بعد سنوات من مطالبة المسلمين في نيويورك بإقرار عطلة رسمية في عيدي الفطر والأضحى، أعلن عمدة نيويورك، بيل دي بلاسيو أن المدارس الحكومية في مدينته ستعتمد عطلة رسمية في عيد الفطر والأضحى على غرار الأعياد المسيحية و اليهودية، احترما للتنوع الديني واعترافا بجهود المسلمين الامريكان. وطبقا لهذا القرار ستكون مدارس نيويورك في إجازة يوم 24 سبتمبر المقبل الذي يصادف عيد الأضحى، واعتبارا من صيف 2016 ، ستغلق المدارس و بعض المؤسسات الرسمية أبوابها أيضاً بمناسبة عيد الفطر. وفي خلفيات القرار، أوضح دي بلاسيو قائلاً إن “مئات آلاف العائلات المسلمة لن يتوجب عليها الاختيار بعد الآن بين الاحتفاء بأقدس الأيام وبين حضور الحصص في المدرسة”. ويشكل الطلاب المسلمون تقريبا 10 في المئة من تلامذة المدارس الحكومية، بحسب أرقام السلطات المعنية علما وأن المدارس في نيويورك تقفل بمناسبة جل الأعياد اليهودية والمسيحية..
وسيكتب التاريخ بداية من هذا العام 2015 م ، أن الجالية المسلمة إلتحقت بركب الديانات الأخرى في حقها في عطلة دينية (عيدي الفطر والأضحى) ابتداء من تاريخ الدخول المدرسي المقبل أي تحديدا من يوم 24 سبتمبر المقبل الذي يصادف عيد الأضحى المبارك، أعاده الله علينا وعليهم وباليمن والبركات..
هذا الإنجاز يأتي بعد مرور أزيد من عقد من الزمان على أحداث الحادي عشر من سبتمبر، الذي وصلت حينها أمريكا إلى طريق سياسي وفكري مسدود فيما يتعلق بالمسلمين الذين يعيشون داخلها. حيث يلخص المفكر الأمريكي بيتر سكيري ذلك تحت عنوان” التشوش الإسلامي الأمريكي” بقوله:” لا يزال العديد من الأمريكيين يخشون جيرانهم المواطنين المسلمين، وإن لم يكن كإرهابيين محتملين فكمتعاطفين مع الإرهاب، أو بشكل أعم كحاملي ثقافة غريبة يتشاركون فيها مع أعداء أميركا” وبالنسبة له فـ”ما يؤجج هذه المخاوف هي مجموعة من الصحفيين والمدونين التحقيقيين المتحمسين الذين يقومون بتدوير مجموعة من الحقائق حول الأصول الإسلامية لمعظم القادة المسلمين وجميع المنظمات الإسلامية الأمريكية الرئيسية”. هذه الحقائق مأخوذة إلى حد كبير – حسب بيتر سكيري- من الملاحقة القضائية الناجحة للحكومة الفدرالية، ثم يردف قائلا: “هذا لا يعني أن القادة المسلمين الأمريكيين إرهابيون أو متعاطفون مع الإرهاب؛ ولا هو انتقاد للطريقة التي يفسرون بها الدعوة لنشر الإسلام. فمثل العديد من المسيحيين، يعتبر العديد من المسلمين أفعالهم النموذجية هي أفضل وسيلة لنشر دينهم”.
النقد الذاتي عادة ما يكون من علامات النضج والثقة في النفس
رغم ذلك فرموز العمل الإسلامي ما نفك قادتهم حرصين كل الحرص في عمل مستمر حول الذات، بل فيهم من يتجرأ حتى في نقد بعض سلوكات بعض الدعاة والائمة، بل حتى نقد ومراجعات برامج جماعاتهم المستوردة من بلدانهم الاصلية التي لا تليق بأقلية مستوطنة في تربة غربية كأمريكا.. والنقد الذاتي عادة ما يكون من علامات النضج والثقة في النفس يجب تشجيعها لدى أية جماعة أو كيان بشري ما دامت تتم بنية حسنة وبعد بحث وتنقيب طبعا، وبهدف التجميع لا التفريق، والنصح لا الذم، والتشجيع لا تثبيط الهمم ..
وبعد هذا الإنجاز الواعد والمحترم الذي يسهل على جاليتنا المسلمة ترتيب أولوياتها و مستلزمات أيام اعيادها المباركة القادمة والتحضير لها بأشهر مسبقة بل بسنوات، وبالتالي يدخل هذا العمل في خانة “الدعوة العامة ” والتعريف بالإسلام عموما وسماحته و لطف تشريعه..
