فاز أوباما ابن اللا مكان، فليس له في الدولة الأمريكية من ساحلها الشرقي إلى ساحلها الغربي قبرُ لسلفٍ واحد من جهة الأب، ليس هو ابن النخبة الأنجلوساكسونية المنتفذّة في السياسة والمال والعسكرية، حظ السود دائما خُلَّصاً كانوا أو هجين يتسع في الرياضة والفن فمن ضنك عيشهم وحنينهم إلى الأوطان المجهولة، خرجت موسيقى الجاز مفعمةً بالحزن ونُشدان مالا يدرك.
“فاز اوباما”، وليس له من قبيل كثير يأوي إليه، امرأتان هما والدته آن دنهام وجدته مادلين دنهام وجده ستانلي دنهام، هل التأريخ ابن الصدفة؟ هل كانت الولايات المتحدة لكي تتصالح مع ذواتها المتعددة أو قل مع ذلك الجزء الأسود من ذاتها بحاجة إلى أن تنتظر كل ذلك الوقت؟ حتى يأتي الغريب المنقذ فيقضي وطراً من امرأة بيضاء ليفتح الـتأريخ أبوابه؟ تزوج حسين أوباما المسلم القادم من كينيا في أفريقيا بآن دنهام المسيحية البيضاء، فأنجبت له باراك وهو في اللغة السواحلية في معنى مبارك، يبلغ الطفل باراك عامين ينفصل الوالدان، يقرر الأب العودة، لقد انتهت المهمة التاريخية، فقط على الولايات المتحدة أن تنتظر سبعة وأربعين عاما لعبر بها ابنه إلى خلاص روحها، أهي نظرية الغريب المخلص في أبها تجلياتها؟ الغريب الذي يهز عرائش السائد..؟ ربما، فالذين يبحثون عن المصالحات التاريخية الكبرى في تاريخ الإنسانية لا يمكن أن يتجاوزوا ما حدث في الولايات المتحدة، ولكن انتصار أوباما فضلاً عن كونه انتصاراً باهراً لفكرة دولة المؤسسات ولنضوج الممارسة الحزبية، إلا أنه في تجليه الأكبر انتصار لزحف كبير بدأته حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة.
“لدي حلم كبير”… عبارة أطلقها مارتن لوثر كنغ استودعها كل عذابات السود وهم يتلفحون ايهابا يسد في وجوههم أبواب الكنائس والمسارح، ويضطرهم إلى أضيق الطريق،حلم على وقع حذاءه سارت الغافلة السوداء تطلب فجر حريتها… “لدي حلم كبير” يقول كنغ في يوم يجيء يتعانق فيه أبناء العبيد السود مع أبناء سادتهم السابقين من البيض. واغتيل كنغ ولكن حلمه لم يمت.
روزا باركس اسم آخر سبق كنغ وشكّل منارة هاديةّ لحركة السود نحو التحرر.، الملايين من السود أخلوا كراسيهم في الحافلات العامة، ليجلس عليها سيد أو سيدةٌ بيضاء إلاّ روزا باركس، قالت في لحظة مفصلية من تاريخها الشخصي لسائق الحافلة الذي أمرها بالوقوف: لقد سئمت كل هذا لن أترك مقعدي، ما كان موقفا شخصياً سيصبح فيما بعد واحدةً من أنصع صفحات التحدي إشراقات تحدي في التاريخ الإنساني حيث انهارت جذور الفصل العنصري، إما بأي مقدار سيكون لفوز أوباما من أثر خارج الولايات المتحدة فذلك أمر محكوم يقدره الخارج على التأمل في الواقع، المفارقة أن فوز أوباما الشاهدة على رحابة الإنسانية الأمريكية سيكون محرجا لإسرائيل بديمقراطيتها المتعلقة على هويتها اليهودية، فإسرائيل لا تملك لأمثال أوباما وعودا بأن يكون شيئاً.
أوباما قد يلهم في السياسة في بلاد لا تزال تمارسها وهي تتعارك عبر قبائلها ووهم أعراقها الصافية والمعتكرة، وربما أغرى فوز أوباما كثيرين التفكير في بؤس واقع اللا هوية الذي يعيش فيه أبناءٌ بدون لآباء بدون، وربما كان فوز اوباما محرضا لقارته الأفريقية أن تنطلق من إيثار قبائلها إلى رحابة أوطان يمكن أن تسع الكثيرين، كما وسعت أمريكا ابنهم أوباما، بيد أن فوز أوباما ربما يعين كثيرين على التحرر من وهم حق الأبناء في خلافة آبائهم في بعض دول المنطقة فظاهرة حكم بوش الابن بعد حكم والده أشاعت وهم التوريث باعتباره فضيلة ديمقراطية.
أوباما بفوزه بدد ذلك الوهم فالنداء الجديد أن تبحث كل أمة في أوباماها وهي مباحث في إنسانيتها بمقدار ما في سياستها وثقافتها وصميم ذاتها.
فوزي بشري
نوفمبر 2008
تقرير بُثّ على قناة الجزيرة