يعتبر الإسلام، وعيش المسلمين بدينهم كمنهج حياة، من القضايا الشائكة في الغرب وخاصة في دولة مثل فرنسا ، تدعي أنها تطبق سياسة لائكية لادينية، لكنها مزدوجة المعايير، بحيث تدافع طبقة كبيرة من مثقفيها وسياسييها على ما يسمى «الاستثناء الفرنسي» في الهوية والثقافة أمام ما يعتبرونه زحف الثقافة العربية والإسلامية عموما والمغاربية خصوصا في المشهد الثقافي والاعلامي. ووسط الجدل القائم منذ عقود، وعلى غير عادة الحناجر والأقلام الفرنسية ها هي اليوم شخصيات أخرى فرنسية من الضفة الاخرى للبحر الأبيض المتوسط ترفع عقيرتها منددة بأبواق الإسلاموفوبيا من بني جلدتها وفي عقر دارها خصوصا، والهيمنة الغربية عموما. من هؤلاء كنا قد أمطنا اللثام – في عدد سابق من البصائر، رقم 732- للقارئ العربي عن قامتين من قامات الأقلام الغربية، في شخص كل من “ريجيس دوبري” و”إدوي بلنيل “في مقال مطول بعنوان :”على غير عادة الحناجر و الأقلام الفرنسية.. صرخات جديدة ضد التوظيف السياسي للإسلام في الغرب”.
وها نحن اليوم ندعوكم لتصفح مواقف كتاب ومفكرين أمثال “فرانسوا بيرقات” و “باسكال بونيفاس” {الذي نخصص له لاحقا مقالا بحول الله} وغيرهم ، الذين أنصفوا العرب والمسلمين أيما إنصاف، بل أحيانا قدموا صورا و نماذجا غاية في اللطف و الموضوعية، أحسن من العديد من مثقفينا المستلبين حضاريا من بني جلدتنا في ديار الغرب الذين انسلخوا حتى عن ثوابت الأامة.
“فرانسوا بيرقات” مثقف محايد يحاول بأفكاره الصمود في وجه قوة أعاصير الباطل.
هو أحد أكثر الباحثين الغربيين فهما لأوضاع العالم العربي والاسلامي ومن أكثرهم موضوعية ودقة فيما يكتب عنه عموما، خبير محاضر في العديد من المؤسسات الدولية ، كالمنتدى الاقتصادي الدولي و البرلمان الأوروبي والحلف الأطلسي و غيرهم .. عاش ما يقارب ربع قرن مدرسا و محاضرا زائرا في الفترة ما بين { 1973-2013} في دول المشرق و المغرب العربي، إذ انطلق مشواره التدريسي من الجزائر، بحيث بدأ يدرس الحقوق في جامعة قسنطينة، ثم رحل للتدريس في جامعات عربية في كل من القاهرة وصنعاء ودمشق وبيروت، ليعود إلى مسقط رأسه في فرنسا خلال السنوات الثلاث الأخيرة للإشراف على برنامج ممون من طرف المجلس الأوروبي بمعهد البحوث والدراسات حول العالم العربي والإسلامي، بجامعة أكس أنبروفانس الفرنسية.
تعرفت عليه شخصيا في أوروبا منذ عام 1995 أو 1996 أثناء العشرية السوداء بالجزائر، ثم لم التقه بعدها إلا نادرا في بعض ندواته العامة، وأول ما ألتقيته لمست فيه صراحته وتواضعه و إنسانيته عكس العديد من المتهورين الاستعلائيين في صفوف المثقفين الفرنسيين، وهو على حد تعبير أحد الاخوة الذين أحتكوا به كثيرا، أنه يصدق فيه قول بعضنا، أنه ” مؤمن يكتم إيمانه”، وقد ذهب يوما ليقول لنا صرحة – في أول لقاء معه – عن بعض تحاليله وكتاباته للواقع الإسلامي والعربي والجزائري عموما، أنه ما يقوله لنا حاليا ليس سرا أو خاصا، بل هو نفس الكلام الذي سيعطيه لغيرنا، بما في ذلك حتى بعض الدول والهيئات والمخابرات، لما يدعى من طرف بعض مصالحها لإلقاء المحاضرات وتقديم أفكاره وتحليلاته للأوضاع الجيوساسية عن الإسلام والمسلمين في العالم..
غياب العدالة في التعاطي الإعلامي مع القضايا التي تهم المسلمين.
