جائحة فيروس كورونا التي تعصف اليوم بخلق الله جميعا، بحيث جاءت على الأخضر واليابس في صفوف بني البشر، ضاربة خبط شواء سكان كل دول العالم تقريبا دون تفريق بين فقيرها وغنيِّها مهما كانت درجة تطورهم العلمي أو الاقتصادي !؟
حيث بات فيروس كورونا وحش ضاري جائع ينهش في جثث البشر ويرسل إلى الموت الناس زرافات ووحدانا. وهذه الظاهرة ليست جديدة بل تضرب الجنس البشري في وقت لا موعد معه ولا سابق إنذار.. واليوم حتى أعظم الدول عدة وعتادا، لم تسلم من ويلاتها، إذ كانت الصين العظيمة على رأس ضحاياها الأوائل التي انتشرت بها العدوى من بدايتها مخلفة آلاف الهلكى، وها هو ذات الفيروس وفي ظرف أيام فقط ينهش سكان أمريكا العظمى، ليجعلها على قمة هرم الدول التي فاق عدد الإصابات فيها جل دول العالم بعد أن كانت منذ أسبوع فقط حالات العدوى فيها قليلة للغاية، بل تعد على الأصابع !!
حول هذه الأرقام المتسارعة المفزعة في أمريكا، استفسرت بعض أهل الاختصاص في علم الأوبئة والاحصائيات عن تضاعف أعداد المصابين، وتحديدا حول ارتفاع أعداد الإصابات في دول غربية متحضرة واستقرارها بل و انعدامها في دول أخرى كدول العالم الثالث أو الدول الضعيفة كليبيا واليمن و العراق وسوريا و بعض الدول الافريقية، فرد علي أحدهم بقوله في ثلاث نقاط:
أولا، ان بعض هذه الدول هي في حد ذاتها ليست دول بل عشائر تعيش منذ سنوات حروبها الداخلية فيما بينها ولا تملك حتى حكومات لإحصاء مرضى كورونا او غيرها، و بالتالي لا احصائيات فيها ولا هم يحزنون، وكأن الوباء توقف في الحدود عند هذه الدول.
ثانيا، صنف آخر من الدول إما لا يملك أدوات الإحصاء أو إمكانياتها أو ببساطة يخفي الأرقام الحقيقية للإصابات لحاجة في نفس يعقوب، منها دول عربية كمصر والجزائر وبعض دول الخليج؟؟
ثالثا، أما بالنسبة للدول الغربية فهي دول تحترم ذكاء شعوبها وتعطيهم الأرقام كما هي دون تستر أو مراوغة كما هو الحال بالنسبة لأمريكا اليوم وألمانيا و إيطاليا و سويسرا وغيرها.
قصة كورونا هي حلقة من مسلسل مثير للفيروسات عبر التاريخ:
و على ذكر أمريكا وهي أكبر قوة عالمية وحول هذا الوباء الفتاك المباغت لها ولنا جميعا، كتب أستاذنا الكبير الطبيب المفكر الإنساني خالص جلبي – حفظه الله و متعه الله بالصحة- المقيم حاليا في المغرب الشقيق، وهو من رجال مدرسة فكر مالك بن نبي، كتب في مقال رائع تحت عنوان ” أين تضرب الفيروسات؟” يقول فيه “أن قصة كورونا اليوم هي حلقة من مسلسل مثير، بدأ سردها من أمريكا، حيث كانت الحرب العالمية الثانية تقذف بالناس إلى الموت وكان من يقود أمريكا رجل مشلول. كان يجلس على كرسي مدولب يدفعه أناس إلى منصة الكلام. إنه الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت وهو الوحيد الذي انتخبه الأمريكيون أربع مرات”. ونوع الشلل الذي عطب الرجل هو البوليو أي شلل الأطفال، بحيث تضرب فيروسات الحمى الأطراف السفلية للطفل فيصاب بالقعود مدى الحياة. والفيروس المجرم هذا – حسب الدكتور خالص جلبي – يحب الدوران في الدم ثم يبحث له عن بيت يسكن كالحبل الشوكي وما أدراك ما هو؟ تصور حبل تمر فيه ملايين الكابلات العصبية التي تسيطر على الحس والحركة في امتداد الجسد، فتشل مرة واحدة.
ثم سرد الدكتور جلبي تاريخ بعض الفيروسات الحديثة التي فتكت بالمعمورة، قائلا:” قصص الفيروسات مثيرة جدا فقبل قرن من الآن، أي في عام 1918 انفجر مرض في أمريكا قتل من الناس أكثر مما هلك في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) فمات 600 ألفا من الأنام وحصد في العالم عشرات الملايين (بين 20 ـ 50) مليونا من البشر. ومن الملفت للنظر أن الناس لم يكونوا يعرفون من هو الفاعل؟ في أميركا عزوا الحدث إلى حريق للأسمدة وفي أوربا أعطوه اسم الجريب الأسباني. جاء المرض وولى الأدبار ولم يعرف الناس الفاعل؟ والسبب بسيط أن هذا المعتدي متناهي في الدقة يحتاج للتكبير عشرات الآلاف من المرات. وكان على البشرية الانتظار إلى حين اختراع المجهر الإلكتروني. كانت المجاهر في عام 1918 تستطيع رؤية الجراثيم (الباكتيريا) مكبرة بضعة آلاف من المرات. ويمكن مقارنة هذه القفزة العلمية منذ أيام “ليفنهوك الهولندي” وكيف استطاع بصقل العدسات أن يرفع قوة التكبير مائة مرة. حاليا نحن نرى فيروس السيدا (الإيدز) مكبرا 60 ألف مرة، هذا العلم مع مطلع القرن العشرين كان مجهولا تماما.
