كتبت كما كتب غيري الأسبوع الماضي كلمة حول رحيل الكاتب والمفكر الجزائري ” مالك شبال”، ومن باب “أذكروا موتاكم بخير”، قلت حينها أن المرحوم من ألمع مفكرينا المعاصرين غزارة في الانتاج بحيث يصدر كل سنة على أقل كتابا نفيسا، مع اختلاف بعض كتابنا مع بعض طروحاته الحدثية طبعا، وقلت أيضا أن الراحل مات معزولا عن محيطه الاسلامي ومهموما في الغربة، وفي فرنسا تحديدا، ” أم الخبائث” على حد تعبير العلامة محمد البشير الابراهيمي..
رجال غادروا دون أن يحظوا بما يستحقون من تكريم وعزاء
المعروف عن فرنسا منذ عقود، محاصرتها لكل صوت إسلامي مهما كان لونه وتوجهه، فرنسا ذات السياسة العلمانية العرجاء المتسمة بالإقصاء للأجنبي المسلم عموما، وللجزائري خصوصا.. رغم ذلك فتحت وسائل الاعلام أبوبها على مصراعيها لبعض الكتاب منهم الراحل مالك شبال وهو أخف الضررين في طرح مقارنة بآخرين.. مالك شبال الذي كان مزدوج اللغة، متقنا لعربية والفرنسية بشكل لا نضير له، فاق جل معاصريه!!
كان مفكرا من المعيار الثقيل، جل كتبه تشهد بذلك، لكنه وقع ضحية الغوغاء أحيانا و غَدر مساحيق التجميل الإعلامي الفرنسي له، هذا البريق جعله يضرب عرض الحائط بعض دعوات التبصر والروية.. فانطوى على جرحه، ومات و لم يبرأ، كما مات غيره في صمت.. لكأنها هي لعنة قدر أصابت مفكرينا وباحثينا في الغرب، وبالتالي يصبح رحيل مثل هؤلاء محزن ومؤلم حتى ولو اختلف بعضنا معهم في المنهج وتقدير المصالح، ولكنهم بالتأكيد أكثر حظاً من آخرين رحلوا، لم تعرف إلا قلة من الناس أهميتهم ودورهم، وما قدموه لمجتمعهم ووطنهم ودينهم و لو من وراء البحار، غادروا دون أن يحظوا بما يستحقون من تكريم وعزاء، وهم كُثر….
المفكر رائد وفاتح طريق، وعلى التالين له، أن يضعوا الإشارات الضوئية اللازمة
حتى لو كان يزعم المرحوم مالك شبال وأمثاله كمحمد أركون أنه حداثي “خالص”.. نحتاج أن نقرأ لهم، لتحفيزهم على غربلة بعض محطات مسار أفكارهم.. فالمفكر يحتاج لرأي الآخر لمراجعة نفسه.. فلا يجب باي حال أن يغيب على نباهتنا أن المفكر رائد وفاتح طريق، وعلى التالين له، أن يعبدوا الطريق ويضعوا الإشارات الضوئية اللازمة !!
أما مالك شبال فهو يتيم الأب و المرشد، فقد دفع الثمن أن يكون رائدا لوحده وعلى مجازه.. لقد كد وأجتهد وعرق، بل و أشتغل حتى أحترق.. حوصر في الجامعة الجزائرية وأكره على المغادرة، ولم يجد إلا الغرب يحتضن أفكاره.. خسارة أن بعض كتابنا ومفكرينا في الغرب وبعض وجهاء المراكز الإسلامية أنهم لم يقتربوا منه لترشيد بعض مساره، علما أنه عقل كبير .. وأنا لعلى يقين، بأن في موت هذا الرجل ميلاده الحقيقي، ميلاد ربما سيتأخر بضع سنين لكنه آت لا محالة !!
