طبعا بالنسبة لمليون سكن التي وعد بها بوتفليقة لم يتحقق منها أي شيء، ويكفي ما يجري هذه الأيام حول وكالة عدل من سقوط حر لا يمكن وصفه، والسبب الرئيسي في القضية هو تجذر الفساد في دواليب الدولة، والذي لا يمكن القضاء عليه برحيل وزراء أو مسؤولين، بل برحيل النظام كله عبر مضيق يمر على زنازين سركاجي أو الحراش، فالمشاريع تتحصل عليها شركات بناء غير مؤهلة ولا تملك القدرات ولكن بفضل الرشوة والنفوذ والأكتاف العريضة، وتبادل الأدوار في نهب خيرات الوطن المستباح…
العزة والكرامة أوصلت الشباب الجزائري إلى أن ينتحر في أعماق البحر المتوسط هاربا من بلاده، وآخرون يبدلون دينهم لا لشيء سوى أنه "دين الدولة" بالرغم من براءة هذه الدولة من مثل هذا الإتهام !! فترى هل رفع رأسه الشعب الجزائري كما وعد بوتفليقة؟
لن أجيب وأترك ذلك لكل مواطن ينظر إلى واقعه بنفسه بعيدا عن الشعارات والوطنية المزيفة والمقننة بالكذب والبهتان والخبث، الوطنية التي اختزلت في أعلام توزع مجانا على المواطنين، وفي وقت مثل هذا هو إهانة لا تغتفر لمليون ونصف مليون شهيد، لأن ذلك سيدفع المواطن الغلبان إلى رميه في المزابل التي صار يقتات منها…
لو أردنا أن نتحدث عن الواقع الاجتماعي المزري الذي وصل إلى حد لا يمكن تخيله بالرغم من الملايير التي هي في خزينة الدولة، فسوف نجد أنفسنا نقرأ الفاتحة على هذه الدولة التي تفانى في تشييدها الرئيس بوتفليقة خلال عشرية كاملة كما يبرز الأبواق، لكن لم يظهر منها سوى الفقر والجوع والمبيت في المزابل والعراء وشباب ينتحر مرة بقوارب الموت وأخرى بأحزمة ناسفة، والمحاكم تعج بالجرائم الأخلاقية والانحلال والتمسخ والأحكام بالإعدام تصدر يوميا حيث بلغ عددها 603 منذ 2007 ، بل مأساة الجزائريين بعد الجوع صارت تهدد صحتهم فقد سجل رسميا وطبعا الأرقام الحقيقية عكس ذلك تماما: 11 ألف جزائري مصاب بالقصور الكلوي، 60 ألف إصابة بالجلطة الدماغية سنويا، 30 ألف حالة سرطان سنويا، 3 ملايين مواطن يصارعون السكري (25% شباب)، إلى غاية 2007 أحصت الجزائر أن 26% من سكانها مصابون بارتفاع الضغط الشرياني… فترى ما هي أسباب هذا الواقع المنذر بالخطر؟
أليس الواقع الاجتماعي المزري هو السبب المباشر في صحة الجزائريين التي قاربت الكارثة ولا أحد يتحرك؟
النزيف الذي يعرفه المال العام سواء نحو الخارج أو في صفقات مشبوهة تذهب بالملايير، وتعالج في أروقة العدالة بطرق هشة للغاية، غالبا ما يخرج المتهمون في إطار عفو رئاسي أو حتى إفراج مشروط، فيوميا نسمع عن قضايا الفساد والرشوة والتلاعب والاحتيال على المال العام، وما لا نسمعه أكثر بكثير… فهل من المعقول أن تقدم العدالة على معالجة قضية اختلاس مبلغ يفوق ألف مليار مرة واحدة؟
هل هذا المبلغ موجود كاملا في خزينة هذه الإدارة؟
بالتأكيد أن العملية تواصلت لسنوات طويلة وتورطت أطراف كثيرة فيها، وعندما يفوح النتن تضطر الإدارة إلى احتواء الفضيحة عن طريق التضحية بشخص تلقى وعودا تحت الطاولة…
أليس من العار أن دولة بحجم الجزائر حباها الله بالخيرات من نفط في ظل أسعار خيالية، ومساحة تقدر بـ 2.381.741 كم مربع، ويعيش فيها حوالي 35 مليون نسمة فقط، يصل واقعها إلى هذا الحد الذي لا يشبهه حتى ما كان عليه الحال أيام الاستعمار الفرنسي، ولست أشيد بالمستعمر الذي لن يغفر له ما اقترفه في حق وطننا، البعض من هذا النظام الفاشل يتحجج بإرتفاع عدد السكان، ولكن نجد أن اليابان مساحتها 377.865 كم مربع ويعيش فيها حوالي 130 مليون نسمة، وألمانيا مساحتها 357.027 كم مربع ويعيش فيها أكثر من 82 مليون نسمة، فترى هل سجلت فيها تلك الفظائع والبلاوي الموجودة داخل بلادنا؟