فالمفكر فرانسوا بيرقات، الذي دعي أخيرا للتحدث في الجمعية العمومية (البرلمان) التونسي، حول المنظمة الجهادية المسماة ” داعش”، عن ما أسماه بغياب العدالة في التعاطي الإعلامي مع القضايا التي تهم المسلمين، وقال بيرقات، أن الأمثلة على ذلك كثيرة ومن بينها صناعة رموز قيادية إسلامية “مغشوشة” ولا تتمتع بأية مصداقية، وتمكينها من مساحات واسعة للتعبير باسم جاليتنا في المهجر. وتابع بقوله أنه عندما يسمع المسلمون في فرنسا “أئمة” يتحدثون باسمهم وهم لا يستطيعون تركيب ثلاث جمل سليمة ومتتالية. فإنهم يشعرون، بالإقصاء والتهميش والاذلال، مثلما يمكن أن يشعر أي إنسان عندما يتحدث آخرون باسمه وهو لا يجد نفسه في خطابهم..
المسلم الجيد – بالنسبة للنخب الفرنسية – هو المسلم الذي تجرد تماما من إسلامه
وأضاف بيرغات، نحن – أي الاعلام الفرنسي- لا نقبل في الفضاء العام إلا الأميين، أو أنصاف المتعلمين، الذين يُقدمُون على أنهم يمثلون المسلمين، ونُقصى العلماء وأصحاب الفكر والمعرفة منهم، أولئك الذين يعبرون بحق وحقيقة عن الجالية المسلمة في فرنسا، وإن حدث أن تمكن هؤلاء من التعبير عن وجهة نظرهم، يتهمون مباشرة بأنهم أصوليون. ويخلص المفكر الفرنسي بيرقات إلى قوله، بأن ” المسلم الجيد -بالنسبة للنخب الفرنسية- هو المسلم الذي تجرد تماما من إسلامه”:
Un bon musulman, pour les (élites françaises), est un ” musulman ” qui n’est plus musulman
وهذا الوصف للمسلم في فرنسا وبهذه الطريقة وذاك الشكل من طرف طبقة تدعي أنها مثقفة، لو قالها أحد المسلمين أو أي شخص آخر إسمه محمد أو فاطمة لأتهم بالأصولية والتطرف والعنف والارهاب..
المثقّفون ضمير البشرية، يتحلّون بالموهبة الاستثنائية، وبالحس الأخلاقي الفذّ
ويعجبني في هذا المقام كلمة ذهبية للمفكر المسيحي الفلسطيني، إدوارد سعيد، الذي يحدد بإيجاز وإعجاز تعريف ومهام المثقف الحر النزيه، بقوله «إن إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المُقولَبة والمقولات التصغيريّة، التي تحدُّ كثيراً من الفكر الإنساني والإتّصال الفكري»
وعموما، فلا يكون المثقف جديرا بهذه الصفة والمهام، إلّا إذا كان علاوة على دوره التنويري، حاملا لمشروع ورؤية إصلاحيّة للمجتمع. انسجاما مع هذا المفهوم فإنّ المفكّر الفلسطيني البارز” إدوارد سعيد” ينظر إلى المثقف في كتاب “الآلهة التي تفشل دائما” على أنّه “شخص نخبوي”. لأنّ عامّة النّاس ليس لهم وعي المثقّف ورؤيته النافذة للمشكلات القائمة، ولا يملكون بالضرورة مشاريعا لاستنهاض المجتمعات التي ينتمون إليها. ولا هم يدافعون عن قضايا المعدمين والمضطهدين، الذين سمّاهم طه حسين “المعذّبون في الأرض”، ولأنّ غير المثقفين غالبا ما تعوزهم قوّة الأفكار وعمقها. وهذا ما يتّفق مع تعريف “جوليان بندا” للمثقّفين من أنّهم «عصبة صغيرة من الملوك والفلاسفة، الذين يتحلّون بالموهبة الاستثنائية، وبالحس الأخلاقي الفذّ، ويُشكّلون ضمير البشرية».
المثقّف “مؤلّف لغة تحاول أن تقول الحقيقة للسلطة”
ولعلّه من منطلق الوفاء لمشروعه يصبح المثقّف “مؤلّف لغة تحاول أن تقول الحقيقة للسلطة” وفق تعبير المفكر إدوارد سعيد” كما يصبح هو “من يحمل الحقيقة في وجه القوة ” وفق تعبير المفكر اليهودي “نعوم تشومسكي” ليفرضها بقوة العقل لا بقوة العنف و الاكراه ..