لكن أن يخرج علينا، بعد هذا الخبر السار، هذه الأيام بعض ” المتفيهقين” الذين يريدون تكدير صفو الأجواء ليقولون لنا “لقد ورطنا في عملية الحساب الاجباري وضيعنا العمل بالرؤية”، لأنه حسب فهمهم “ابتداء من هذه السنة في نيويورك وبعض المدن الامريكية الأخرى تواريخ أعياد الأضحى و الفطر أصبحت معلومة مسبقا ومعروفة رسميا من طرف المسلمين وغير المسلمين وبالتالي أيضا بداية رمضان أصبحت عموما محسومة”، متناسين أن الامر يخص أقلية مسلمة في بلد غير مسلم و يدخل ذلك في خانة الاستثناءات المشروعة عقلا و نقلا.. فأين المشكلة يا ناس؟
وبحكم عملنا في مثل هذه الأجواء في أوروبا، فإن للحساب المسبق فوائد جمة للأقليات المسلمة في الغرب خصوصا، لأن في الحساب تيسير كبير علينا، قصد حجز قاعات صلاة العيد مسبقا، وطلب عطلة يوم للموظف وطلبة المدارس وما يتبعها من تحضيرات وتكاليف تحتاج كلها إلى طلب إذن و رخص و.. و الامر لا يتم بين عشية لضحها أو بجرة قلم.. بل يتطلب وقت وجهد من كافة افرد الاسرة والجالية عموما، عكس ما هو في أية دولة مسلمة.. ففي دولنا المسلمة إذا أعلن اليوم أن بداية رمضان أو نهايته ستكون في يوم الغد مثلا، فلا حرج ولا يترتب على الامر أي شيء.. لأن الدولة في بلاد المسلمين هي التي تقرر ذلك والجميع ينفذ وبسرور، فإن كان يوم عيد فهي عطلة إجبارية للجميع، ولا يحتاج الامر إلى أي إذن أو ترتيب أو تحضير..
و من صيحات هؤلاء القوم” الحرفيين” الذين يوحى إليهم من بطون الكتب الصفراء، قولهم أن إعتماد أيام الأعياد رسميا وبالحساب تفرضه من الآن فصاعدا الإدارة الامريكية وهي التي تقرر تواريخ اعيادنا حسابيا، وبالتالي تضيع عنا فرصة الرؤية ومواكبة بعض دول العالم الإسلامي التي كنا نصوم ونفطر معها، وبالتالي نضيع العمل بالسنة الشريفة وفق ما روي عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) القائل: “صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ..” أو على رواية أخرى لأبي داود والنسائي والدرقوطني وغيرهم، قوله(صلى الله عليه وآله وسلم) “لا تصوموا الشهر حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة، ثم صوموا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة”، .. مشددين على جزئية في الحديث “لا تصوموا الشهر حتى تروا الهلال..” متناسين أن الحساب أيضا من السنة، خاصة بالنسبة لحالات استثنائية تخص أقلية من المسلمين مشردة في أرض الله الواسعة، وإلا ماذا يقول أصحاب “الفقه البدوي” – كما يسميهم الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) – للأقليات المسلمة التي صيام أيامها أكثر من 22 ساعة، أو ماذا يقولون للذين يعيشون في المتجمد الشمالي الذين لا يرى الهلال مطلقا في أرضهم، بل لهم ستة أشهر نهار وستة ليل؟
الخطاب السائد في أوساط المسلمين في أمريكا يدعو للوحدة في ظل الضغوط الراهنة
كفانا، يا إخواننا، تثبيطا، أيها الناس عودوا لرشدكم او ارحلوا عنا، لأن إنجاز مشاريع طموحة مثل هذه من أقلية مسلمة هامة تفخر بكونها حلقة صلة بين كيانين هائلين، أميركا من ناحية والعالمين العربي والإسلامي من ناحية أخرى، كما تفخر بسعيها للجمع بين أفضل ما يمثله الكيانان من قيم، مستفيدة بما تمتلكه من موارد بشرية تتميز بالشباب وبالتعليم وبالتعددية وبجذورها العربية والإسلامية الراسخة وبالعيش داخل مجتمع غربي متقدم، وهي ظروف يصعب توافرها لدى عدد كبير من الجماعات المسلمة أو العربية الأقل حظا في دول الغرب.
