لم تـُظلم “حركة إسلامية” معاصرة كما ظـُلمت جماعة الإخوان. فلقد بخسها حقها مُبغض مدنِـّس، مثلما غالى بحقـّها محبّ مقدِّس. والحق أنـّها جهد بشريّ مستطاب غير معصوم، التقى فيه التوفيق الربّاني مع الخطإ البشري.
لئن بدا المقصد من هذه الكلمات القليلة بعيدا عن تشريح تجربة بالزخم الحركي الذي تميّز به ذلك المنهج في الاستنهاض الرّسالي، فالعزم معقود هنا على مجرّد محاولة تبيان المحصّـلة شبه النهائية لعمل معطاء يذكـّر الناس أحيانا بما قام به، في ظروف جزائرية أشد صعوبة، رجال يسمّون ابن باديس، الإبراهيمي، التبسي…
ولن يستقيم مثل ذلك “التقييم” الأخويّ إلا بالتركيز الكليّ على ما قبل ثورات “الربيع البارد”، قبل التعاطي الاستراتيجي مع صُبحها الذي يسعى أعداؤها لتحويله فجرا كاذبا!
إنه تقويم مرحلة “الاستمكان” الطويلة الشاقة عهوده ـ كتلة واحدة ـ ثم إنه النظر ـ بشمولية ـ إلى “التمكين” البرلماني والرئاسي الوليد!
فهما صورتا “سكانر” سريعتا القراءة والاستنتاج نقترح استخراجهما، بعيدا عن تلك الفحوص البيولوجية و”الإكلينيكية” التي يتكفل بها أهل الحرقة في مراجعات تارة وفي انتقادات بنـّاءة تارة أخرى.
لقد ظل أبناء الشهيد حسن البنـّا في مكابدة الصعوبات التي جعلتها أمراض الحُكم الجاهلي حينا، ومصادمة السنن حينا آخر، مِحنا شديدةً دفع فيها الرجال التألم والدّم والمُهج.
ولكنها فاتورة بقيت، إلى 2011، دون استلام المقابل الرّسالي في الحياة الدنيا.
وقد راوغ الإخوان أنفسهم طويلا وهم يستنجدون بموقف ِشبه إرجائي لتبرير غياب التوفيق الربّاني في الوصول إلى الحكم.
ولم يكن سهلا عليهم من الناحية الوجدانية والمنهجية أن يقولوا لأنفسهم: ما بال القطار لا يصل إلى المحطة لو أنه سلك إحدى سـُبل التمكين؟
واستمرّت المعاناة المصاحبة لطول الطريق ـ الموحش أحيانا كثيرة ـ حتى جاءهم الله تعالى بانبلاج الفجر، بعد أن ظهر على رؤوس الأشهاد ـ والدنيا كلها تتفرج في ذهول ـ شابّ تونسيّ أشفق الناس على روحه فراح الكثير منهم يستغفرون له وقد تسبّب موته في تهاوي عروش مكينة وزلزلة حصون ركينة!
إن الإخوان لم يكونوا بعيدين عن التمهيد لربيع ثورات الشعوب، ولكنهم فوجئوا ـ مع غيرهم ـ بالغضب الجماهيري العارم الذي أتى بشكل شبه كليّ على بطء وصعوبة سلسلتهم التربوية المتعثرة التي لا تكاد تنتهي: “الفرد فالأسرة فالمجتمع فالدولة”!
ذلك أن أثار غضبة ابن بلدة سيدي بوزيد التونسية حققت النتيجة الكبيرة من الآخِـر، في اختزال تاريخي شديد لم يعترف به الإخوان، في ما يبدو، إلى يوم الناس هذا!
لقد ظلت التجربة الإخوانية أكثر من ثمانين.. عاما في مدّ وجزر حتى جاء الفيسبوك، خلال أقل من ثمانين.. يوما، من تونس إلى مصر، مُسخّـَراً للتغيير الجذري المفاجئ الذي فجّر لغمَه الأوّل بائع خُضر مغاربي عزيز نفس، تسبّب في تحرير جزء كبير من أمّته وهو يقتل نفسه الغالية!
