إذا كان رمضان هذا الشهرُ الكريم، يمرُّ على كثيرٍ من الناس في عالمنا الإسلامي هذه السنوات الأخيرة وهم عنه غافلون، لأن أمتنا تواجهُ من الأخطار والتحدّيات،خاصة ما يجري في بعض بلداننا العربية ما يستهدفُ أبناءَها في عقيدتهم ومقدّساتهم وأرضهم وثرَواتهم على أصعدة شتى و في أمصار عدة، فإن حَمَلَةَ رسالةِ الإسلام في بلاد الغرب خاصة، يُدركون فضلَ شهر رمضان، ودورَه في حياة الأمة، فيهيّئون أنفسَهم لاستقباله كما يليقُ به، ليكونَ لهم مَوسِمَ خيرٍ وعطاء، وفرصةً للتقويم والارتقاء، ومُنطَلَقاً للنهوض والبناء، وزاداً يستعينون به على وعثاء السفر ومشقة الطريق، فهو بحق مناسبةً لتجديد العهد مع الله.. أو كما يحلو لشيخنا العلامة المرحوم محمود بوزوزو، تكراره كل سنة مع إشراقة كل هلال رمضان جديد، قوله شارحا أبعاد حديث بليغ من أحاديث الرسول المصطفى ( صلى الله عليه وسلم):” أتاكم رمضانُ شهرُ بركة، يَغشاكم الله فيه، فيُنزِلُ الرحمةَ، ويَحُطّ الخطايا، ويستجيبُ فيه الدعاء، ينظرُ الله تعالى إلى تنافُسِكم فيه، ويُباهي بكم ملائكتَه، فأرُوا الله من أنفسِكم خيراً، فإنّ الشقيّ من حُرِمَ فيه رحمةَ الله عز وجل” مقرا بقوله لنا :” إن رمضانَ مدرسةٌ متعدّدةُ الفصول، متنوعةُ الدروس، عظيمةُ الفوائد، ولكلّ فردٍ منا حظُّه من هذا الخير العميم، بمقدارِ استعداده واجتهاده وتوفيقِ الله عزّ وجلّ إيّاه، فلنغتنم أوقاتَه، ونتعرّضَ لنفَحاتِه” لنستدركَ ما فاتنا من تقصير، فنجدّدَ في قلوبنا معانيَ الإيمانِ بالله تعالى، والإخلاص له، والإنابة إليه، ونتقرّبَ إليه بالتوبة والاستغفار، والإقلاع عن الذنوب، وحُسنِ أداء العبادات.. “ندعوه تضرّعاً وخُفيَة، ونبتهِلُ إليه خوفاً وطمعا، نتلو كتابَ الله متدبّرين، بقلوبٍ خاشعةٍ، وعيونٍ دامعة، نسألُ اللهَ الجنة، ونستعيذُه من النار، مستشعرين فضلَ الله علينا وعلى الناس جميعا في ديار غرب مضيافة” أو كما قال، رحمه الله.
و كما لاحظ الجميع أخيرا خصوصية هذه السنة من حرارة فصل الصيف و الفارق الزمني الكبير إلى مواقيت الامساك والافطار في أوروبا بحيث أصبح تقريبا معدل ساعات الصيام يفوق 19 ساعة يوميا بل يصل في بعضها إلى 22 ساعة وأكثر في دول شمال أوروبا، لذلك تعذر هذه السنة على مراكزنا الاسلامية بأوروبا أداء نشاطها الليلي المعهود بعد التراويح، بل ذهبت بعض المراكز الاسلامية للاستغناء عن إحضار أئمة صلاة التراويح ومحاضرين ومقرئين من دولنا العربية والإسلامية لأن ساعة الافطار تكون متأخرة في حدود الـ11 ليلا أو تزيد، وفي بعض الدول الأخرى صلاة التراويح تتعد منتصف الليل، علما أن الإمساك يكون بعد ساعتين في حدود الساعة الثانية والنصف صباحا.. وحتى لا يضيع فضل ختم القرآن فإن المشرفين على المراكز الاسلامية اجتهدوا هذه السنة بالنسبة لصلاة التراويح (القيام) لتصلى فيها على قسمين؛ 8 ركعات بعد صلاة العشاء يُقرأ فيها حزب من القرآن، ومثلها قبل صلاة الفجر ويقرأ خلالها حزب أيضا.