مشكلة العقل البشري أنه يريد دوماً فهم الكون على أساس هندسي:
وفي مقال أخر غاية في الأهمية ، تحت عنوان :” أثر الأمراض في انحطاط التاريخ” كتب المفكر خالص جلبي أن مشكلة فهم الانسان و تحليله لمثل هذه المستجدات ليس بالطرق العلمية فحسب، بل تحتاج إلى مراجعات ووقفات، إذ كتب يقول “أن مشكلة العقل البشري أنه يريد دوماً فهم الكون على أساس هندسي فيحاول انتشاله من الفوضى إلى النظام، ويصيغ التعقيد في قوانين، ويحول لغة الكون إلى معادلات رياضية كما فعل ذلك غاليلو.. وحاول آينشتاين خلال العشرين سنة الأخيرة من حياته أن يدمج الجاذبية مع بقية القوى بدون نجاح.. وحاول ستيفن هوكنج البريطاني المشلول شللاً رباعياً ـ فلم يبق منه إلا رأس يفكر ويتكلم! ـ أن يدمج بين أهم علمين هما النسبية وميكانيكا الكم فلم يوفق؟؟
ويرى كثير من الفيزيائيين أن قوى الوجود مع بداية الكون كانت مدمجة في قوة واحدة (توحيدية) متفردة قبل الانفجار العظيم الذي تم قبل 13,7 مليار سنة فولد الكون كله بكل مجراته. فقال له الله كن فكان بعد أن لم يكن شيئا مذكورا!!
والتحدي اليوم هو في صياغة موديل موحد للكون حاوله رهط من الفيزيائيين الذين اجتمعوا في بوتسدام مع نهاية القرن العشرين بما هو أهم من اجتماع تشرشل وروزفلت وستالين لاقتسام العالم في نهاية الحرب الكونية الأخيرة.
ابن خلدون و أثر الأمراض في انحطاط التاريخ
ولكن الشيء المثير مما قرأه الدكتور جلبي هو (أثر الأمراض في انحطاط التاريخ) وهو أمر لا يلتفت إليه أحد عادة وهو الذي هدّ ظهر الدول والإمبراطوريات، وانتبه إليه ابن خلدون حينما تحدث عن الطاعون الجارف الذي يخيف الأمم وذهب بأهل الجيل وطوى كثيرا من محاسن العمران ومحاها وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها فقلص من ظلها وفل من حدها وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر فخربت الأمصار والمصانع وضعفت الدول والقبائل وتبدل الساكن، بل كأنه يرى هذا التفسير سببا في سقوط الحضارة الإسلامية فينهي الفقرة بكلامه وكأني بالمشرق قد نزل به مثل ما نزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الارض ومن عليها. وإذا تبدلت الأحوال جملة فكأنما تبدل الخلق من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث فاحتاج لهذا العهد من يدون أحوال الخليقة.
لقد كان الرجل عبقريا (أي بن خلدون) في التقاط هذه اللحظة التاريخية ليرى من خلالها مصير العالم الإسلامي في قرون وهي لمعة في فضاء الفكر يندر أن يراها أحد واعترف ابن خلدون شخصيا بهذا الشيء فسماها الحكم القريبة المحجوبة.
وأهمية هذه الدراسة أن الأمراض تغير مجرى التاريخ، مذكرا ببعض المحطات، قائلا “أثينا انتهت مع مرض اللويموس عام 430 قبل الميلاد، وقضت الجائحة على العصر الذهبي لها. والملاريا حولت روما إلى خرائب. وفي عام 1348 وما تلاه مات بالطاعون في أوربا 25 مليون نسمة ولم يكن عدد سكانها يتجاوز المائة مليون. وهلك 90% من سكان الأمريكتين بسبب الجدري. واليوم العالم مهدد بمرض الأيدز وعودة الجراثيم القاتلة التي ظننا أنها انتهت.. كما تستعد اليوم جل الدول الغربية لمحاربة كورونا بميزانيات خيالية، أدناها يعد بملايين الدولارات..
ما يحدث اليوم هو موت للقديم وإيذان بولادة الجديد
لكن يبقى لغز هذه الفيروسات والآيات سر من أسرار الكون، يتصرف فيها وفينا الخالق جل شأنه مثل ما يريد، “وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ ۚ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ”.
ما يحدث اليوم هو موت للقديم وإيذان بولادة الجديد، فإذا عملنا بجد واجتهاد فإن الجديد سيكون أفضل، أما إن استسلمنا لغلبة الهوى وأوهام الجشع فإننا سندخل عصور ظلام جديدة. وخلاصة هذا الكلام – حسب رأي الدكتور جلبي- أن كل نظرية أو تفسير مادي تتكسر عند قدمي الإنسان ويبقى عصيا على الفهم. ولا يعني هذا أننا لا نكتشف أثرا من الحقيقة ولكنها نسبية ومشوهة ومضللة. وتتعاون التفسيرات المختلفة في إيجاد صيغة مركبة للوجود وينحسر التفسير الأحادي. سنة الله في خلقه؟؟ حينها لا يسعنا إلا رفع أكف الضراعة لله الواحد القهار بقولنا: ” يا مُفرّج الكرب يا مُجيب دعوة المُضطرين، اللهم ألبس في هذه المحن كل مريض منا ثوب الصحة والعافية عاجلاً غير آجل يا أرحم الراحمين .. يا رب المستضعفين”.