القذافي الأب والابن كانا مصممين منذ بداية ثورة 17 فبراير على أن الذين خرجوا للتظاهر ضد النظام ليسوا إلا حفنة من المجرمين الملتحين الذين يريدون تحويل الجماهيرية العظمى إلى إمارة تابعة لأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، والأسد والمعلم وبثينة شعبان ومعهم رامي مخلوف لا يزالون يصرون على أن قوات الأمن والجيش لم تنتشر في المدن والشوارع السورية إلا لحماية الديار من مجموعات من المندسين المتطرفين السلفيين والإرهابيين الذين حملوا السلاح وخرجوا لترويع الناس الآمنين وزعزعة أمن واستقرار قبلة الممانعة والمقاومة، ولذلك ربما كانت أكثر الأماكن استهدافا هناك المساجد والمآذن على اعتبار أنها الجهة التي ينتسب ويأوي إليها المتطرفون الإسلاميون.
الهدف من حشر المتظاهرين والمنتفضين في زاوية الإرهاب والتطرف ليس اعتباطيا، فالأنظمة الاستبدادية مهما بلغت من التعنت والاستكبار فإنها لا تجرؤ على الاعتراف أن الثائرين ضدها يحملون مطالب شرعية تكفلها القوانين الإنسانية، بل لا بد لها أن تجد تهما ترمي بها هؤلاء الناس وتمنع الآخرين من التعاطف معهم.
فيجب على عموم الشعب أن تترسخ لديه فكرة أن المتظاهرين من أجل الحرية والكرامة هم إرهابيون ومتطرفون سلفيون حتى تفقد الثورة كل شرعية شعبية وحتى يتحول البسطاء من الناس إلى أعداء لهذا الحراك وإلى درع واق للنظام، لكن الدكتاتوريين لا يهمهم فقط كسب الرأي العام المحلي وتأليبه ضد موجة التمرد الشعبي لأن الشعب سرعان ما يتفطن إلى تلك الخديعة عندما يرى أن الذين يخرجون إلى الشوراع يتحدون الموت والقمع ويستشهدون في سبيل الحرية إنما هم أناس يعرفونهم ولعل كثيرا منهم لا علاقة لهم بأي مظهر من مظاهر التطرف والتدين المتشدد، إنما الأهم بالنسبة لأنظمة الاستبداد هو أن تراوغ الرأي العام الدولي وحتى إن لم تحصل منه على دعم فإنها على الأقل تريد أن تضمن حياده.
الإرهاب أو التطرف الديني الإسلامي هو العدو الأخطر بالنسبة للغرب والمجتمع الدولي بصفة عامة وأقل ما ينتظر من هذا الغرب أن يقدم يد العون من أجل القضاء على هذا الخطر وأن لا يبدي أي تعاطف مع حاملي هذا الفكر والمروجين له. لذلك حرصت الأنظمة في ليبيا واليمن وسورية على التحرك في كل الاتجاهات من أجل الترويج لفكرة أن الثورة في الشارع تقودها تنظيمات سلفية متطرفة وإرهابية وأن أقل وسيلة للتعامل معها هي القمع والردع، وقد رأينا كيف أن الحكام وخدام هذه الأنظمة سارعوا إلى توجيه رسائل مباشرة عبر القنوات الإعلامية والدبلوماسية المختلفة إلى القوى الغربية مفادها أن مستقبل العالم لن يكون آمنا إذا ما كتب النجاح لهذه التحركات الشعبية أو إذا ما تعرضت الأنظمة القائمة في المنطقة إلى الزوال، بل إن الوقاحة وصلت بهم إلى حد الضرب على الوتر الحساس للغرب من خلال التأكيد على أن أمن الربيبة إسرائيل لن يكون مضمونا إلا إذا استمرت أنظمة الحكم العربية القائمة في الحكم وأن أمن هذه من أمن تلك. طبعا إن هؤلاء الطغاة لا يكذبون عندما يؤكدون أن مصالح الغرب وأمن إسرائيل هي من ضمن أهم التزاماتهم الخارجية، لكنهم فقط لا يعلمون أن اللجوء إلى بعبع الإرهاب والتطرف ليس فعالا في كل الأحوال، بل لعل ذلك من شأنه أن يكون دافعا لصرف النظر عن هذه الأنظمة والتحول عنها.