لكن يبقى من الأنشطة اللافتة للمساجد في هذا الشهر الكريم، تنظيمها لموائد إفطار جماعية يومية، يستفيد من خدماتها آلاف المحتاجين من أبناء الأقليات المسلمة، خصوصا الطلبة والمقيمين بطريقة غير قانونية، فضلا عن بعض المشردين من غير المسلمين، من بينهم عدد من القادمين من دول أوروبا الشرقية.
بحيث تعتبر أجواء شهر رمضان في بعض العواصم الأوروبية، الأقرب إلى أجواء الشهر المبارك السائدة في مدن العالم العربي والإسلامي، فغالبية المحلات التجارية التي تعود ملكيتها إلى مهاجرين مسلمين من أصول عربية أو تركية، تبقي أبوابها مفتوحة ليلا إلى ما بعد الإفطار. إذ لا يعاني مسلمو جنوب أوروبا من ندرة السلع الاستهلاكية المخصصة لشهر رمضان، مثلما هو الحال في غالبية دول شمال أوربا، حيث تتوفر أحياء تواجد الغالبية المسلمة على عدد كبير من أفران الخبز العربي ومحلات الحلويات الشرقية والباكستانية والمغاربية خصوصاً منها كـ”الزلابية” و”البقلاوة” و”القطايف” و”المسمن” وغيرها، فضلا عن محلات المواد الغذائية التي تعرض سلعا مستوردة في معظمها من البلدان الأصلية، ومحلات بيع اللحم الحلال بأنواعه، وسلسلة من المقاهي والمطاعم التي تبقى مفتوحة إلى وقت متأخر من الليل.
ومن مميزات شهر رمضان الكريم – الذي حل هذه السنة في نفس التوقيت بالنسبة لعامة الدول – ازدهار حياة المساجد وتزايد أنشطتها الدعوية والخيرية، وإقبال المصلين الكبير على أداء مناسكهم بشكل جماعي فيها؛ حيث تسجل أعداد المصلين خلال الصلوات الخمس وخصوصا الفجر والعشاء أعلى معدلاتها السنوية. ويحرص غالبية مسلمي جنوب أوروبا خلال أيام رمضان على أداء صلاة التراويح (القيام) جماعة؛ حيث تضيق المساجد والمصليات في غالب الأمر بالمصلين.
ولكي لا تضيع فرصة التعلم والتفقه في هذا الشهر الفضيل، جراء هذا التوقيت ” المجحف ” في حق جاليتنا في الغرب، فضل المشرفون برمجة أنشطتهم المعتادة من ندوات ومحاضرات أيام السبت والأحد بعد صلاة العصر.
ومن الندوات المبرمجة خلال رمضان في كل من بلجيكا وفرنسا وسويسرا والتي حضرنا جانبا منها مثلا، والتي تتمحور كلها حول الصيام في رمضان والاستفادة من نفحاته و التزود من محطاته خاصة وهو يصادف عطلة الصيف، نذكر منها: الصوم أقدم شعيرة دينية، الصوم عند الديانات الأخرى، بين رؤية الهلال الفلكية والحساب، الصوم وسيلة وقاية وعلاج، نعمة الطعام وضرورة تنوعه، الصوم معجزة طبية، أصحاب الرخص في رمضان، ” أطب مطعمك”، سلوكنا الغذائي بين الشرع والواقع، الفرق بين الصيام الشرعي والصيام الطبي، أنواع المياه ووظائفها الصحية، وغيرها.