حكى لي يوما، عن حادثة احتقار و استصغار وقعت له منذ سنوات، لما دعي لندوة رفقة بعض طلبته وقدماء تلاميذه في إحدى إمارات مشرقنا الإسلامي، كيف عومل باستصغار وازدراء رغم ثقل وزن مواهبه، لا لشيء إلا لأنه عربي مثلهم ..حيث حجزت غُرف فاخرة جدا لتلاميذه لأن أسماؤهم غربية، أما هو ما دام إسمه عربي و من أصول جزائرية، فقد أعطيت له غرفة “عساس” أي حارس، على حد تعبيره. أي غرفة صغيرة لا تليق بمقام الرجل، بشهادة طلبته الذين استحيوا من هذا التمييز الأرعن في حق أستاذهم!! فأبت نخوة المرحوم إلا أن يعود لبيته ولا يبقى هناك لحظة وغادر الندوة في نفس اليوم، وترك أشغال الندوة تديرها رؤوس “أصحاب العقال” في ظلمات الجهل ” صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ.”
المغربي اليساري أحمد بناني صاحب الاطروحات الجدلية رحل على صليب
واليوم بموت المفكر مالك شبال في سن العطاء، وقبله بأيام مات الباحث اليساري أحمد بناني المغربي، من نفس الجيل، طبعا مع الفارق الكبير بينهما في فهم الإسلام و تطبيقه. فالدكتور بناني من مواليد 27 مارس 1948 بمكناس، رجل سياسي وليس مفكرا بوزن وطينة مالك شبال. الأستاذ بناني يعد من أشهر معارضي النظام المغربي بالخارج أو كما يفضل تقديم نفسه “معارض المخزن المغاربي”، وكان مناضلا في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وصديقا للمعارض المغربي البارز محمد البارودي، المسؤول في الحزب نفسه الذي غادر المغرب منفيا سنة 1963 وتوفي ببروكسيل في يونيو 2007
المعارض المغربي الراحل هو من خريجي جامعة السوربون بفرنسا، ثم استكمل دراسته العليا بجامعة لوزان، وبعدها تم تعيينه أستاذا لمادة التاريخ وعلوم الأديان بلوزان السويسرية حيث جمعه البحث العلمي بالمفكر الجزائري صاحب الاطروحات الجدلية الدكتور محمد أركون وكان صديقا للرئيس الجزائري الأسبق أحمد بنبلة، وللمعارض الجزائري المخضرم الحسين آيت أحمد الذي كان للراحل أحمد بناني فضلٌ كبير في إعادة تصحيح كتابه الشهير “ذاكرة محارب” .. حسب رواية أحد الزملاء المغاربة.
عربي علماني، جعلت منه وسائل الإعلام ناطقا باسم الاسلام
الدكتور بناني استغلته هو أيضا وسائل الإعلام السويسرية والغربية عموما أبشع استغلال لضرب المسلمين في الظهر والتهكم بالدين الاسلامي، وهو الذي يصف نفسه بـ” المسلم العلماني” الذي لا يصلي ولا يصوم ولا يحج و لا..، علما أن والده متدين ومناضل مغربي عريق.. والدكتور بناني هو أيضا مناضل شرس في ميدان حقوق الانسان في سويسرا وكتاباته متداولة في الصحف، ووقف مواقف بطولية مساندة لللاجئين العرب منذ سنوات خلت، خاصة بمساندته لضحايا الربيع العربي في المدة الاخيرة، قبل ان يستفحل مرضه، وقد حسن إسلامه في المدة الاخيرة، لما أصيب بمرض السرطان عفاكم الله، وأصبح يتردد على محلات الاخوة المغاربة لأخذ لحم الحلال من محلاتهم وكذا رزنامة مواقيت الصلاة.. و لما سمعت بوفاته قررت الحضور لمراسم جنازته مساء يوم الخميس على أن يصلى عليه يوم الجمعة و يدفن في مربع المسلمين؟ إلا أن الأمور لم تكن كما كنت أتوقعها ؟ فمراسم الجنازة أو كلمات التأبين كانت كارثية للغاية، تمت بنفس الطريقة التي تمت بها جنازة زميله الأكبر الزعيم التاريخي الجزائري الحسين آيت أحمد، و كُنت قد كتبت عن ذلك – منذ أقل من سنة- مقالا تحت عنوان ” جثمان أيت احمد ودبلوماسية الجنائز .. من ضفة لأخرى ومن أرض لأرض” كتبت مستغربا، كيف لم تقرأ في جنازته فاتحة الكتاب ولم يعزف حتى النشيد الوطني الجزائري، لأن نضال المجاهد آيت أحمد لا يستحق مثل هذه الخاتمة التعيسة، وهو إبن بيت أمازيغي محافظ ووالده معروف كإمام و مرجع ديني لـ “ثاجماعث” في منطقة القبائل، كما يقال عندنا نحن الأمازيغ.