وإنْ لم يصبح الفتى التونسي متأستذا على تجارب الإخوان وغيرهم، فلا أقل من أنّ قبره ـ المأسوف عليه ـ قد أدخل خـَـلقاً كثيرا ـ وعلى رأسهم إخوة الأستاذ الصامد الهضيبي ـ في مدرسة تـُذكـّر الناسَ أن الباطل لا يُجتثّ أساسا من القاعدة، مثلما أن الحافلة لا يُـدار اتجاهها من خلال العجلات الخلفية!
ولم يخطئ الهدهد الجميل وهو يقول: »إني وجدتُ امرأة تملِكهم…«، بدل قوله مثلا: “إني وجدتُ قوما تملكهم امرأة”…
فالمِقـْود قبل المَقــُود!
بل النخبويّة التي تـُميّز الإخوان هي التي أسهمت في نسيانهم حجم الزلزال السلمي التاريخي في ميدان تحرير القاهرة، وقد ظهروا فيه ابتداء ـ مقطورين مع غيرهم ـ لا يدرون من مآلات مسير التغيير الكبير شيئا يُذكر!
لقد استغرب الناس وهم يسمعون أن أصحاب عمر التلمساني راحوا يتوارون خلف جدران المباني الرسمية بحثا عن اعتراف بالتنظيم، بينما كان التاريخ يَكتب نهاية عهد مظلم طويل وبداية عصر مرجوّ جميل!
أمّا في الجزائر، فمنذ 1994، اقترن عمل الإخوان الرسميين بمناوَلة سياسية في حواشي نظام حُكم لا يملكون الإسهام في تحديد أسسه ولا في وضع سياسته العامة.
وهي مرتبة لا تليق بسابقتهم ولا بماضيهم الدعوي العامر.
وقالوا “مشاركة”!
فأيّ مشاركة بـِوُزيْـرات تقنية ألقيَ إليهم بها، إلا أن تكون دنيا حلوة خضرة رنـَت إليها العيون ثم ألِـفتها البطون؟
ولو أنـّهم في البدء قالوا “إنـّما قـُيّدت أيدينا” لكان خيراً لهم.
أمّا عن عهد التمكين الإخواني انتخابيا، فليس فيه ـ الآن ـ ما يشير إلى تحسّن الأداء السياسي عما كانت عليه الأحوال أيام الاستضعاف العصيبة.
ممّا طول عقود الحرمان السياسي، وجد الإخوان أنفسهم ـ مع إخوتهم السلفيّين ـ حيارى، مثلما حصل في الجزائر عام 1991، أمام حجم التأييد الشعبي المعبر عنه في الصندوق!
لقد كان الفوزان البرلماني والرئاسي في مصر أو في تونس أكبر من القدرة على تسييره!
فالعروس، كما يقول الإفرنج، كانت مبالغة في حُسنها.
ومن هنا بدأ الارتباك الذي تماهَى أحيانا مع التخبّط!
لست أدري كم كان عدد الذين لاحظوا رئيس جلسة مجلس الشعب الأولى وهو يردّد مختالا أبيات شعر من قصيدة هاشم الرفاعي المعروفة بدل تلاوة سورة الناس الموحِـية، كما يقول سيّد، بآداب التمكين المرصّعة بالتواضع!
وهكذا طفق الإخوان ينتقلون من خطإ إلى سوء تقدير حتى كاد الأحباب أنفسهم ينسون النقاط الإيجابية الكثيرة التي كانوا يسجّـلونها.
فلقد تعدّدت هنـّـات الطيبين بين الدستور وطبيعة الدولة والجوعة المؤسّساتية والحرية والعدل والمعارضة وتل أبيب وأمريكا…
لم يجد الناس في خطاب الحكم الإخواني الحالي ريح دولة الإسلام.
أفخجَلٌ هو أم تدرّج؟
ولو أنهم سكتوا عنها في صورة “دولة القواعد” الشرعية إلى حين التحضير لها عبر “دولة المقاصد” الأصولية ـ مثلما فعل المتديّـنون الأتراك الناجحون دنيويا ـ لكان نصف خير.