و قد أوصى الأئمة ككل سنة بعد توديع موسم عظيم من مواسم الطاعة والعبادة كرمضان بمثل هذه النشاطات المتنوعة، فإن الله تعالى شرع للمسلمين من النوافل والقربات ما تهنأ به نفوسهم، وتقر به عيونهم، ويزيد في أجورهم ويقربهم من ربهم، كصيام الست من شوال عملا بالتوجيه النبوي: “من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر” برزت منذ 3 سنوات خلت ظاهرة فريدة، بل سنة حميدة، لإبقاء جذوة نفحات رمضان الكريم، وهي برمجة الصيام الجماعي للست من شوال أيضا، خلال أيام نهاية الاسبوع على امتداد الشهر لدى بعض المراكز والمساجد الاوروبية وفق برنامج محدد منوع ومعلن عنه سلفا، فيجتمع على موائد الافطار أناس قادمون من جهات مختلفة لنيل الحسنيين، غذاء البطن وغذاء الروح.. لأن فضل إطعام الطعام أمر غاية في الأجر والثواب وأن الطعام الحلال الطيب أساس قبول الدعاء، لما لا وعبارات الإطعام واردة في 30 أية من آيات القرآن، بل و جعل الله في بعضها خلق الطعام دليلا على ربوبيته وألوهيته كقوله في سورة الانعام، الآية (14) :{ قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ ۗ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ۖ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}، وقول الخليل عليه السلام في سورة الشعراء (الآية 79) { الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ – وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ – وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ – وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ – وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} وذكره أيضا أوصاف أعمال الأبرار الذين استحقوا الجنة في سورة الانسان الآية 9 { وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ على حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} أما في ذكر أوصاف الْمُجْرِمِينَ أهل النار، الذين حبسوا الطعام عن المحتاجين في سورة المدثر الآية 44 :{ عَنِ الْمُجْرِمِينَ – مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ – قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ – وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ- وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ – وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ } ، و قوله في سورة الحاقة الآية 34 {
(24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ ۜ (28)هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40)}.
أما في الأحاديث الشريفة فلفضل الاطعام أجر كبير وخير عميم مؤكد عليه في سيرة المصطفى وأحاديثه{ص}، منها على سبيل المثال، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ (ص)، فَقُلْتُ : ” مَا الإِسْلامُ ؟ قَالَ : إِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَلِينُ الْكَلامِ ..”، وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ ، قَالَ : لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ (ص)الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ ، فَكُنْتُ فِيمَنْ خَرَجَ ، فَلَمَّا نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ، فَكَانَ أَوَّلُ مَا سَمِعْتُهُ ، يَقُولُ : ” أَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَأَفْشُوا السَّلامَ ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ.”، وعَنْ عَمْرِو بْنِ عَبَسَةَ السُّلَمِيِّ، قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ (ص)، فَقُلْتُ : ” مَا الإِسْلامُ ؟ قَالَ إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلامِ.”، وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ(ص): ” لا تَزَالُ الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى الرَّجُلِ مَا دَامَتْ مَائِدَتُهُ مَوْضُوعَةً.”
كل هذه الآيات القرآنية و الأحاديث الشريفة وغيرها كثير ، كانت محفزة لهذه المبادرة الطيبة، “مبادرة إطعام الطعام حتى في شهر شوال بعد شهر من العطاء في رمضان، فهي بحق وحقيقة مبادرة تحتاج للتعميم والترويج حتى في دولنا العربية لما في ذلك من خير عميم، يحرض الناس على الصيام في شوال، فجزى الله من فكر فيها ونظمها، وشكر الله خاصة للأخوة والأخوات المتطوعين الذين أخذوا على عاتقهم إعداد الطعام أو التبرع بأموالهم و أوقاتهم وجهدهم.. آمين.
محمد مصطفى حابس
23 جوان 2015