تأبينيه صليبية على مسلم لم يقرأ فيها حتى فاتحة الكتاب
نعم نفس المراسم الجنائزية اليسارية الصليبية، من موسيقى متنوعة عربية وغربية وكلمات تأبينيه تمجيدا لنضالات “الرفيق” بحضور عربي وغربي حاشد ..نساء ورجال و بعض مسؤولي مدينة لوزان أعطيت لهم الكلمة.. بحيث ألقيت كلمات هلامية رجراجة لم يذكر فيها اسم الله مطلقا، ولم تقرأ فيها حتى فاتحة الكتاب على المرحوم، ولم يعزف حتى النشيد الوطني المغربي والأدهى والأمر أنه علق خلف ضريحه صليبا في حائط القاعة و نشط المراسم سويسري بلباس الكهنة التقليدي الأبيض!
علما أن المرحوم يعرف نفسه دائما في وسائل الاعلام أنه “مسلم علماني”، فأين العلمانية من هذا؟ وأين الإسلام العلماني لو صدقنا بذلك جدلا.. وهذا بشهادة الجميع، بل وبحضور إخوة مغاربة ملتزمين مسلمين كثر في القاعة، ما استطاع أحد منهم أن يقنع عائلته!
المرحوم آيت أحمد استودع لديه بعض مذكراته ووثائق الثورة الجزائرية
مما حز في نفس العبد لله، فأضطر كاتب هذه السطور من باب الحمية لدين الله الوقوف قبيل نهاية المراسم والذهاب – جهارا نهارا – كما يقال، صعدت المنصة صوب نعش المرحوم و تلوت على روحه فاتحة الكتاب، والدعاء له على مرأى و مسمع من الجميع، أمام دهشة منشط المراسم” العلماني المسيحي” !
لا لشيء إلا لأني التقيت المرحوم في المدة الأخيرة في رمضان وأعرف الوضع االصعب الذي يعيشه جراء مرضه و كان يحدثني عن الوضع العربي و الإسلامي في دولنا.. وأذكر بعد جنازة آيت أحمد، بأشهر أنه قال لي أن المرحوم آيت أحمد اودع لديه بعض مذكراته ووثائق الثورة الجزائرية وأمور تاريخية أخرى مهمة، ووعد أن يريني بعضها لما تتحسن حالته الصحية. وفعلا وهو يعد لكتابة شيء عن الذكرى الأولى لرحيل آيت أحمد التي تصادف يوم 23 ديسمبر المقبل، فاضت روحه لبارئها قبل أن ينهي ما ينوي تحضيره للمناسبة، وجف ميداده إلى ألابد وأنكسر قلمه.. ليدفن يوم الجمعة في صمت في المقبرة العمومية بمدينة لوزان السويسرية، بعيدا عن أنظار المسلمين وبعيدا حتى عن مربع مقبرة المسلمين؟؟
و بكل اسف لم تصلى عليه حتى صلاة الجنازة، حسب بعض الاخوة المغاربة الذين تشاجروا مع طليقته السويسرية الماركسية و ابنهما، لأخذ الجثمان للمسجد للصلاة عليه ودفنه بعد ذلك على الطريقة الشرعية ولم يفلحوا؟ علما أن المرحوم في آخر حياته حسن إسلامه وعاد يصلي خاصة في شهر رمضان، بشهادة معارفه من الاخوة المغاربة..
