الجزائر تغيب بعذر أقبح من ذنب
والمغرب تسجل حضورها بوزير ثقافتها
وتونس تستفيد مجانا بأطنان من الكتب بحضور رئيسها الاسبق
يصادف اول ماي من كل سنة افتتاح المعرض الدولي للكتاب بسويسرا، و هو موسم عطلة أسبوع تقريبا في أغلب دول أوروبا، موسم يجعل من المعرض الدولي للكتاب والصحافة حدث ثقافي أوروبي متميز طيلة خمسة أيام، بحيث افتتح أبوابه يوم الأربعاء 29 أفريل إلى غاية يوم الأحد 3 ماي، وهو معرض ضخم إزدان هذه السنة بضيف شرف عملاق متمثل في الدولة الروسية، عملاق تاريخا وحضارة ولغة، كما اشتمل المعرض هذه السنة كعادته على جناح خاص بأقلام القارة السمراء وجناح الثقافة العربية، وعلى هامش المعرض، يتوفر”بنك الكتاب” وهو عبارة عن مخزن تجمع فيه الكتب الجديدة والقديمة لترسل كهبات ومساعدات لبعض الدول الافريقية خاصة، وقد خصص لثالث مرة جناح مجاني هذه السنة، لجمع كتب وأرسالها للشقيقة تونس وهي لفتة جمعوية ومبادرة شعبية تقوم بها الجالية التونسية بعد ثورتها المباركة، رفقة اشقائهم من المغرب العربي وناشرين سويسريين متطوعين يتقدمهم الناشر الكبير “مكتبة بايو”.
والمعرض الدولي للكتاب والصحافة بجنيف أصبح بعد ثلاثة عقود تقليدا سنويا يزوره أكثر من مائة ألف زائر، ويتربع على مساحة 32 ألف متر مربع، أي مساحة أربعة ملاعب كبيرة، كما تعرض فيه أزيد من 800 دار نشر كتبها، وما يربو عن عدد مماثل من الكتاب والمترجمين ينشطون ورش ومحاضرات وطاولات مستديرة تفوق ألفي تظاهرة بلغات شتى. كما تزور المعرض وفود من الطلبة والتلاميذ من داخل سويسرا وخارجها، لاقتناء الكتب والتدرب على الكتابة والرسم في أجنحة مخصصة، كما تنقل التظاهرة بالصورة والصوت عشرات المحطات التلفازية ووسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة، بغض النظر عن البث الحي هذه السنوات حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
ولئن كان المعرض الدولي للكتاب الذي تحتضنه كل سنة جنيف، العاصمة الدولية لحقوق الانسان، منذ 29 سنة خلت، قد أثبت وجوده بجدارة كحدث ثقافي متميز على المستوى السويسري، فإن دورته الجديدة التي فتحت أبوابها صباح يوم الاربعاء، جلبت جمهورا غفيرا من مختلف دول العالم نظرا لدعوته هذه السنة لروسيا “بلاد الدب الأبيض” كضيف شرف، ليس لأن روسيا دولة عظمى عسكريا واقتصاديا وجغرافيا فحسب، بل أيضا بأبعادها الفنية والتاريخية والحضارية التي يعتبر الجمهور الأوروبي من أكبر المعجبين بها.
وافتتح المعرض الدولي رسميا، كالعادة، وزير الثقافة الفدرالي، ألان بيرسي، ووفد هام من علماء وكتاب سويسريين تتقدمهم السيدة إزابال فالكوني، الرئيسة الجديدة للمعرض، ورئيس بلدية جنيف سامي كنعان اللبناني الأصل، رفقة وفد من شخصيات عالم القرطاس والقلم، والضيف الشرفي لهذه السنة، وعدد كبير من الدول الضيفة المشاركة وحضور بعض سفراء العالم المعتمدين لدى الأمم المتحدة بجنيف الذي يربو عددهم عن 190 سفيرا ومكلفا بالأعمال. دون أن ننسى التغطية الإعلامية الدولية من بعض دول الربيع العربي لأول مرة، وحضور جمعيات إنسانية وحقوقية للتعريف بقضايا خروقات حقوق الإنسان طولا عرضا، من فلسطين إلى الصحراء الغربية، مرورا بسوريا واليمن وحتى دول المشرق التي ترنو إلى ربيعها الذي لم يزهر لحد الان إلا أشواكا ودموعا، ليس فقط بتكميم الافواه ومصادرة الحريات، بل بمحاكمات وصفتها بعض المنظمات الدولية بـ”الهزلية” كما يجري الآن في مصر التي يحاكم فيها الانقلابيون العسكريون رئيسا منتخبا ورموز حركة إسلامية سلمية بمحاكمات انتقامية لا مسوغ لها لا شرعا ولا عقلا.