ولو أنهم قالوا إنما نبدأ بـ”دولة الحق” تمهيدا لـ”دولة الحق المبين” ـ برضا الشعب ـ لكان ثلاثة أرباع خير.
ولكنهم وقعوا في حيلة “الدولة المدنية” الغـَريــبَة.
لقد ألِف الناس إطلاق لفظ “مدنيّ” على جزء من المجتمع ـ في معنى أهليّ اجتماعيّ مقابل للسياسة. فأيّ دولة تبقى واقفة على رجليها وهي “مدنيّة” تتنافر مع السياسة؟
ثم إنّ مفهوم “مدنيّ” يُطلـَق في الغرب على حـُكم المدنيين مقابل الحكم العسكري المتميز بتدخل الدبابة في السياسة.
إنـّنا نعيذه ضعفا من الإخوان حقيقيا أن يكونوا في ذلك مؤْثـرين أولوية الجماعة ـ أفرادا ـ على الإسلام نفسه ـ منهاجا.
ومن يكون أجدر بأصحاب الحق بانفتاح على الآخر وعلى المغايـِر كي يطمئنّ المخالف قبل أن يُشرَك في التسيير فلا إقصاء حينئذ لأيّ كفاءة ولا انفراد برقابة قد يكون فيها التغاضي عن أخطاء الأحباب!
لا شك أنّ الخصوم يبالغون في حكاية “الأخونة”.
ولكن علام السكوت اليوم عن محرّمات ارتكبها النظام البائد مع الصهاينة؟
فلا تتركوا للناس فرصة القول إنـّكم كنتم، وقت الاستضعاف، في مزايدة سياسية على أصحاب كمب ديفيد.
وما هذا التناغم المفاجئ مع واشنطن إلا أن يكون حرصا على البقاء في الحكم ـ سواء أتمّ ذلك باعتماد سياسَات شرعية أم لم يتمّ؟
إن المادة الثانية من الدستور المصري جميلة ـ على عدم دقـّتها ـ ما لم تتركوها أمنية نظرية كما فعل بها من سبقوكم.
فهل ستبقون أكبر من خلط واقعية و”وقوعية” ـ مثلما كـَتب أحدنا عن ذلك عام 1997؟
ولا تسألوا هنا عن ذلك التخبط المؤسساتي المنتقل من بيان دستوري إلى آخر وقد بدا فيه الإخوان هواة في السياسة والفقه ـ بعد أن قلّ حَوْلهم أمثال عبد القادر عودة.
وكم ضحك المناوئون وكم غضب الأحباب وهم يرون مستشاري الرئيس الجديد يستصدرون منه إعلان حالة الطوارئ في بعض مدن القنال!
فأيّ شطط هذا الذي جسّده فرض الطوارئ على شعب لم يكد يخرج من عصيان مدنيّ أطاحَ أحدَ أحباب الغرب المؤسساتي الكثر في بلدان أمّـتنا؟
بقيت كلمتان عن الحرية والعدل في أجواء التمكين الإخواني.
لقد أسهمت سنوات الطغيان والقمع في ترسيخ قواعد العمل السري المفضي إلى المركزَة والطاعة العمياء والتوجّس من النقد.
ولكن شتـّان بين دولة فيها المجتمع متنوّع وبين جماعة متـّسقة الفكر والمزاج.
فلا يضيقنّ صدرُ رجل مصلح بما يقوله عنه صحافيّ أو فنـّان.
إنّ حكم الإسلاميين ليس مقدّسا ولا معصوما ولا أبديّا.
فالناس اليومَ عطشى إلى أجواء الحريّة أيّام النبوة الكريمة وسنوات الخلافة الراشدة. فلا ينفـّـرنـّهم منها شحيح نفس، ضيق صدر، فيولـّوا وجوههم شطر باريس أو واشنطن!
لقد بيّنت سورة الحديد أنّ الله تعالى أرسل الرّسل ليقوم الناس بالقسط.
القسط بأنواعه كلها.
