إنّ وحدة الأمّة ـ عِبادا وبلادا ـ لا تتنافى مع كثرة الأطر السياسية التي تتنافس في خدمتها.
فأين كلام بعض الأوروبيين عن “التعددية داخل الوحدة” من القرآن المجيد وهو يحَدثنا عن الصراط المستقيم ـ بالمفرد ـ وعن سبل السلام ـ بالجمع؟
وهذا ما لا يريد التسليم به حُماة مُلك سخيّ مع قلم أو ميكروفون المَلق.
ذلك المُلك لا خير فيه، وهو يصرّ على وحدة ”زريـبَة” ـ نعاجها تغبط أغناما سائمة ـ أو هو يمسّك بانسجام “معْطنٍ” إبِلـُه تحسد نوقاً شاردة جائعة، من العصا سالمة!
ألا ترى أنّ خدَمه يحرّمون الخروج السلميّ على الحاكم إلا ما كان من حمْل الملك عبد العزيز السلاح لقلب سلطة الرّياض انطلاقا من فجر القرن العشرين؟
فمن يصدّق أنّهم في ذلك أشبه بأصحاب النسيء الذين ينظرون إليه كل عام بعَين مختلفة؟
ثم كيف يطاع شبه وليّ الأمر وهو يتلقى التعليمات الاستراتجية من سيّده الغربيّ الكافر؟
إيه! وليّ عالميّ علَى نائب وليّ محليّ، تحته والٍ يقمع، دونه كفيل يصفع: ظلمات بعضها فوق بعض! فهل إلى خروج من هذا الاستعباد المتعدّد من سبيل؟
لا شك أنّ تبعية الأمّة التمدنيّة الحالية قد فرضت على خارطتها الفكرية تعدديّة فيها من السّبل ما كان سلاما، ومنها ما كان ضلالها يوَرّث عذاباً غراما!
لم تضِق يوماً شمس الإسلام بشمعة تضيء حولها ضحى أو روَاحا، وهي تكاد تنطفئ ولو لم تقربها ريح!
”طلع الصباح فأطفئ القنديلَ”!
وتفكَّروا في بعض جوانب حكمة إذْنِ الإسلام للنصرانية واليهودية بالتعايش في أمّته.
فهي أكثر من سماحة دين!
إنها الرحمة بأهلهما كي يلتحقا ـ في الميدان ـ بسراجه المضيء الذي يجذب إليه من شاء الله تعالى أن يُلقي ما في يده من أوْهام زيّنها ضالّ أو شيطان!
لأجل ذلك، فليطمئن أهل المشروع الطيّب ـ محبّين وحمَلة ـ وهم يشاهدون في سوق المناهج البشريّة ما يسيء إلى الحقّ المبين.
فقد اتّحد على أصحابها خبث شجرتهم المستوردة مع غربتها في التربة الزكية التي لا تعبأ بها ولا تخشاها!
و لا تسأل عن أصحاب الأعشاب الطفيلية المهرّبة…
و اقرأ إن شئتَ، مع سيّد قطب، قوله تعالى: “و لِتستبينَ سبيل المجْرمين”.
لم يبالغ كثيرا من قال إنّنا ـ بالحياة ـ نُميت غدا الأحزاب اللائكية ـ سواء الشيوعي البائد منها وَ الليبرالي السائد!
تعطىَ الحياة كي تتضاءل وتندثر ـ كما قال انجلز عن الدولة ـ فتنتحر حينئذ أو تطلب الموت الرّحيم، إلا أن تلتحق مختارة بخط الأمّة الحضاري!
لئن نجحت قوى المعارضة بمشرق أو بمغرب في الاتفاق على مواجهة أخطاء وخطايا السلطة الحاكمة، فإنها أحيانا تتذكر فجأة خلافاتها بعد نجاح عملية التغيير الأوّلي.
ذلك أنّ وقف العوج المؤسساتي يؤجج الانكفاء على الذات فتكون القافلة وقتئذ واحدة بينما تبقى عين كل طرف على “بعيره”.
إنه التدافع الفطري بين الناس ـ عبر الانتخابات ـ كي يُمنع شرّ ويُوسع خير، فمنهم من يكسب رضا الجماهير ومنهم من ينتظر.
في بلاد الاستقرار والرخاء، يحكم الفريق الفائز باستئثار، ويعارض الجمع الخاسر باقتدار.