فقد بنت أنظمة عربية عديدة صرح مصداقيتها على التزامها بمحاربة التطرف والإرهاب والتشديد على أنها قادرة على حسم المعركة لصالحها، ولم يعد يخفى على أحد في السنوات الأخيرة كيف أن هذه الأنظمة حصلت على دعم عسكري واستخباراتي ومالي ومعنوي أيضا من القوى الكبرى في العالم ومن أهم المنظمات مقابل (الخدمات) الجبارة التي تحصل عليها تحت بند محاربة الإرهاب والتطرف وكبح جماح المجموعات الإسلامية المتشددة، ولم تدرك هذه الأنظمة سواء في مصر أو تونس أو ليبيا أو سورية أو اليمن أنها عندما تعترف بتحول الجماعات المتطرفة والإرهابية إلى خطر حقيقي إنما هي بذلك تقضي على جزء كبير من مصداقيتها وتزيح شرعية مطلقة حصلت عليها من حلفائها في الغرب، ذلك أن هذا الأخير إن كان يتحمل الكثير من الضغوط من أجل دعم أنظمة مستبدة ظالمة ومنتهكة لحقوق البشرية فإنه يحاول أن يجد في تكبيل أيدي وأرجل مارد الإرهاب والتطرف مبررا كافيا لذلك، أما وقد تحرر المارد وصار مستعصيا على الحاكم العربي فلم يعد هناك مجال للاستمرار في دعم هذا الحاكم المستبد.
طبعا هذا لا يعني أن ما يقوله الحكام العرب بشأن الإرهاب والتطرف صحيح، بل هو في الغالب كلام زائف أرادوا به استعطاف الغرب من دون أن يدركوا أن اللعبة ستنقلب حجة عليهم.
ربما يكون هؤلاء الحكام الآن نادمين على أنهم أثبتوا للغرب أنهم كانوا في مستوى كبح جماع التطرف الديني في بلدانهم وأنهم كانوا تلاميذ نجباء في مادة مكافحة الإرهاب بدليل أن القوى الكبرى كانت راضية عنهم ومقدرة للجهود التي كانوا يبذلونها من أجل ضمان أمن واستقرار العالم، أو هكذا على الأقل ما كان هؤلاء يوحون به إلى أوليائهم وهو في كثير من الأحيان غير صحيح أو فيه مبالغات كبرى لا هدف من ورائها إلا الاستمرار في الحكم والحصول على المزيد من الدعم والسكوت على ما يُرتكب في حق الشعوب العربية من نهب وسلب وسحق.
من بين هذه الأنظمة العربية المستبدة كلها قد يكون النظام الجزائري أذكاها أو ربما أكثرها حظا. فقد كانت الجزائر مرتعا لتنظيمات مسلحة شتى سجلت صولات وجولات محليا وخارجيا واستمر ذلك لسنوات عديدة حتى نال النظام في البلد مصداقية دولية واسعة وصار مثلا يحتذى به ويحظى بالاحترام عندما يتعلق الأمر بمسألة مكافحة الإرهاب أو التطرف الإسلامي. الجزائر كما يقول أزلام النظام كانت السباقة إلى الاحتفال بربيعها الديمقراطي قبل 23 عاما وكثير من الجزائريين صاروا الآن يفضلون الاستمرار في عيش الذل والهوان تحت ظل هيمنة نظام مستبد فاسد لأنهم صاروا شبه مقتنعين بأن البديل الآتي سيكون عليهم وبالا، ذلك أن النظام نجح تماما في جعل الشعب لا يرى بديلا للحكم الفاسد إلا في بعبع الإرهاب وشبح عدم الاستقرار. تمكنت الجماعات الإرهابية المسلحة من وضع صورة لحالة لا يتمنى أحد أن تعود إليه ولو في أحلك الكوابيس، ثم تحول النظام إلى بطل استطاع أن يهزم هذا البعبع وأن ينهي في وقت قياسي مرحلة من الانفتاح الديمقراطي السياسي والاقتصادي كان الجميع يستبشر بها خيرا. تجربة كان على الأنظمة العربية أن تستفيد منها بدل أن تثبت للعالم أنها كانت أفضل من النظام الجزائري الذي سمح للتطرف أن ينال من مصداقيته حينا من الدهر، تجربة أثبتت الآن أنها الأقدر على إطالة عمر الخديعة بجعل جزء هام من الشعب والعالم الخارجي يؤمن أن النظام هو أحسن وأفضل من يضمن الأمن والاستقرار ويصرف عن الأنظار أية رغبة في التغيير.
خضير بوقايلة
16 أوت 2011