هذه المرة جاء بأويحيى في إطار أجندة حاسمة، حيث بدأت تسرب دوائر مقربة من الجنرالات أنه خليفة الرئيس في قصر المرادية، عن طريق تعيينه كنائب لبوتفليقة الذي صارت أيامه معدومة بسبب وضعه الصحي الذي لا يبشر بالخير، حتى ان بعض المصادر تفسر مايجري من جدل وما يسيل من حبر حول العهدة الثالثة يدخل في إطار فرض واقع يتجاوز صحة الرئيس ويبعدها من التداول الاعلامي، والتي بلا شك ليست على ما يرام لإعتبارات عديدة ليس المجال لبسطها… ففي الأجندة التي تطبخ في الخفاء عكس ما يروج له إعلاميا، أنه سيتم تعديل الدستور عن طريق البرلمان ومن ثمة يترشح بوتفليقة – رغم كل شيء – رفقة أرانب تم الفصل في اسمائهم مسبقا، ويعين أويحيى نائبا له عن طريق مرسوم رئاسي بعد تقديمه لإستقالة حكومته للرئيس المزكى في إستفتاء سموه تجاوزا إنتخابات تعددية، وهكذا يكون سيناريو بقاء السلطة في قبضة العسكر وجنرالاته عن طريق تعبيد الطريق لإبن تيزي وزو ليصبح أول رئيس "قبائلي" يدخل قصر المرادية بعد شغور المنصب بالوفاة أو بالتخلي لأسباب صحية… ليس عن طريق إنتخابات ستلفظه حتما لو ترشح لها، بل بواسطة ما يمكن وصفه بالمؤامرة الأخرى على الإرادة الشعبية، وهو الإغتيال الثاني الكبير للديمقراطية بعد إنقلاب 1992 الذي ستحل بعده كارثة وخراب جديد لا يستفيد منه بؤساء الجزائر طبعا، الذين هم الأغلبية الساحقة من الشعب، وستعود كل الفوائد على مصاصي الدماء وتجار الموت المتربصين.
ربما الصورة تجلت بعض الشيء عن سر بقاء هذا الرجل واقفا وصامدا في حزب أغلب قيادته من أبرز الانتهازيين في الجزائر الآن، فقد انقلبوا على الجنرال محمد بتشين لما صار غير مرغوب فيه بدوائر القرار، ومنه طبعا استهدفوا رأس الرئيس الأسبق اليمين زروال، وهنا أغتنم الفرصة على ذكر الرئيس زروال حيث تلقيت رسائل تلومني لعدم التحدث عن شخصه أو عن حكمه، ولهذا أؤكد على سبيل التذكير باختصار أن فترته كانت دموية للغاية وتحت وصايته أباد الجنرالات شعبنا عن طريق مجازر قذرة ستظل لعنة أبد الدهر، ولكن في الوقت نفسه له موقف مشرف فقد آثر العودة لبيته وهجر السياسة للأبد بدل البقاء في رئاسة أدرك أنه مجرد دمية ووظيفة صورية لا تقدم ولا تؤخر شيئا، ورفض أن يظل مجرد بيدقا في أيادي تلطخت بدماء الأبرياء كما ثبت لديه، وفي مفهومي أن ما يحدث الآن هو تراكمات بدأت منذ 1962 وتواصلت كومة الثلج في التدحرج وهي تكبر شيئا فشيئا، ولكل فترة معطياتها التي تزيدها انتفاخا، حتى وصلنا لحال لا نحسد عليه أبدا، والأيام القادمة والمستقبل أخطر بكثير إن لم نتحد هذا النظام المتعفن، وأولويتنا هي هذه المرحلة الخطيرة من عمر مأساتنا التي عمرت…
قلت أن "الانتهازيين " وبامتياز قد جاءوا من مدرسة مرموقة واحترافية في الفساد والرشوة والمحسوبية وللأسف تحت عنوان بارز اسمه "حزب جبهة التحرير الوطني"، والتحقوا بحزب التجمع الوطني الديمقراطي الذي ولد من فراغ بشنباته كما يشاع في الجزائر، وجمع في سلته عصابات ولصوص ثبتت عليهم الإدانة في كل الجرائم التي اقترفت وحتى تلك التي هي على الأبواب… أكثر مما ذكرنا في إطار هذه التشكيلة فقد تم بالأمس – غير