ما هو استثنائي ومبهج رغم ذلك في الغرب، هو أن الخطاب السائد في أوساط المسلمين والعرب الأميركيين خطاب يدعو للوحدة في ظل الضغوط الراهنة، كما يدعو للتعالي عن المشاكل التي قسمت العالمين العربي والإسلامي في الفترة الأخيرة من أزمات “الربيع العربي”، والاستفادة من خبرة التعايش الأميركي في هذا المجال، بين أقوام وأجناس وأديان متفرقة و كثيرا ما هي متناقضة..
من هذا المنطلق رأينا أن ننظر بعيدا في مقالنا هذا للوقوف عند القضايا المحورية التي تمثل تحديات ضخمة نابعة من داخل مسلمي أميركا أنفسهم، والتي يجب التوقف أمامها لدورها في التأثير سلبا أو إيجابا على مستقبل مسلمي أميركا كأقلية ذات رسالة هامة كما يؤمن رجالها و يطمح أبناؤها، وتحتاج لسنوات وربما لعقود لعلاجها..
وقد رأينا هنا أن نسلط الضوء عليها إيمانا بأن الشعور بالمشكلة وتوصيفها توصيفا دقيقا هما أول خطوات علاجها، ويعود ذلك لأسباب مختلفة ليس هنا محل الاستفاضة فيها، لأن الأقليات المسلمة هم أولى الناس بالتيسير والرخص، وأنهم في حاجة لفقه غير فقه المجتمعات ذات الغالبية المسلمة، إن من يعيش في مجتمع غير مسلم يكون في محنة، ويحتاج إلى من يعينه على أداء واجباته، ومن حقه أن نيسر عليه، كما جاء في فتاوى أصحاب الاختصاص المراعين للواقع والأولويات. حيث أشاد بعضهم بدور الصحوة الإسلامية في حماية الأقليات المسلمة من الذوبان، حيث عمقت إحساسها بذاتها وهويتها.
لكن تبقى من حين لآخر، أنه تهب عينا فتاوى لا تعرف الغرب ولا تراعي واقعا ولا زمانا، فتكدر علينا صفو العيش الآمن، وتفتح الباب على الرعاع، كما يسميهم الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، فيحللون الحرام ويحرمون الحلال، ولحد كتابة هذه السطور لازلنا نكتوي، بسيل من فتاوى “يجوز ولا يجوز”، بغير وجه حق..
هل “يجوز” للأقليات المسلمة أن تشارك في الحياة السياسية؟
فهناك من المسلمين من خرجوا من دار الإسلام إلى ديار الغرب لأسباب عديدة، يضيق المجال للتفصيل فيها، فكيف يوفق هؤلاء بين دينهم وبين الواقع المعاش؟
لقد حدثت تساؤلات كثيرة تتعلق بالعقيدة والعبادة والمعاملات والأحوال الشخصية.
فكتب باحثون و كتاب في ذلك أبحاثاً عن “فقه الأقليات” أو “فقه المهجر”، ولكن هذه الكتابات متباينة، فبضعهم مال إلى التسهيل في كل شيء حتى أجاز لهؤلاء أن يقاتلوا ضد المسلمين لإثبات مواطنتهم للغرب.
وبعضهم قال عن مسألة الحجاب في فرنسا: “هي مسألة داخلية لا علاقة للإسلام بها”!
وبعضهم أجاز لهم التعامل بالربا بحجة أنهم في “دار حرب”!
وللإجابة على هذه التساؤلات يقول الدكتور طه جابر العلواني في كتابه (مدخل إلى فقه الأقليات)، أنه لا يمكن إدراج “فقه الأقليات” في مدلول “الفقه” كما هو شائع الآن – أي فقه الفروع – بل الأولى إدراجه ضمن “الفقه” بالمعنى العام الذي يشمل كل جوانب الشرع اعتقاداً وعملاً، بالمعنى الذي قصده النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: “من يُرِدِ الله به خيراً يفقهه في الدين”، ومن هنا كانت ضرورة ربط هذا الفقه بالفقه الأكبر وضعاً للفرع في إطار الكل، وتجاوزاً للفراغ التشريعي أو الفقهي. ومعنى هذا أن فقه الأقليات هو فقه نوعي يُراعي ارتباط الحُكم الشرعي بظروف الجماعة وبالمكان الذي تعيش فيه، فهو فقه جماعة محصورة لها ظروف خاصة، يصلح لها ما لا يصلح لغيرها، ويحتاج متناوله إلى ثقافة في بعض العلوم الاجتماعية، خصوصاً علم الاجتماع والاقتصاد والعلوم السياسية والعَلاقات الدولية.