وماذا عن وثائق و أرشيف أحمد بن بلة و بشير بومعزة الذين تعرف عليهم
الرجل أفضى إلى أمر ربه، وأخذ معه أفكاره وأسراره، فأتصل بعض الأساتذة العرب بالعائلة قصد معرفة ما مصير بعض المراجع والكتب، منها مراجع المرحوم و كذا ما أودعه لديه آيت أحمد وربما أيضا الرئيس الأسبق أحمد بن بلة و بشير بومعزة الذين كانوا يسكنون لوزان و ضواحيها .. المرحوم بناني كان معارضا للنظام المغربي و بالتالي وجد ضالته في الاحتكاك ببعض رموز الثورة الجزائرية مع الفارق في السن طبعا.
قبل أيام أخبرني أحد الزملاء يبحث عن بعض المراجع، أن طليقة المرحوم بناني قالت لهم بالحرف الواحد: ” من أراد أن يأخذ كتابا أو مرجعا ما من كتب الفقيد، عليه أن يدفع لي ثمنه، لأن أحمد بناني عليه ديون !!”.. وأية ديون!؟ مهما كانت صحة هذه المزاعم من عدمها، التي استبعدها جل معارف الرجل، إلا أن الأمر جد ولا مزاح فيه بالنسبة لجاليتنا عموما والباحثين خصوصا، ليس في سويسرا فحسب و ليس لهذا الباحث المغربي فقط، بل بصفة عامة ، تراث وأرشيف زعماء العالم الإسلامي والعربي في الغرب لم يسترد عشرها ولم ينقب عنها و لم يغربل من طرف أصحاب الاختصاص، من عهد الأمير عبد القادر إلى آيت أحمد وغيره، على اختلاف توجهاتهم السياسية وحتى الدينية أحيانا.. فأين هي سياسة وزارات الثقافة والبحث العلمي في هذا الميدان ؟
كل شرائح المجتمع تتحمل مسؤولية ضياع أرشيفنا و تاريخنا
بداية نحمل المسؤولية لأصحاب الأرشيف أنفسهم في حياتهم قبل موتهم والمؤتمنين عليه من العائلة والأقارب، كما نحمل المسؤولية مساجدنا التي لم تقم بدورها، و لم تحتضن عائلاتهم و لم تعتني العناية الكافية بهؤلاء القوم.. لأن للمساجد أهمية بالغة في حياة المسلمين، فهي الزاد الروحي لمسيرة المسلم الطويلة إلى الله تعالى، وهي المدرسة التي يأخذ فيها علومه وآدابه ويعرف ماضيه وحاضره، ويرسم خطى مستقبله، ولقد كانت المساجد في أيام عزتها ومكانتها منطلقَ المسلمين لكثير من شؤون حياتهم، فمن ذلك أنها كانت جامعة لمختلف العلوم، وساحة للتدريب على مشاق الدنيا، حتى خرجت منها جيوشا من العلماء و الدعاة إلى أصقاع الأرض مهللة مكبرة ترفع راية الإسلام السلمية في كل أنحاء المعمورة.. تلكم هي مكانة المساجد وأهميتها، واليوم لا بد من إعادة تلك الأهمية والمكانة إلى نفوس الناس وواقع حياتهم، لكي لا تتكرر مثل هذه المأساة المحزنة.. والله يقول الحق و هو يهدي السبيل.
محمد مصطفى حابس
23 نوفمبر 2016