مات البوعزيزي وفر الطاغية وسرت دماء التفاؤل في أوصال الشعوب العربية المضطهدة والمقهورة وسرعان ما ترسخ المنهج البوعزيزي في نفوس شبان يائسين تطوعوا ليكونوا قرابين تأكلها النار لتحيا النفوس ويستعيد المظلومون هنا وهناك كرامتهم المهدورة على مذابح ومسالخ الديكتاتوريين الفاسدين.
في الجزائر ومصر وموريتانيا (والبقية لا شك آتية) قرر شبان في لحظة ممزوجة باليأس والأمل أن يحرقوا أجسادهم لتعود الحياة إلى إخوانهم، تماما مثل الشمعة التي تحترق لتضيء على الناس والضوء هنا هو الحرية التي تخطت أسوار تونس وهي الآن تدق أبواب بلدان عربية أخرى تتلهف للقياها. لكن هل تحتاج الشعوب العربية فعلا إلى هذا النوع من القرابين لتحيا وتنتفض؟ وهل بلغ طغيان الحكام حدا لا يمكن النيل منه إلا بحرق أجساد شباب الأمة؟ لا، وألف لا.. فالشاب العربي مهما بلغ به اليأس ومهما رأى نفسه مهمشا وعالة على أهله لا يحق له أن يذل نفسه ويلقي بها في النار. تكفي تلك المئات من الشباب الذين يرتمون في أحضان البحر طعاما سائغا للأسماك وتكفي تلك الآلاف التي تعج بها سجون بلاد العرب وأوروبا تحت عناوين مختلفة. البوعزيزي ورفقاؤه كانوا شعلة أوقدت النفوس لكن لا يحق للشباب أن يجعلوا فعلتهم منهجا، وإذا أرادوا لهم قدوة فلتكن انتفاضة الشعب التونسي التي بهرت العالم وأثبتت لأصحاب الصالونات السياسية ومحرري وثائق الويكيليكس أن حقيقة الواقع ليس ما يردده السياسيون بل ما يعيشه وينطق به الشعب البسيط.
الجنرال الهارب زين العابدين بن علي ينتمي إلى تلك الزمرة من الحكام الذين زرعوا الرعب في أوساط شعوبهم وأذاقوهم بحارا من الذل والهوان وقد أرانا الله كيف انتهى به المطاف هاربا متخفيا تاركا أزلامه وأركان دولته البوليسية كاليتامى، تماما مثل ذلك الذي عثر عليه مختبئا في حفرة تحت الأرض هاربا من شعبه وأعدائه. وهكذا سيكون مصير كل الطغاة الذين سخروا كل ثروات بلدانهم لخدمة أنفسهم ومحيطهم وتثبيت عروشهم حتى إذا تيقنوا أن خطر الزوال محدق بهم نكصوا على أعقابهم وتركوا بلدانهم وشعوبهم على كف عفريت، هؤلاء هم القادة والزعماء الملهمون الأبطال! وفي كل هذا درس للشعوب لكي تتأكد أن الإطاحة بالأصنام ليس بتلك الصعوبة أو الاستحالة التي يتصورونها، ولو سألتم التونسيين قبل شهر فقط عن توقعاتهم بنهاية الجنرال الطاغية لكان رد الأغلبية الساحقة منهم أن أمره عند ربه وأن الموت فقط هو الكفيل به والقادر عليه، وها نحن نرى الآن أن هناك أسبابا أخرى غير الموت كفيلة بالتخلص من الطغاة وكوابيسهم. فقط بقليل من الإرادة والتصميم وتوحيد الصفوف وسترون كيف يدب الرعب في نفوس هؤلاء الذين يتحصنون وراء الدبابات وأجهزة المخابرات ويصورون أنفسهم أسودا على شعوبهم بينما هم في حقيقتهم فئران مذعورة. وأكاد أقسم الآن أن حادثة فرار الجنرال التونسي طيرت النوم من أعين زملائه من عصابة الحكام الديكتاتوريين ولعلهم الآن أخوف على مصائرهم مما كانوا عليه يوم سقوط بغداد وتلاشي القائد البطل في الطبيعة، مع اختلاف ظاهر ومخيف هذه المرة، وهو أن التغيير لم تصنعه دبابات أمريكا والحلف الأطلسي بل زئير حناجر شعب قرر في لحظة وعي غالية أن ينتفض ويودع حياة الذل والخنوع إلى غير رجعة فانتصر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا. ولا أدل على حالة الحيرة والارتباك التي أصابت عصابة الطغاة من صومهم عن الكلام والتعليق مع أن الأمر يعني بلدا قريبا إليهم. ماذا يقولون؟ هل يباركون للشعب التونسي خياره ونصره المبين فيفتحون بذلك على أنفسهم أبواب جهنم أم يعلنون تضامنهم مع زميلهم ويلعنون الشعب المشاغب والإرهابي فيدخلون في متاهة لا قبل لهم بها؟ فكان الحل هو الصمت المطبق والمحير. ولا أدري لماذا لم ينصحهم مستشاروهم بإعلان تضامنهم مع الجنرال الهارب والتنديد بالانقلاب (غير الشرعي على السلطة الشرعية) قبل اتخاذ الخطوة الحاسمة وهي إرسال قوات مشتركة تعيد الطاغية إلى عرشه. لو كانوا شجعانا لفعلوا ذلك، لكنهم اختاروا مسارا آخر أثبت للرأي العام أنهم فعلا في أقصى درجات الارتباك والحيرة والخوف أيضا. شاهدوا تلفزيوناتهم واقرأوا جرائدهم وستكتشفون كيف أنهم يحاولون طرد كوابيسهم بقرارات دعم أسعار المواد الغذائية الأساسية وخفض الضرائب ورفع المعونات للمحتاجين والإعلان عن توفير مناصب شغل جديدة وتوفير السكنات والتقرب من الشباب ومحاولة نيل رضاهم وتجنب لعنة غضبهم. لا أحد من هؤلاء الحكام يجرؤ الآن على اتخاذ قرارات تغضب الشعب مع أنهم يدركون جيدا أن ذلك مناف لقوانينهم التي شرعوها وجالب لسخط المؤسسات المالية الدولية.