و هذا ما يسمّيه الأمريكان “نظام الغنائم” الذي حاول الرئيس الفرنسي السابق الابتعاد المفاجئ عنه عبر عملية انفتاح راح يرشي بها، عام 2007، أسماء من الصف الاشتراكي المنهزم.
أما في الدول المتعـْبة بالأزمات أو التشرذم الانتخابي، فإنّ ذكاء طبقتها السياسية يقودها إلى الائتلاف الحكومي.
واشهدي بذلك يا إيطاليا وأنتِ تـُقدِمين متأزمة، قبل نحو أربعين سنة، على “التوافق التاريخي” بين الشيوعيين والحزب الديمقراطي المسيحي.
فما أجمل “تأليف قلوب سياسيّا” تجود به أغلبية انتخابية مسْلمة في غير مسخ سياسيّ ـ لا سيما في مرحلة النقاهة المؤسّساتية!
سمِّه أريحية مسلمين! احسبْه تواضعا لله ربّ العالمين! سجِّلْه عربون تجديد التآخي بين أشقاء جمعهم الوطن بعد الدّين!
إنّ هذا لهُوَ بعض ما كان ينقص الشيوعيين ـ أو اليساريين، كما يتنادون اليوم خجَلا ـ أيّام الدّلال السلطوي وهم يضخّمون رموزهم الغريبَة في ربا أخلاقي مقيت.
و انظر إليهم مثلا كيف منحوا فرانتز فانون الثانوية والمستشفى والجادّة المتباعدة الرصيفيْن!
صاحب “المعذبون في الأرض” ـ الذي تُوفي في… أمريكا ـ يُوهب شارعا كبيرا في أعالي العاصمة ومليون ونصف مليون شهيد يُعطوْن ـ مَعا ـ شارع الشهداء الضيّق!
فكم من سنتمتر مربّع لكل واحد منهم؟ بل كم من عُشر أو رُبع؟
في عامنا هذا، في شهرنا الفضيل هذا، ومصر تلملم جراحها وتونس المخضرّة تساق إلى صحراء مجتمعية رمالها مكفهرة، لم يعد الهمّ الأكبر متى يصل الكتاب العزيز إلى السلطة بقدر ما انشغلت القلوب بصباح التمكين الرباني!
أيكون “الإخوة” وقتها في مستوى عظمة خير مشروع ـ رحمة قلب وسخاء نفس؟
أم إنـّهم يقولون: دوننا فرصة التاريخ التي قد لا تعود قريبا!
إنّ أولى الناس بطمأنة ضعيفٍ سياسيّ أو منكسر انتخابيّ لـَلذين أذاقتهم أحداث الأيام والليالي حرمانَ الصورة والصوت والتهديدَ بالموت!
ومَن غيركم يا تلاميذ باديس، للأقليّات الفكرية المسالمة، يسمع لها ويبلغها مأمنها؟
فالجزائر ليست لأحد أولادها دون أحد!
ولا جزائريين فوق العادة إلا الشهداء الأعزاء ـ كما صدع بذلك بعضنا جوّاً في ربيع 1999!
لقد فاضت بركات العوْدة لله تعالى في أوساط الأمّة حتى تجاوزت “الصحوة” ـ بتديّنها الخام المفرح ـ إطار “الحركة” ـ ببعدها التنظيمي أو بسَمْتها الالتزامي.
و هي ملايين على ملايين لا تصبّ اليوم أو غدا إلا في حساب المشروع المرجوّ!
كأنّ الشعب يصوّت كل يوم بالجباه الساجدة!
و هذا ما زاد الغافلين يأساً من عملية الاقتراع!
وكل ذلك لمَّا بداية الطريق أو منتصفه!
لا جرَم أن البرامج المستمدة من الإسلام حظوظها اليوم في التصويت أكبر.
ولكن الأغلبيّة الانتخابية لا تكفي لسلاسة حُكم ناجع نافع، ما لم يتوَّج أهلها بأكثريّة مجتمعية ـ ناهِيكَ بـِالغالبيّة التي لا تصل إلى 50 في المائة.
الأكثرية المجتمعية التي تتجاوز التكافؤ في المواطنة إلى المساواة في المؤاممة، حيث يتقدّم العباد على البلاد ـ وفي كلٍّ خير.
الأكثرية المجتمعية التي لا تشعر معها منطقة من المناطق ـ ظلما ـ أنها أقلّ إسلاما أو أعرقُ أصلا!
