عندما أيقن الجنرال “ديغول” أول رئيس لفرنسا المستقلة بأن الجزائر تتجه نحو الانتصار الحتمي، قال مقولته الشهيرة: “سنترك فيكم من يحاربكم أربعين عاما من بعدنا” مراهنا على التيار الفرنكفوني الذي بدأ الإعداد له قبل الاستقلال.
ففرنسا ليست على استعداد للتفريط في مستعمرتها القديمة التي بذلت من أجلها الغالي والنفيس وفرطت في كل من المغرب وتونس لتركز عليها وتبقيها داخل حظيرتها.
وليقينه بأن أفضل وسيلة للسيطرة على شعب ما هو تجريده من هويته الثقافية وإحلال ثقافته ولغته محل ثقافة ولغة البلد المحتل، لم يأل جهدا في أن يتبوأ الرعاع مقاليد السلطة في الجزائر كجزء من سياسته الرامية الى استمرار هيمنة فرنسا على الجزائر.
وعلى هذا الأساس سعى “ديغول” إلى إعداد زمرة من الفسدة وشذاذ الآفاق عهد إليهم بمهمة العمل على أن تبقى الفرنسية اللغة السائدة في الجزائر.
وهو الاتفاق الذي تم على أساسه إعداد ما سمى بـ”حلف وجدة” الذى يضم الفارين من المشاركة في حرب التحرير الوطني والذين لجأوا الى مدينة “وجدة” المغربية واستقروا بها الى حين رحيل الجيش الفرنسي عن البلاد.
ولهذا، طلب “ديغول” من الملك الحسن الثاني تسهيل خروج أعضاء الحلف المذكور من المغرب وأمرهم بالتوجه لتونس حيث اتفق مع الرئيس “بورقيبة” أن يوفر لهم مقرا حدوديا بمدينة “غارديماو” يكون مقر قاعدة عسكرية لهم تمكنهم من التمهيد للاستيلاء على الحكم فيما بعد لتنفيذ الاتفاق مع فرنسا وبنود الخيانة والالتفاف على الثورة تحت مسمى بناء الجيش الوطني الشعبي.
فشرعوا في تصفية العناصر الوطنية المخلصة التي تعوق مخططات فرنسا وتمكين الخونة من تبوأ المناصب العليا الذين أدوا مهمة القضاء على كل الرموز الوطنية.
كان من الطبيعي والحال هذه أن تسود اللغة الفرنسية الساحة الثقافية الجزائرية على حساب اللغة الوطنية للبلاد التي بها تمكن المخلصين من تحرير البلاد وإعادتها إلى أهلها وإلى أمتها ودينها.
لم يكن من السهل على ما تبقى من مخلصين في دواليب الدولة الدفاع عن اللغة العربية وسط هذا الجو المتسم بالعداء لكل ما هو عربي وإسلامي من طرف أولئك الذين تربوا في دور المخابرات الفرنسية وأحضان الكنيسة من القادة والعساكر الموالين لفرنسا والذين قضوا نحبهم باغتيالهم من قبل قوى الغدر والخيانة والإلحاد المهيمنة على السلطة.
وهو ما يفسر أيضا لماذا الجهود الرامية إلى اعتماد اللغة الإنجليزية كلغة ثانية محل الفرنسية تبوء بالفشل في كل مرة يليه إنهاء مهام هذا الوزير أو ذاك صاحب المبادرة التي لم ترق لضباط فرنسا بمن فيهم “بومدين” العميل الأكبر نفسه رغم تظاهره بالدفاع عن العربية بالخطابة بها في حين كان أولى به حماية من يسعى إلى الدفاع عن العربية من بطش زبانيته الذين فرضهم في السلطة على حساب أرواح الشرفاء والمخلصين من هذه الأمة.
ولأهمية اللغة كسلاح سياسي فاعل، فقد أمدت فرنسا عملائها بمختلف السياسات وتجاوزت عن سقطاتهم وتسترت عن جرائمهم ودعمتهم بمناسبة ومن غير مناسبة خاصة أثناء المجازر التي ارتكبوها في العشرية الدموية والتي عملت فرنسا على لصقها بالإرهابيين مع أنها تعلم علم اليقين بأن ما حصل في الجزائر في تلك الفترة وفى غيرها من الفترات من صنع عملائها ومن تدبيرهم.
ففرنسا لا تهمها حقول النفط ولا غيرها من الثروات بقدر ما يؤرقها أن تفقد الفرنسية مهابتها وهيمنتها على المسرح الثقافي في الجزائر. فالنفط يمكن أن تحصل عليه في دول أخرى، ثم أن اللغة هي التي تضمن لها تلك الثروات، ومن هنا تكون قد اصطادت عصفورين بحجر واحد.
ولما كانت اللغة الفرنسية هي بمثابة الأخطبوط الملتف حول أعناق الدول، بادرت جمهورية “رواندا” في أفريقيا إلى قطع هذا الحبل السري كخطوة عملية للفطام عن فرنسا لأنها لم تعد ترى جدوى من الارتباط بها بعد تأكد قادة هذا البلد بأن ما حصل فيها من مجازر راح ضحيتها الملايين من مواطنيها هو من تدبير فرنسا وبمباركتها وبمساعدتها كذلك. وستتبعها دول أخرى حينما تتأكد بأنها كانت هي الأخرى ضحية دولة “الحرية-المساواة-الأخوة”.
ولو عدنا إلى مسار الثورة الجزائرية نفسها، لوجدنا أن أهم اسباب الانتصار هو اعتبار الثوار الإسلام واللغة العربية كالمحرك الأساسي لكل عمل سياسي أو عسكري من شأنه خدمة مصلحة الثورة وتوجهاتها.
محمود حمانة
1 سبتمبر 2014
https://www.facebook.com/photo.php?fbid=10152302516166109&set=a.10150228655421109.315469.662311108&type=1 https://www.facebook.com/video.php?v=10152339093891658