فإذا سأل سائل – مثلاً- هل “يجوز” للأقليات المسلمة أن تشارك في الحياة السياسية في البلد المقيمة فيه، بما يحفظ لها حقوقها، ويمكنها من مناصرة المسلمين في بلدان أخرى، ويبرز قيم الإسلام وثقافته في البلد المضيف؟ فإن الفقيه الواعي بعالمية الإسلام وشهادة أمته على الناس، وبالتداخل في الحياة الدولية المعاصرة لن يقبل السؤال بهذه الصيغة؛ بل سينقله من منطق الترخص السلبي إلى منطق الوجوب والإيجابية، انسجاماً مع ما يعرفه من كليات الشرع وخصائص الأمة والرسالة.
لا لشيء إلا لأن الإسلام في العقود الأخيرة استوطن بلداناً كثيرة؛ مما استدعى أن يكون لهذه البلدان إطار فقهي خاص بها، يراعي خصوصيتها؛ حيث بدأ المسلمون يواجهون واقعًا جديداً يثير أسئلة كثيرة جدًّا تتجاوز القضايا التقليدية ذات الطابع الفردي المتعلقة بالطعام المباح، واللحم الحلال، وثبوت الهلال، والزواج بغير المسلمة…إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثراً ذات صلة بالهُويَّة الإسلامية، ورسالة المسلم في وطنه الجديد، وصلته بأمته الإسلامية، ومستقبل الإسلام وراء حدوده الحالية”.
ويركز الدكتور العلواني بقوله في موضع آخر :” والمسألة ليست مسألة تخفيف وتشديد، بل هي أكبر وأخطر إذ أن للفقه والتقنين تأثيراً مباشراً في البناء الاجتماعي والثقافي والنفسي، ولذلك فإن الأمر أخطر مما يظن أولئك الذين يصورون هذه الأمور على هواهم، إن الأمر يتعدى ويتجاوز تلك المشكلات الفقهية التي تعن بالأفراد. إن الإشكال يتعلق في كيف نجعل مقاصد القرآن العليا الحاكمة ومقاصد الشريعة والعقيدة والشريعة معاً تنعكس كلها على مجتمعاتنا في المهجر لنقدمها نماذج تستولي على احترام الآخرين وإعجابهم وتقديرهم، ومن ثم الرغبة في الانضمام إلى هذه الأمة القانتة”.
ويبقى الغرب جزءًا من أمة الدعوة يحتاج إلى أنوار فقه جديد
فالكل يعلم اليوم أن مستقبل المسلمين والعرب في أميركا كأقلية مستقرة مندمجة قوية يتوقف على هذا الفهم المتوازن وقدرة الجيل الراهن من قادتهم على الدفع بالجيل الثاني الشاب لمواقع القيادة على مختلف المستويات، وذلك لدرجة أن نجاح المنظمات المسلمة والعربية الأميركية ينظر إليه أحيانا بمعيار قدرة تلك المنظمات على اجتذاب الشباب إليها وتوليتهم مواقع قيادية فيها بأكبر قدر ممكن وفي أقصر فترة زمنية ممكنة، ولإخراج هذه الأقليات من عزلتها وتغادر خلافاتها الصغيرة وتنخرط في الحياة السياسية في الأحزاب القائمة، وتبحث لها عن حلفاء وأصدقاء وتخرج لها متحدثين باسمها أكفاء يحملون راية الوسطية كما جاء بها القرآن الكريم : {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}، يبقى الطريق متعرج المسالك، ونور النفق لا يزال نوعا ما بعيدا للعامة، لكن رغم ذلك يبقى الغرب جزء من أمة الدعوة يحتاج إلى أنوار فقه جديد تتظافر فيه جهود واجتهادات مختلف علماء الأمة من شتى المذاهب الإسلامية ومن كل أصقاع المعمورة، تجديدا لهذا الدين و عملا بقول سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) القائل (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها) [ رواه أبو داود]، وما ذلك على الله بعزيز، و{ قل اعملوا فسيرى الله عملكم و رسوله و المِؤمنون}، إنه نعم المولى و نعم النصير .
محمد مصطفى حابس
16 جويلية 2015