وكيف تريدون أن يلتصق مستضعف بغد الثورة وهو يرى الترف السابق كما هو، والعوز هو العوز.
بل مجرّد رؤية الرئيس الجديد في القصور الفرعونية نفسها
لا يساعد الناس على اعتبار الثورة ثورتهم!
إنّ التغيير الثوري لن يُهزم من قِـبل المعارضة بقدر ما قد يؤتىَ من جهة سلطة غير مكتملة الاقتدار.
فملايين الأصوات الإثنا عشر التي نالها مرشح الفلول في رئاسيات مصر لم تكن كلها بفعل المال الحرام. فالكثير منها كان خائفا أو غير مقتنع.
أما المعارضة اليوم، فمن كان منها ثوريا صادقا فلهُ ساحة المنازلة السياسية، ومن كان منها بقايا عفن تتسلل لواذا فلها الأداء السياسي القويّ العادل لِجاما!
وإن يجتمع في الأكثرية حزم ورحمة ينتفِ تكرار مهزلة موقف المعترضين على مواد في دستور مصر الحالي.
لا شك أنّ كثيرا من الإخوان يفاجأون بمثل هذه الكلمات التي ألِفوا غيرها من المدح الذي يقصم ظهرا أو من القدح الذي لا يراعي قـَدْرا.
وكيف يقبلون تعليقات ـ مهما تكن ملأى بالودّ ـ وهم الذين ألِفوا إعطاء الدروس والآراء في ما يخصّ شؤون بيوت الآخرين؟
إنّ المسلم الجزائري لا يستنكف عن الاستفادة من كل حكمة بالغة، كائنا من كان الصادع بها، ولكن أنىّ له الاستلاف في ميادين ما آتاه الله تعالى فيها لا يقلّ عما آتى الآخرين؟
بل معظم حَمَـلة المشروع الإسلامي في الجزائر بعيدون عن الادعاء يوما أنهم اكتفوا بالثمار الطيّبة المتدليّة أكمامها من أشجار جمعية العلماء الجزائريين، إذ أنهم انتفعوا كثيرا ـ في غير استغناء ولا استكفاف ـ بما وجدوه خيرا عميما في مدارس تغييريّة شقيقة.
فمن منا يرغب عـن جوار أحمد ياسين في الجنة أو عبد العزيز البدري أو يوسف طلعت، ولكننا أشواق إلى يوم نلتقي فيه على الخصوص بشهداء وصالحي هذه الديار!
وكم قال أحدنا في بعض المدرجات الجامعية إنّ “الرجولة تستحي عندما يُذكر ابن مهيدي في الجزائر وسيد قطب في مصر”! واسأل إن شئتَ عن سبب اقتران هذين البطلين في الوجدان، تأتـِك الإجابة حيرى!
لا يزال المرء يذكر مشاعره المفعمة بالاغتباط وهو يجيب ـ مع أخوين تونسيين ـ دعوة إلى طعام تفضّـل به في بيته أحد أصهار صاحب “الظلال”، بضاحية باريس الشمالية أواخر السبعينات…
أما عن رائحة ابن مهيدي الزكية، فقد لا يتسع الحديث الحيّ عنها إلا عبر شاشة تلفزيون أو خلف ميكروفون…
إنّ ماضي أحسن الحركات الإسلامية تنظيما، المزين بذلك البلاء الحسن قد جعل من خيارها بعض السادة في الطهر والعطاء والثبات.
ولكن السّـيدودة الروحية أو الأخلاقية شيء والقيادة شيء آخر.
فقد تبوّأ طالوت القيادة بحضرة نبيّ معصوم!
فهل يفاجئنا غدا أو بعد غد الصّرحُ الإخوانيّ ـ في مصر وفي غيرها ـ باقتدار أقوى على الأداء السياسي فيحوّل نعمة التمكين له إلى عبادة التمكين لدين الله رب العالمين؟
ومن منا يدري؟ فقد يصبح بعض أولئك السّادة قادة.
اللهم وفـّق الإخوان، وانصر إخوة الإخوان!
أحمد بن محمد
11 جوان 2013
المصدر: يومية الشروق الجزائرية