البعيد – الاغتيال البشع وعلى المباشر للثوري التاريخي محمد بوضياف قبل أن يكمل صناعة هذا الحزب وفق أجندته التي تستهدف المرتشين والمفسدين في عقر دارهم، واغتيل عبد الحق بن حمودة في يوم استعراضي بموقف محصن بقلب قصر الشعب "الإتحاد العام للعمال الجزائريين"، وهو أحد أقطاب الحرب الأهلية المشؤومة وصانعي الانقلاب، لما حاول بن حمودة الاستحواذ على الحزب وفق ما يخدم تطلعاته ورغباته وحساباته، أيضا انقلبوا على الطاهر بن بعيبش كأمين عام وقاد ذلك الإنقلاب رجل المهمات القذرة أحمد أويحيى، لما انتفخت أوداجه وحاول الخروج عن إرادة الجنرالات في إيصال بوتفليقة للحكم… في ظل هذا الحزب الذي حاله في هذه الصورة البشعة وتاريخه قذر للغاية لا يمكن ان نختزله في كلام عابر، نجد أنفسنا مجبرين هنا على التساؤل حول صمود أويحيى كل هذه السنوات ومن دون أن تطاله موجة الانقلابات كباقي الأحزاب الأخرى كلها، باستثناء حركة حمس التي لها حسابات انتهازية من طراز آخر، ولماذا ظل يتبجح علنا أنه يعرف كيف يعود إلى قصر الدكتور سعدان كلما تم الاستغناء عن خدماته؟ ولماذا يتقلب كالحرباء ففي عهد الحل الأمني كان استئصاليا للنخاع ولما عزف الجنرالات على وتر المصالحة تسربل ثوبها بلا استحياء؟
عندما نطرح هذه الأمور ليس من باب محاولة إقناع الناس بان الرجل هو ذيل المخابرات وعون الجنرالات في السلطة التنفيذية، أو انه الوحيد الذي يتفنن في خدمة أولياء نعمته وبامتياز يفوق حدود التخيل، عكس بلخادم الذي هو بدوره وفي "وفاء الكلاب" لأسياده، إلا أن تاريخه المعروف بالتقارب من دوائر إيرانية وتوجهاته التي تحسب على الوطنيين وقناعاته الدينية، جعلته مجرد مرحلة عابرة وقاطرة وإن ادعى بجرها فهو يهرف فقط، لأن البردعة فوق ظهره والقاطرة تسير أمامه، والذي لم يجد من منفذ يقيه حرج حضور احتفالات الأرندي في مؤتمره الثالث بعودة الحكومة إلى أحضان أمينه العام، سوى البقاع المقدسة – كما يروج طبعا – التي ستكون ملاذا وتحت أعتاب الكعبة فرصة الخشوع بالدعاء لنفسه بالعودة حيث كان، وعلى خصومه بالسخط والسقوط والداء العضال… وسيوضع تحت وقع صور تجعله في قمة الخجل والحنق بلا شك لما يجد غريمه الذي قاد بنفسه حملة إسقاطه في 2006 وإن جمعهم بدعا ما يسمى الائتلاف الرئاسي، يتبختر كالديك الرومي من على المنصة كأمين عام للحزب وفي جيبه ختم باسم رئيس الحكومة…
غير أن حقيقة أحمد أويحيى وعلاقاته بالجنرالات لا يختلف فيها حتى المتسولون على أرصفة طرقات الجزائر العميقة، ولكن نريد وبكل حرص أن ننبه – على الأقل – هذا الشعب بمصيره الذي كان من قبل مجهولا وصار اليوم معلوما وهو "الخراب" بلا تنميق ولا تردد، وذلك بفضل حكام من طينة "أحمد أويحيى" الذين احتلوا قمة هرم السلطة منذ بداية التسعينيات، وتراهم ينفقون الوعود ذات اليمين وذات الشمال ولم يتحقق منها أي شيء، سوى تلك الإنجازات التي لا تظهر إلا في التلفزيون الرسمي "اليتيمة" وعلى يد بائع الكلام المعلب المسمى حمراوي حبيب شوقي، وللأسف الشديد يوجد من يصدق ذلك ويطبل له ولا يستحي أمام نفسه على الأقل وليس امام الله، وهو على يقين بكذب ما يروج له.