و كلمات ” المثقّف” و”الثقافة”، كما جاء في المعجم الوسيط ما يفيد أنّها كلمات مُحدَثة في اللغة العربية. بما يعني أنّ العرب والمسلمين لم يبتكروها، لا بل ولم يعرفوا مطلقا هذين المصطلحين رغم اهتمامهم بمكوّنات “الثقافة” ومن ينتجها في بعض الأحقاب من تاريخهم، باعتبارها عصب الحياة ومرتكزا أساسيا للوعي، وعمادا لا غنى عنه لوجود وتنمية الأفراد وتطوير المجتمعات وتربية وتهذيب الذوق. لذلك فقد غابت – بداهة – كلمة ثقافة في الشعر الجاهلي القديم، وهو ديوان العرب، كما غابت كذلك في القرآن الكريم، وهو دستور المسلمين، رغم ورودها في صيغة مشتقّة في قوله تعالى:{ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الانفال /57-
عندما يعيش الانسان لنفسه فقط، فإنّه يعيش ويموت صغيرا مهما كبر
و يحكى – أخيرا- أن الرئيس الاشتراكي الفرنسي الأسبق، فرانسوا ميتران، لما زار لأول مرة بريطانيا في تسعينات القرن الماضي، وفي إحدى الأمسيات، طلب من مستشاريه، برمجة سهرة للمسامرة مع طبقة “المثقفين” البريطانيين في لندن، فرد عليه البروتوكول البريطاني للسيدة تاتشار، بقولهم كلمة ” المثقفين” مطاطة وهي في ثقافة “الانكلوساكسون” عندنا تعني كل شيء، أي تخصص تريدون؟ تريدون أن تسهروا مع عازفين أو راقصات أو ..؟ أم هل ترغبون السمر مع كتّاب أو روائيين أو قصاصين أو موسيقيين أو مبتكرين أو فيزيائيين أو.. ؟؟ فكل هؤلاء مثقفون في العرف البريطاني..”فبهت الذي كفر”.
وبالتالي ليس للمثقف تعريف واحد حوله إجماع. فكل التعريفات، لا تزال مثار جدل دائم لأنّها ضبابيّة، غائمة وهلاميّة. ولأنّها تعريفات متحرّكة في الزمان والمكان. هذا بصرف النظر عمّا إذا كان المثقّف هو فقط الممارس للفعل الثقافي والفكري كمنتج للأفكار ولضروب الثقافة عموما، أم المثقف هو المتعلّم المستهلك للثقافة أم هو ذلك المشتغل في المجال الثقافي الواسع، الذي يمتدّ من حماية التراث إلى الإنتاج الفنّي والفكري وصولا إلى نشره وتوزيعه وتوثيقه ونحو ذلك.
أّمّا في فرنسا فقد اصطلح على تسمية هذه الطبقة “المثقّفون”، للإشارة إلى من يمارس نشاط ذهني أو إعلامي أو كتابي، وينخرط في الحياة العامة، معبّرا عن تحليلاته للأوضاع وطارحا لمقترحات وحلول لها، وفق ما تمليه أطماع دنيوية تافهة، خدمة للعنصرية ضد المواطنين المسلمين في ديار الغرب، ضاربين عرض الحائط، القيم الخالدة للحقيقة والعدالة والحريّة، باعتباره حارسا للقيم الكونيّة الثابتة، بغض النظر عن أصل الشخص وفصله.. ولونه وعرقه و..
وبديهي، أنّ المثقّف بهذا المعنى النبيل، الذي يخدم الإنسانية عامة، يجسّد، لا بل يتماهى مع مقولة “عندما يعيش الانسان لنفسه فقط، فإنّه يعيش ويموت صغيرا مهما كبر، وعندما يعيش لغيره، فإنّه يعيش ويموت عظيما مهما صغر” ، وينطبق عليه وعلى أفكاره كما على أفعاله ما جاء في الأثر من أنّ {أَفْضَل الْجِهَادِ كَلِمَةُ حقّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِر}. والشطر الثاني من قوله تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ}. فيما ينطبق على مثقّف السلطة الظالمة لشريحة من مواطنيها أو جلها، وبوقها الشطر الأوّل من الآية و بيت المتنبّي القائل :
إذا كَانَ بَعْضُ النَّاسِ سَيفاً لِدَوْلَةٍ *** فَفِي النَّاسِ بُوقَاتٌ لَهَا وَطُبُولُ
محمد مصطفى حابس
26 جانفي 2016