وبالتالي تعذر حضور بعض دول “الربيع العربي” لأعذار مقبولة أو مفهومة نوعا ما، أما غياب الجزائر، فعذر أقبح من ذنب. فبالنسبة للعام الماضي قال ممثل وزارة الثقافة الجزائرية، “اننا جمعنا مجموعة دور نشر جزائرية في جناح واحد، لغلاء إيجار مكان العرض”؟، طبعا كانت كل معروضاتهم يومها بالفرنسية، وهي في عمومها عبارة عن كتيبات طبخ وإشهار سياسي وروايات يسارية كتبها مستلبون ثقافيا وتراثيا، ما عدا بعض العناوين الثقافية التي تعد على أصبع اليد الواحدة، ككتب المرحوم تركي رابح. أما هذه السنة فقيد قيل لنا أن الجزائر لم تحضر للمعرض لأنها “تعيش عرسا ثقافيا في كل ولايات الوطن، بمناسبة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية”؟ أي تفكير وأي تدبير هذا؟ لماذا لا يصدر هذا العرس الثقافي لجاليتنا في الخارج وبمناسبة غاية في الأهمية كمناسبة معرض الكتاب الدولي؟ إنها فعلا سياسة الإفلاس الثقافي التي تنخر جسم الجزائر منذ عقود، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فلما لا نول وجهنا شطر حدودنا الغربية لنتعلم من جيراننا، ومهما قلنا عن سياسة المغرب الشقيق الثقافية عموما، فهو لا يفوت مثل هذه الفرص الاستراتيجية الثمينة، وها هي فعلا تشارك وزارة ثقافتها بحضور الوزير، بتعاون مع المكتب المغربي لإنعاش الصادرات (مغرب تصدير)، وتأتي هذه المشاركة – كما صرح لنا سيادته – “في إطار استراتيجية الوزارة لدعم القطاع الثقافي حيث تضع الوزارة رهن إشارة الناشرين المغاربة رواقا مساحته 22 متر مربع سنويا، فضلا عن تكفلها بقسم من تكاليف سفرهم وتكاليف شحن الكتب، ويتعلق الأمر بمؤسسات “مرسم”، و”ملتقى الطرق”، و”ينبع الكتاب”، وغيرها”.
أما دولة الكويت التي غابت منذ سنوات عن المعرض الدولي للكتاب، إذ كانت تكتفي بمعرض ألمانيا الدولي كما أخبرنا زميلنا الدكتور يوسف العلي رئيس تحرير مجلة “الوعي الاسلامي”، لكن عادت هذه السنة بقوة و تنوع طيب أبهر الزوار العرب والمسلمين، بحيث خصصت وزارة الأوقاف، جناحا متنوعا، بل قل أينعت من كل بستان بزهرة، ومن شتى باقات العلوم الدينية والدنيوية، وكانت بصمات “مجلة الوعي الإسلامي” ووزارة الاوقاف والشؤون الاسلامية بارزة ومنشوراتها المطبوعة والمسموعة والمرئية غذاء مجانيا لكل الزوار، أطفالا ونساء شيبا وشبابا، كل وجد ضالته، مثل ما كانت عليه منذ سنوات شقيقتها الجمعية الاسلامية العالمية الليبية التي افتقدها الزوار العرب للمعرض منذ سنوات الأزمة الأمنية الليبية، ندعو الله أن يفرج عن ليبيا وشعب ليبيا.
أما جناح السعودية فأمره عجيب، فهو يصغر ويتقلص ويبهت نوره من سنة لأخرى، بحيث توزع السعودية كعادتها مجانا كل سنة المصحف الشريف بلغات شتى وهي تشكر عليه إلا أنه ككل سنة تقع في نفس المشكلة لا تحضر العدد الكافي وتضطر لتوزيعه “بالقطارة” كما يقول جل الزوار، أما باقي الكتب العلمية والدينية المهمة والنادرة فممثلو المملكة يحرمون الباحث منها بعذر أوهن من بيت العنكبوت، مفاده قول ممثل السفارة” لم نحضر إلا نسخة أو نسختين للعرض فقط”، فقاطعه أحد الأساتذة الزوار بقوله “هذا الرد ببساطة ضحك على الأذقان بامتياز، بحيث يكون مقبولا ومستساغا من ناشر صغير أو عارض محلي عابر، أو جمعية خيرية ما، أما من دولة كالسعودية، بمؤسسات وبحجم المملكة فهذا لا يقبل مطلقا، وعذركم مردود”.
