياسي، وبسط سطوته على مقدرات المجتمع ومؤسسات الدولة ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وتحويلها إلى ملكية خاصة بأشخاص، أو عائلات، أو مجموعات جهوية، أو أيديولوجية، أو طبقية.. و حرمان الدولة والمجتمع منها! وتحويلها إلى أداة فتاكة في إضعاف الدولة والمجتمع، وتعطيل
النهضة الحضارية التي بها يحقق المجتمع استقلاله وحريته وكرامته وأمنه الحضاري الشامل.
أين ثورتنا العظيمة من كل هذا؟:
عن هذا التساؤل الوجيه في عمومه، يجيب الدكتور برغوث بقوله:” إذا طبقنا مفاهيم ومعطيات هذه الخريطة الوصفية، على مصير ثورتنا العظيمة، التي نحتفل هذه الأيام بعيدها، الثامن والستين في الفاتح من نوفمبر 2022، وحاولنا تقييم علاقتنا بها، وبقيمها وأهدافها ونموذجها، وماذا فعلنا بميراث هذه الثورة العظيمة التي أخرجتنا من العدم الاستعماري؟ فسنجد بأن نسبة الخذلان فيها كبيرة جدا، وأن نسبة الانتقام منا كبيرة جدا كذلك، انسجاما مع قانون ” جزاء وفاقا!”
ويكفي مثالا على هذا الانتقام، ما حصل لنا في السنوات الثلاثين الأخيرة، التي دخلنا فيها في حرب أهلية ضروس، دمرنا فيها جزءا عظيما من احتياطياتنا الاستراتيجية البشرية والمادية والمعنوي الثمينة، وما صاحب ذلك وأعقبه من أشكال أخرى من الهدر والتدمير البشري والمادي والمعنوي لمقدرات المجتمع وشروط نهضته، كما بدأنا نحن عامة الناس نرى بعض عينات منها في المحاكمات البسيطة لبعض رموز السلطة السابقة، وكما رأيناه كذلك في تلك التراجيديا الحزينة التي وجدنا أنفسنا فيها، نُحكم بشخص مشلول مقعد، أو بصورة مكبرة مزروعة في كل مكان، يطوف حولها ويبزنس بها موتى القلوب على حساب كرامة الجزائري، وأمن دولته ومجتمعه ومستقبله ومصيره!
خطر الحيدة عن منطق السننية الشاملة:
حول هذه النقطة الأخيرة تحديدا والتي يعتبرها الكاتب محورية و مفصلية في دراسته هذه للموضوع، حيث يقول:” إن كل هذه الانتقامات للأفكار والثورات المخذولة من خاذليها، وهذه الأثمان الباهظة والقاسية التي تدفعها المجتمعات والدول والأفراد والأجيال بسبب ذلك، تحدث عندما تحيد الفكرة أو الثورة ذاتهما، عن خط السننية الشاملة في الفهم والوعي والحركة والسلوك والعلاقات والمواقف.. أو عندما يحيد ورثة الأفكار والثورات والحركات عن خطها السنني الذي هو روحها وشرط نجاحها، ويسيرون بها في الاتجاهات المناقضة لها، وللأهداف التي كانت تريدها، وللمنجزات التي حققتها، والآمال التي بثتها في النفوس، والآفاق التي فتحتها أمام الأجيال”.
الأهمية القصوى للوعي بمنظور السننية الشاملة وتفعيله في الحياة:
ولهذا – حسب نظر المفكر الجزائري- فإن الشرط الأساس لنجاح الحركات والثورات، وحماية منجزاتها، والاستفادة القصوى منها في تحقيق المزيد من النجاحات، في حياة الأفراد، وفي حركة الدول والمجتمعات، هو الوعي بمنظور السننية الشاملة، وإدارة الحياة الفردية والجماعية على ضوء مقتضياته، لأنه المنظور الذي يتيح للأفراد والدول والمجتمعات، شروط وإمكانية التنمية والإدارة المتوازنة لكل أبعاد الشخصية الإنسانية أولا، ثم التنمية والإدارة المتوازنة.
وهذا ما لم تحض به ثورتنا الكبرى، فضاعت منا الفرصة التاريخية الثمينة الأولى في تاريخنا المعاصر، كما لم تحض به الصحوة الروحية الكبيرة التي تلتها، فضاعت منا الفرصة التاريخية الثمينة الثانية، ونخشى أن لا تحظى به هبتنا الوطنية الجديدة الكبرى، فتضيع منا الفرصة التاريخية الثمينة الثالثة لا قدر الله! ونمضي على طريق التيه والضنكية! وكل ذلك مرهون بمدى وعي نخب المجتمع بمنظور السننية الشاملة، وبمدى قدرتها على تفعيل معطياته في إدارة النفس والدولة والمجتمع.”
راجيا ومتسائلا في ختام بحثه بقوله:” هل تستطيع هذه النخب ذلك؟ أم أنها ستمضي بنا قدما على طريق التجزيئية والتنافرية المنهكة إلى ما شاء الله؟ الأمر بأيدينا، إن شئنا تحركنا على خط السننية الشاملة الصاعد، وإن شئنا مضينا على خط التجزيئية والتنافرية المنهكة، والله سبحانه وتعالى يقول (إن الله لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ)[الرعد: 11].
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل
اللهم فاشد فقد بلغت !!.