تشهد الجزائر هذه الأيام إقالات وتعيينات طالت مناصب استراتيجية داخل بعض أهم المؤسسات العسكرية والأمنية للدولة وإعادة هيكلتها في غياب تام للشفافية والمساءلة ودون استشارة الشعب. وهكذا يستمر النظام في رفضه مختلف النداءات من أجل التحوّل السياسي المنشود الذي يعيد السيادة الكاملة للشعب ويمكّن الجزائر من مواجهة الوضع الأمني المتردّي في معظم دول الجوار والساحل وتداعيات تدهور أسعار البترول وتفشّي الفساد. إن سياسة الهروب إلى الأمام نحو المجهول تشكّل تهديدًا خطيرًا لمستقبل الجزائر وأمنها بكل أبعاده.
إن الاستمرار في تجاهل أزمة عدم شرعية السلطة السياسية وخطورة انعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تعيشها الجزائر منذ فجر الاستقلال، والتي تفاقمت منذ جريمة انقلاب 11 يناير 1992 النكراء، لا يزيد الأزمة إلا تفاقمًا. آن الأوان لنهج مقاربة جديدة ونمط فكري مغاير للذي تسبّب في إنشاء هذه الأزمة التي نجمت في الأساس عن إقحام المؤسسة العسكرية في الساحة السياسية والإدارة العمومية والمنظومة القضائية، الأمر الذي ضل يشكّل العائق الأساسي دون تحقيق الحكامة الديمقراطية في الجزائر.
من أجل مؤسسة عسكرية ووكالات استخباراتية لمواجهة التحديات الأمنية والتهديدات
ليس لدينا أدنى شك في أنّ لأي دولة حاجة ماسة إلى جهاز مخابرات للتغلّب على التحديات الأمنية والتهديدات المحتملة التي تواجه البلاد. فالمعلومات الدقيقة مطلوبة لفهم السياق الاستراتيجي والتطورات الأمنية المحتملة، بما في ذلك المخاطر الأمنية والفرص المتاحة للتصدي لها، فضلًا عن أعمال ودوافع واستراتيجيات خصوم الدولة، الموجودين والمحتملين. إنّ معرفة الدولة بكلّ ذلك أمر مهم للغاية في تحديد المصالح الوطنية، ووضع سياسات واستراتيجيات أمنية فعالة، وتحديد المهام المناسبة لقوات الأمن، ووضع النظريات والعمليات.
ومع ذلك، فإنّ أخذ بعين الاعتبار فقط عامل فعالية الاستخبارات – الفعالية التي تعتمد عادة على السرية – دون عوامل أخرى قد يغذّي الانتهاكات وحماية الأجهزة من أي شكل من الرقابة والمساءلة، تحت ذريعة “اسرار الدولة” كما هو جارٍ في بلدنا منذ فجر الاستقلال إلى اليوم. بالفعل، ونظرًا لأنّ المعلومات المتعلّقة بالأمن القومي تحصل عليها بشكل عام الوكالات الاستخباراتية، فإن كانت هذه الأخيرة مُسيّسة أو أنها اتخذت لنفسها دورًا سياسيًا في الدولة، فقد تَحجب بعض تلك المعلومات بدوافع سياسية على ممثّلي الشعب المنتخبين. وهكذا كثيرًا ما ترفض وكالات الاستخبارات المسيّسة خدمة سياسات المنتخبين لتحقيق بدلها أهدافها السياسية أو الاقتصادية الخاصة أو أحيانًا أهداف جهات أجنبية.
إنه من الواجب الحفاظ على الوكالات الاستخباراتية والمؤسسة العسكرية بصفة عامة بمعزل عن الانتماء السياسي والمنافسة السياسية. هناك حاجة ماسّة لشفافية الوكالات الاستخباراتية لمنع مثل هذه الأخطاء ليس فقط باعتبارها إساءة لاستخدام الثروة وانتهاكًا لحقوق الإنسان في البلاد، ولكن أيضا للمساعدة في تحسين فعالية المؤسسة العسكرية ككلّ في حماية أمن المواطنين والوطن والوحدة الوطنية.