عموما المشاركة العربية في المعرض تلخصت في حضور بعض الأقلام اليسارية والكتاب العرب الذين يعيشون في المهجر أساسا من أمثال عبد اللطيف اللعبي ومالك شبال وكوليت فلوس وإلياس خوري وفاروق مردم باي مدير سلسلة سندباد في دار “أكت سود”، ورانيا سمارة وصلاح ستيتية وكبير مصطفى عمي وسيريل حاجي توما. وكان صنع الله إبراهيم وإلياس خوري وصلاح ستيتية من بين الكتاب الذين لفتوا الأنظار بمشاركتهم في ندوات عامة، حيث تحدث صنع الله وخوري عن تجربتيهما الروائية، بينما تحدّث ستيتية عن مذكراته “غرائب” بحضور مترجمه الإيطالي جيوفاني دوتولي.
ولأن المعرض الدولي للكتاب فرصة سانحة، تزخر بالعطل تستفيد منها الجالية المسلمة في دول أوروبا من منتصف أبريل إلى بداية ماي، استنفرت المساجد والجمعيات الاسلامية – في هذه الأيام – للزيارة التثقيفية لأبناء الجالية في رحلات جماعية خاصة، لا يردهم لا برد ولا حر ولا مطر، طلبا للعلم وشوقا للتزود وحبا في رجال العلم ونسائه. من هذه الخرجات نظمت ” الجالية التونسية” والعربية جناحا، عرضت فيه منشورات ثقافية وسياسية بمناسبة الربيع العربي والإسلام في الغرب، وخصصت خيمة لبيع وتناول المشروبات والمرطبات الشرقية، كما خصص ركن للخط العربي للأطفال يشرف عليه خطاطون مختصون أحضروا خصيصا من تونس، ومن أبرز ضيوف الجناح هذه السنة الرئيس التونسي الأسبق، الدكتور المنصف المرزوقي الذي قدم لبعض كتبه ووقع بعضها الآخر، كما نشط ندوة تكلم فيها عن مشاريعه السياسة في تونس، خاصة منها تأسيس حزب جديد؟ الأمر الذي لم يشاركه فيه الرأي مجموعة كبيرة من التوانسة الحاضرين.
وعلى هامش المعرض، نظمت العديد من الندوات والمحاضرات بلغات شتى، يصدق تشبيهها إيجابيا بسوق عكاظ أوروبي، لم يحضرها بقوة كما هو مطلوب اللسان العربي والهم العربي والإسلامي عموما.. فممثلو دول عالمنا العربي ينسون أننا “أمة إقرأ” ويسعون لطمس ذلك بأعذار أوهن من بيت العنكبوت كما أشرنا لذلك سلفا، لكن يحز في أنفس الزوار العرب في المهجر، أن الكلمة – كما يصفها المرحوم المفكر السوري عبد اللطيف الصوفي مؤسس علم المكتبات العربي، والأستاذ الأسبق في علم المكتبات والمعلومات في الجامعات الجزائرية ، أن ” الكلمة، قوة عظمة في كل عصر ومصر، في كل زمان ومكان، فيها يتجلى الخلق والإبداع، و بها يمكن إحقاق الحق، او دعم الباطل، إنقاذ الناس او قتلهم، حشد الجيوش وإعلان الحروب.. إن الكلمة هي القوة الأكثر قدرة على تغيير العقول وتحريك البشر في الاتجاه الذي تريد، فالكلمة ليست وسيلة اتصال فقط، بل أداة هامة للإقناع، إذ بإمكانها أن تصنع القوة، وأن تجعل العالم أفضل”.. هذا العالم الأفضل لن يكون إلا بالكلمة الطيبة التي تسعى إليها مثل هذه المعارض لتلقينها للأجيال البريئة.. فمتى يصحو الضمير الإنساني ويفهم ذلك حكام عالمنا المعاصر نبل قيمة ذلك الزاد، قيمة “الكلمة الطيبة”..
والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
محمد مصطفى حابس
9 ماي 2015