قد يقول البعض إن أحباب الجنرال الهارب لم يسكتوا كلهم. فعلا فقد نطق العقيد وقال ما قال في لحظة غضب أو ربما يأس وهو يرى مخطط التوريث الذي يجري التخطيط له منذ سنوات ينهار كما تنهار قصور الرمل أمام أمواج التسونامي العاتية. عقيد الجماهيرية العظمى تألم لمصير الزين وأنب التونسيين على تفريطهم في قائدهم الملهم الذي لن تلد تونس مثله أبدا، وتساءل لماذا لم يصبروا عليهم ويلتفوا حوله ويطلبوا منه محاسبة الفاسدين وكأنه لا يعلم أنه إذا استجاب لهم وحاسب الفاسدين فإن تونس ستفقد في كل الأحوال زينها. العقيد أقسم بأغلظ الأيمان أنه لا يوجد أحسن من الزين رئيسا، وقبل أن يبكي على مصير تونس استعرض ما ورد في تقارير دولية تؤكد أن (الاقتصاد التونسي من الاقتصاديات الصاعدة) وأن (تونس وضعها ممتاز جدًّا)، وأن (منتدى دافوس العالمي المشهور، صنّف تونس في المرتبة الأولى مغاربيا وإفريقيا والرابعة في العالم العربي. وأن (تونس تحصلت على المرتبة 35 من 135 في المؤشر العام للقدرة التنافسية للاقتصاد على الصعيد الدولي). وتساءل العقيد (ماذا عمل الزين لتونس غير الأشياء الحسنة؟!)، قبل أن يقول كلمة الفصل في حق الجنرال الهارب وهي أنه (لا يوجد أحسن من الزين أبدا في هذه الفترة). لكن ها أنت ترى أيها القائد كيف أن التونسيين ظهروا أنهم يخربون بيوتهم بأيديهم وأنهم فرطوا في ياقوتة نادرة، لكني لو كنت مستشارك (حتى هذه صعبة) لاقترحت عليك أن ترسل غدا صباحا طائرة خاصة إلى السعودية تجلب فيها الزين وتفسح له المجال ليبدع على تراب الجماهيرية، فتونس الآن على حافة الهاوية كما تقول والفرصة الآن مناسبة لليبيا لتستفيد من خبرات الزين وتحذو حذو تونس، ولن يمر عام واحد بإذن الله حتى تصدح تقارير دافوس والبنك العالمي وصندوق النقد الدولي قائلة إن الجماهيرية صارت مصنّفة في المرتبة الأولى مغاربيا وإفريقيا والرابعة في العالم العربي. ولن أسمح لنفسي في هذا المقام أن أسأل العقيد لماذا ترك الزين يقطع آلاف الكيلومترات ويقضي ليلته باحثا له عن ملجأ وعند بوابة حدوده جار عزيز يقدر قيمته ويستطيع أن يؤويه معززا مكرما؟
لن أعاتب شعب تونس بعد عتاب الأخ العقيد له على تفريطه في قائده الزين الملهم، لكني أسجل ملاحظتين أو ثلاثا من وحي ما جرى لحاكم قرطاج. الأولى تتعلق بأكذوبة الدعم الغربي للطغاة العرب الذين يضعون رضا الخارج فوق مشاعر شعوبهم، أين هي فرنسا وأين أمريكا وأين الاتحاد الأوروبي؟ ماذا فعلوا لحليفهم وصديقهم الوفي عندما لفظه شعبه غير غلق أجوائهم أمام طائرته التائهة والتبرؤ منه؟ ثانيا، أين هي جموع المؤيدين للطاغية الذين جفت حناجرهم وهم يهتفون بحياة الزعيم ويترجونه قبل ثلاث سنوات أو أربع من انقضاء فترته للترشح لفترة قادمة؟ أين هي هذه الجماهير الحاشدة التي كانت تركع وتسجد للزين بدلا من رب العالمين؟ لماذا لم نر تلك الآلاف المؤلفة أمام قصر قرطاج أو في المطار تلتف حول السيد الرئيس وتدعمه في مسيرته وفي قراراته الحازمة ضد المشوشين والعملاء؟
أين هم هؤلاء الخطباء والمبدعون والمداحون الذين ملأوا الشاشة والإذاعات والصحف نفاقا وخداعا وتملقا؟ أين الساكتون عن الحق وأين المتملقون؟ هكذا هم حلفاؤكم في الداخل والخارج أيها الحكام الطغاة، عندما يجدّ الجدّ لن تجدوا أمامكم إلا منفذا واحدا إلى مطار جدة، لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون. أما الملاحظة الأخيرة فهي لبعض السياسيين الذين استيقظوا بعد فرار الجنرال وأعربوا باحتشام عن احترامهم لإرادة الشعب التونسي ورغباته، فهلا أخذ هؤلاء بكلامهم وقرروا مرة في العمر أن يحترموا إرادة شعوبهم قبل أن يفوت الأوان وتنطلق الحناجر وأبواق الغضب في الشوارع تحت أقدامهم؟
خضير بوقايلة
18 يناير 2011
المصدر: يومية القدس العربي
http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=today\18qpt78.htm&arc=data\2011\01\01-18\18qpt78.htm