الأكثرية المجتمعية التي لا تُضِيع الأغلبية معها وقتها في التموقع أو مواجهة خصوم ما أسهلَ تحييد الكثير منهم بالصدق أو كسْبهم بالودّ!
الأكثرية المجتمعية التي يخضع معها الإنسان للنصوص الرسميّة راضياً عابدا أكثر منه مواطنا مضطرّا.
الأكثرية المجتمعية التي لا يُظلم فيها صاحب مجد نوفمبريّ ظلّ طاهرا، ولا يُستعدى فيها “الآخـَر” ما لم يحارب منهاجَ “الأوّل والآخِر”!
الأكثرية المجتمعية التي لا تعطـَّل معها كفاءات ـ أخلاقا واقتدارا ـ إذ يكون وقتها الأداءُ مقدّما على الولاء.
فـ”الإسلامي” لا معنى له ما لم يكن في خدمة الإسلام والأنام!
الأكثرية المجتمعية التي يظنّ فيها مُدمن الخمر أو الحشيش أنّ علاجه يبدأ لدى الطبيب وينتهي عند بئر زمزم كي ينعكس الإيلاف! فالإسلام الحكيم الرحيم لا تُمضَى أحكامه ـ بشروطها ـ وسط نفايات الأوضاع الجاهلية التي يتطلب تطهيرها سنوات وسنوات.
الأكثرية المجتمعية التي بها تنتظر المرأة المسكينة المكرهة على المعصية القرار الشهم الذي ينقذها ـ تشغيلا أو تزويجا ـ من مسؤول تصابى ومن شيخ ثريّ بالحرام لا يملّ من تلك الأحياء الجامعية ذهاباً وإيابا!
إنّ أهل الإسلام كاملا قد تأقلموا في الجزائر على التعايش المتميّز مع غيرهم من المجموعات التي جعلت القرآن المجيد عِضِين، وهي، يا أسفي، تبعده جزئيّا أو كليّا عن الحياة العموميّة.
لقد كانت سانت ايجيديو، 1995، دليلا على ابتعاد “الإخوة” عن روح الاستئثار والإقصاء.
و يشهد كثير من كبار ساسة المعارضة ـ من اللائكي/العلماني إلى الوطنيّ ـ أنّ دعاة الإسلام منهاجَ حياة قد بسطوا إليهم أيديهم بإخلاص بين 2009 و 2010 كي يتعاونوا جميعا، قبل ظهور البوعزيزي، على وقف النيران والعمل على استجلاب التغيير الكليّ السلميّ في آن!
لم يفعل “الإسلاميون” ذلك بحثا عن تحالف انتخابي أو استئناسا وسط تصحّر دعويّ.
فقد جاءت المبادرة ـ الجماعية ـ مباشرة بعد مسيرة غزّة المليونية التي حيّرت الكبراء وهي تملأ بقضّها وقضيضها شوارع العاصمة!
لكن كم من مرّة صاح أحدنا قائلا إنَّ الوَقف منعدم في الانتخابات.
فمن يصوّت اليوم معك قد ينقلب عليك غدا، ذلك أنّ عموم الناخبين ليسوا عبيدا لدى التيارات ولا أسْرى.
واليمين واليسار في بلاد الافرنج يدركان ذلك، فلا ينامان على مكتسباتهما في مختلف محطات الاقتراع المتتالية.
ومن أراد غدا منازلة سياسية في الجزائر فعليه بعدم الاكتفاء بأربعة أو خمسة ملايين ناخب وعددهم الإجمالي يدور حول العشرين!
أمّا أنتِ يا مصر، فإنّكِ تئنّين تحت عتوّ قائد الانقلابيّين وبطش وزير داخليّته “الجزار” بعد أن عيّنهما الرئيس المظلوم.
غدرة وراء غدرة!
وتلك نتيجة وضْع الندى في غير موضعه!
لكن القواعد الإخوانية فوق ذلك بصمودها الذي قلّ نظيره وهي صائمة تحت شمس القاهرة المقهورة!
فإلى متى والقيادة الثابتة تكلّف الأتباع فوق همّها؟
ألم يكن أمضى زمانا وأجدى سياسة أن تتغيّر استراتجية الحشد المركّز المستمر إلى مليونية مصريّة كل يومين أو ثلاثة، فتستريح الجماهير المرهقة وتتجدد فيها الطاقة “ليقضي الله أمرا كان مفعولا”…
أحمد بن محمد
30 جويلية 2013
المصدر: يومية الشروق الجزائرية