الجزائر بحاجة ماسة إلى إصلاحات ديمقراطية للمؤسسة العسكرية والوكالات الاستخباراتية
إن الحكامة الديمقراطية والدولة المدنية تتطلبان وجود مؤسسة عسكرية ووكالات استخباراتية تكون فعّالة وفي آن واحد، محايدة سياسيًا وشفافة وتخضع للمساءلة والرقابة الدستورية. يجب أن تفضي الإصلاحات الديمقراطية الحقيقية لهذا القطاع الاستراتيجي والحيوي للدولة إلى إنشاء إطار مؤسسي دستوري يمكّن المدنيين المنتخبين ديمقراطيًا – من رئيس الدولة والحكومة والبرلمان والمجالس المحلّية – مراقبة المؤسسة العسكرية والوكالات الاستخباراتية، وفي الوقت نفسه تمكينها من تحقيق الفعالية القصوى.
والتحدّي اليوم في تطوير والحفاظ على المؤسسة العسكرية والوكالات الاستخبارات تخضع للمساءلة الديمقراطية في حين تقوم بواجباتها الدستورية. كل ذلك في وقت تشهد المؤسسة العسكرية ومنذ سنين ارتفاعًا ملحوظًا في الضغط عليها عبر جميع حدودنا وحول آبار النفط وأماكن استراتيجية أخرى.
لذا فإنه من الضروري اتخاذ الإجراءات المناسبة للحفاظ على أمن المواطنين والوطن والوحدة الوطنية، منها:
1) إعادة صياغة علاقة “المدني بالعسكري” من أجل مؤسسة عسكرية وطنية مهنية قوية غير مُسيّسة، يتمّ سحبها نهائيًا وكلّيًا بالموازاة من الساحة السياسية والإدارة العمومية والمنظومة القضائية، وإخضاعها للرقابة من قِبل الشعب عبر مؤسساته المنتخبة، تمكّن المؤسسة العسكرية من التفرغ لمهامها الدستورية، وللبحث العلمي العسكري الاستراتيجي لما يخدم أمننا القومي، ولتطوير الصناعة العسكرية وتوفير كل الوسائل لإنجاحها كمشروع وطني سيادي لتخفيف عبء الميزانية والتصدّي للتحديات الأمنية التي تواجه بلدنا.
2) توحيد السياسة الخارجية الجزائرية في وزارة واحدة للشؤون الخارجية لتقويتها واستعادة مصداقيتها بالخصوص مع دول الجوار والساحل وشركائنا في الفضاءين المتوسطي والأطلنطي. حيث فقدت السياسة الخارجية الجزائرية الكثير من مصداقيتها وفاعليتها منذ أكثر من عقدين.
3) إنشاء لجنة مغاربية من خبراء في حلّ النزاعات للتكفل بأزمات المنطقة لما يخدم أمننا القومي واتحادنا المغاربي ويعزّز استقرار منطقتنا المغاربية وفي الساحل، ويحصّنها من أيّ تدخّل أجنبي.
4) التصدّي لظاهرة الإرهاب في إطار تنسيق عسكري وأمني مغاربي: لا بد من التصدّي لكلّ من يلجأ إلى التطرّف العنيف وإلى استخدام قوة السلاح لفرض مفاهيمه أو مشروعه السياسي. بغضّ النظر عمّن يقف من ورائها، فقد أصبحت الظاهرة تشكّل خطرًا حقيقيًا على بلدنا ودول الجوار والساحل وأمننا القومي.
5) لا بد من الإشارة هنا إلى أنه لا يوجد أيّ مبرّر لظاهرة الإرهاب. ومع ذلك، في الوقت الذي من واجب الحكومة المنتخبة حماية مؤسسات الدولة والمدنيين من بطش الإرهاب، لا بد من العمل على إزالة أسباب التطرّف العنيف والإرهاب. ومنه دعوتنا في حركة الحرية والعدالة الاجتماعية لإحداث التحوّل السياسي والانتقال الديمقراطي التوافقي نحو نظام حكامة مستقرّ يعبّر عن خيار الشعوب في تنوّعها.