ربما يراني البعض متحاملا على النظام تحاملا غير مسبوق، أحدهم يبرره بأسباب شخصية مع بعض أطراف في الحكم، وآخر يدعي أنني أعمل لصالح جهات ما في فرنسا أو حتى واشنطن، وبين هذا وذاك من يراني مجرد بائع حديث فارغ لا يسمن ولا يغني من جوع ألهث من خلاله على شهرة أو منصب مفقود… ولكن اترك الحكم للقارئ ولكل مواطن جزائري صادق وغيور، فلينظر من خلال واقعه هو، وليتأمل كل واحد حاله وما عليه وضعه ومنه يعلن موقفا صائبا من هذه الحكومات أو هذا النظام برمته، لأن الحكومات تتغير في تشكيلاتها ولكن النظام ظل يراوح مكانه لم يتجدد ولم يتطور ولن يتفتح ولن يتعدد، فإن كان وضعك – أخي الجزائري – يسير لتحسن وتطور فأتفل في وجهي إن دعوتك يوما إلى الوقوف في وجه هذه العصابة الحاكمة أو عصيانها، وأضرب عرض الحائط بكل ما أكتب، وأغلق القناة الفضائية التي اطل منها عليك… أما إن كان حالك يسير من سيء لأسوأ، فالموقف هنا والشهامة والرجولة تفرض عليك وتقتضي أن تكون لك كلمتك قبل أن تصبح ترى أبناءك يموتون جوعا وبأوبئة فتاكة – عافانا الله جميعا – ولا تستطيع أن تفعل شيئا، بل هناك أمر آخر تأمل حال من يتولون المسؤولية على حسابك أو أولئك الذين يترشحون في البلديات أو الولايات أو البرلمان هل حققوا لك من تلك الوعود التي قدموها من قبل انتخابهم؟ وكيف حالهم المادي الآن؟ وكيف يعيش أبناؤهم وبناتهم وأقاربهم؟ وهل يبذرون المال العام في خدمة الشعب أو في القمار والخمور والسجائر والمخدرات والدعارة والليالي الحمراء؟
أعتقد أن من ينظر إلى واقعه بعين الصدق وبعيدا عن تأثيرات مغناطيسية لهؤلاء المرتزقة الذين يبحثون عن مصالح أنفسهم وغرائزهم فقط، والشعب هو آخر ما يهتمون به بعد الكلاب التي تحرس بيوتهم وكانيشات بناتهم وفتيانهم المدللين، سيصل بكل وضوح إلى ما نحن نصوره في محطاتنا المختلفة وما نحذر منه دوما، أجد نفسي مضطرا أن أروي حديثا جمعني بأحد النواب البرلمانيين ذات يوم من عام 1998 ولما سألته ببراءة: هل تزور دائرتك الانتخابية؟ وكان جوابه ما لم أتصوره: ماذا سأفعل بأولئك الرعاة الوسخين؟ رددت عليه وكأنه نحرني: تعايرهم وهم انتخبوك وأوصلوك حتى صرت تملك محلا فاخرا في بن عكنون !!… رد بعجب آخر: شرفتهم لما قبلت أن أمثلهم، حينها لم أجد ما أقوله وبكل أسف وحنق: نعم… يحق لك أن تصفهم بالرعاة – وان كان الرعي شرف وليس مذلة – ووسخين لأنهم انتخبوا على قذر مثلك… وسبب لنا ذلك الصداع في ما بعد !