6) التمكّن من العلوم الاستراتيجية والتحكّم في التكنولوجية: توفير الجوّ المناسب للخبراء الجزائريين للمساهمة الفعلية في وضع الجزائر على الطريق السليم الذي سيعرف فيه العالم نوعًا آخرًا من التهديدات التي تتطلّب استثمارًا بشريًا وماديًا مناسبين عوض دفع تكلفة باهظة الثمن على حساب السيادة الوطنية من جرّاء التبعية العلمية والتكنولوجية.
7) السعي لتوفير المناخ المناسب لتحقيق تكامل اقتصادي مغاربي لِما يخدم مصالح شعوبنا الاستراتيجية ونموّها، يمكّن للجزائر أن تلعب فيه دور الريادة بموقعها وثرواتها البشرية والطبيعية.
تجاوز الأزمة الاقتصادية مرهون بتحقيق شرعية السلطة وبعودة العسكري إلى الثكنة
إنّ الجزائر مقبلة على أزمة اقتصادية حقيقية خلال السنتين أو الثلاث القادمة، لم يسبق لها مثيل، لأنّ النظام عوّد المواطن الجزائري على نمط استهلاك لا يتوافق مع حقيقة العمل المنتج للثروة. استهلاكٌ استفاد ويستفيد منه بارونات الاستيراد المفرط. بالإمكان تخفيف هذه الأزمة الاقتصادية وتجاوزها بأمان إذا ما توفّرت الثقة بين الحاكم والمحكوم التي ترتكز على شرعية للسلطة لا غبار عليها وانسحاب المؤسسة العسكرية ووكالات الاستخباراتية من الساحة السياسية والإدارة العمومية والمنظومة القضائية.
فالجزائر تملك خبرة ديبلوماسية معتبرة، وترسانة عسكرية كبيرة، وإمكانيات تنمويّة بشرية ومادية هائلة، بإمكانها مواجهة المخاطر الأمنية في المنطقة وتحقيق في نفس الوقت التحوّل من اقتصاد الريع إلى اقتصاد منتج يمكّنها من تجاوز أزمتها الاقتصادية الخانقة. لكن هذا مرهون بإيجاد إرادة وطنية – سلطة ومعارضة – لمرافقة ذلك بتحوّل سياسي شامل حقيقي، يفتح المجال لكلّ الكفاءات والفعاليات الوطنية في الداخل والخارج للإسهام في تقييم الوضع وبحث البدائل والحلول الحقيقية للأزمة المركبة التي تعيشها البلاد.
في الختام، فإن المصلحة العليا لوطننا تتطلّب من جميع الجزائريين والجزائريات تحمّل مسؤولياتهم، وتجاوز الخلافات الأيديولوجية والسياسية، والتنسيق معًا لتوفير الظروف المطلوبة لإحداث تغيير شامل حقيقي نحو نظام سياسي أفضل يستجيب لطموحات الشعب ويعبّر عن تنوّعه، يجنّب بلدنا الفوضى، ويجعل حدًّا للانهيار الاجتماعي، ويُوقف استنزاف المقدّرات البشرية والمادية لبلادنا، ويُحارب كل الآفات التي ظلت تُعرقل تنميته الوطنية الشاملة. تغيير توافقي سلمي محكم يتمّ بصفة تدريجية ومسؤولة يجعل الدولة أداة في يد الشعب للحفاظ على مصالحه الاستراتيجية ومستلزمات التمكين من مصادر الطاقة الحيوية والزراعة، وتوفير الأمن الغذائي والعسكري لشعبنا، وليحقّق السلم والاستقرار للجزائر ولدول الجوار.
أنور نصر الدين هدام
نائب منتخب لدى البرلمان الجزائري (قائمة ج. إ. إ.، 26 ديسمبر 1991)
رئيس حركة الحرية والعدالة الاجتماعية
حُرر يوم السبت 5 ذو الحجة 1436 / 19 سبتمبر 2015