على ذكر الانتخابات فقد انتخب الشعب الجزائري عام 1991 بأغلبية ساحقة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، فصودرت إرادته لأنه "أخطأ الاختيار" على حد زعمهم، وصار أبيا لما رضخ لإرادتهم وتزويرهم واحتيالهم… وطبعا تسبب ذلك الانقلاب على الخيار الشعبي في حرب أهلية أتت على الأخضر واليابس، ففاق عدد القتلى 250 ألف في حصيلة رسمية، والخسائر المادية أيضا تجاوزت 50 مليار دولار بكثير، ولقد كانت الحيثيات كلها قبل الانتخابات تؤكد أن الخيار الشعبي سيكون لصالح جبهة الإنقاذ، فترى لماذا تمت هذه الانتخابات مادام قد بيت لها بسوء والكل نذكر ما قاله سعيد سعدي لعباسي مدني في برنامج تلفزيوني متحديا ومتعجرفا من أن جبهته لن تصل للحكم مهما كان الثمن؟ !
أمر آخر من الضروري الإشارة إليه على سبيل المثال لا الحصر، هو أن الشعب الجزائري قاطع انتخابات 27 مايو 2007 بأغلبية ساحقة قاربت 12 مليون جزائري من مجموع يفوق 18 مليون مسجل في القوائم الانتخابية، وتلك الأقلية المتمثلة في 1.315.686 صوت اختاروا جبهة التحرير، ولكن الرئيس عين زعيم حزب الأرندي الذي لم تبلغ نسبة الأصوات المؤيدة له سوى 591.310 صوت، فما جدوى الانتخابات إذن مادام ميزان التعيين في السلطة التنفيذية لا يخضع للبرامج ولا للأشخاص ولا إلى عدد أصوات المنتخبين ولا حتى نسبة المشاركة تؤخذ بعين الاعتبار؟ هل التعديل الدستوري في هذه الحالة عبر البرلمان سيحوز الشرعية الشعبية التي يتغنون بها؟
قد يبررون ذلك من أن الحكومة تنفذ "برنامج الرئيس" الذي انتخب عليه الشعب، فما فائدة تبذير الملايير على انتخابات شكلية أفسدت على الرئيس نشوة انتصاره وجعلته بنفسه يحتقر الهيئة التشريعية ولم ينزل ليخطب تحت قبتها منذ اعتلاءه سدة الحكم في 1999؟ أليس من الأجدر انتخابات رئاسية واحدة في كل خمس سنوات وبعدها يعين الرئيس ما يريد في البلديات والدوائر والولايات والبرلمان والوزارات والسفارات أفضل من خسائر مالية ومصاريف كبيرة لو وجهت للبؤساء لخرج الآلاف من عنق الزجاجة ؟
أويحيى الذي عاد للحكومة رغم أنف جبهة التحرير التي تتباهى بقيادتها لقافلة العهدة الثالثة لبوتفليقة، أول ما صرح به هو ضرورة الاستيقاظ من ما سماه "وهم البحبوحة المالية"، هذه التسمية التي تشبه لحد بعيد مصطلحاته القديمة "اللاحدث" لمؤتمر سانت ايجيديو وصار في 2005 عرابا لأطروحاته التي صودق عليها من طرف شخصيات توافقية حريصة على مستقبل البلد، وبسنوات قبل وئام أو مصالحة الجنرالات الذين نسخوه وحرفوه وإدعوا حق التأليف والإبداع، كذلك "بقايا الإرهاب"، "المهمات القذرة"، "حملة الآيادي النظيفة"… والتي كلها اصطلاحات أثبتت الأيام زورها وكذبها وبهتانها، لقد بررها بما هو استخفاف بعقول الناس من مختصين في الاقتصاد ومحللين إستراتيجيين، حيث ادعى أويحيى أن مصاريف ونفقات نظام الجزائر تفوق مداخيل الخزينة، فترى أين تذهب هذه النفقات؟ هل حققت شيئا للجزائر والجزائريين كالقضاء على البطالة والحرقة مثلا؟ هل تعتبر هذه النفقات هي السبب الحقيقي الذي دفع النظام إلى العودة مجددا للمديونية، بالرغم من قرار بوتفليقة الذي أعلنه وهو في نشوة عودته من رحلة الموت لفال دوغراس بباريس في جانفي 2006، والقاضي بقرار توقيف الاستدانة بصفة نهائية؟ !!… سنواصل في الجزء الثاني الحديث عن النفقات وبعض النماذج منها وكذلك واقع الفقر وبؤساء الجزائر وأشياء أخرى مهمة.
يتبع
أنور مالك 27 جوان 2008