التغيير الحكومي الجديد الذي جرى مساء 23/06/2008 في الجزائر، جعلنا نتأكد أكثر من أن هذا النظام لا يريد الخير للجزائريين أبدا، فقد عاد أحمد أيحيى أحد أبرز المفسدين في الجزائر إلى الواجهة، ومن لا يعرف فعليه أن يسأل عن إمبراطورية طحكوت للنقل في الجزائر، وليسأل عن أملاك الدولة من فيلات فاخرة تقدر بالملايير تنازل عنها بمبالغ بسيطة لا تسدد ثمن سيارة قديمة من نوع رونو 4، والتي بينها من حولت إلى بيتزيريا لصالح حرم أويحيى وفي قلب العاصمة الجزائرية، ,اخرى لصالح المطربة فلة عبابسة… الخ، هذا الرجل سمى نفسه من قبل "صاحب المهمات القذرة" ولقد أصاب بالفعل وكان صادقا لأول وآخر مرة في حياته، فهو يعرف جيدا ما يجري في دواليب الحكم في حق الشعب وفي حق ثروات البلد وفي حق مستقبل أجيالنا، قد أكد الشك وحوله إلى يقين وهو الذي قام بتزوير علني للإرادة الشعبية عام 1997 وهو ما يعاقب عليه القانون وبشدة، أويحيى صار لا ينطق عن الهوى أبدا خاصة أن الرئيس بوتفليقة أعلن اطمئنانه لما يغادر البلد ويترك خلفه هذا المسؤول.
لقد راح بلخادم يروج لتعديل حكومي مرتقب لا يشمله طبعا، ولكن الذي حدث أن رأسه هو المستهدف بعد صولاته وجولاته وأنه من يسوق قاطرة التعديل الدستوري، ولكن ماذا حدث في ظل هذا الفساد الذي يضرب العمق الجزائري؟ وما هو سر الاستغناء عنه في عملية توصف بالتجميلية بالرغم من أنها ذهبت من البشع إلى الأبشع؟
أويحيى الذي غادر المنصب في مايو 2006 بسبب إفلاس الحكومة نفسها التي عاد اليوم لقيادتها وبأغلبية الوجوه التي ودعها حزينا باكيا متمنيا الشفاء للرئيس بوتفليقة، ومن دون أن يقدم حصيلته للبرلمان كما هو معمول به، وكاد أن يدخل الصراع معه تحت قبة الهيئة التشريعية تحت طائلة ملتمس الرقابة، فآثر رمي المنشفة واستقالة في ظاهرها لحفظ ماء وجهه ووجه حزب الإدارة الذي يقوده، وروجت وسائل الإعلام حينها من أن القاطرة وضعت على سكتها باعتلاء حزب ما يسمى تجاوزا الأغلبية سدة قصر الدكتور سعدان، ولكن لم يتغير شيئا في الواقع سوى الشعارات الرنانة التي لا تنفع الجزائريين الذي صاروا "بؤساء العالم" بسبب السياسة الفاشلة والنظام الفاسد.
يعود هذا الرجل للمرة الثالثة في تاريخه السياسي، هذه المرة بعد سنتين من الرحيل ليقود الطاقم نفسه الذي فشل في كل الميادين، وكأن الجزائر التي يوجد بها حوالي 35 مليون نسمة لم تنجب سوى هذه الوجوه التي تتداول على مأساتنا، فمرة اويحيى رئيسا للحكومة وبلخادم الممثل الشخصي لبوتفليقة، وأخرى بلخادم رئيسا للحكومة والآخر مبعوثه الشخصي، وبعدها تنقلب الصور لتعود إلى ما كانت عليه في الأول، وصار النظام يواري نفس الوجوه عن الأنظار لما يحتدم وطيس الانفجار الاجتماعي عليهم، ثم يعيد هذا إلى مكان ذاك ويبقى الشعب الجزائري في وضع لا يحسد عليه، الفقر وغلاء المعيشة وتدهور القدرة الشرائية والوضع الأمني المتعفن…
لنتساءل وبوضوح:
ما الذي تغير في هذه الحكومة الجديدة حتى دفعت الرئيس لتغيير أو تعديل أو سمه ما شئت فقد ضاعت المصطلحات في أنظمة الوهم والعهر؟ ما دور البرلمان الذي لم تقدم له حكومة بلخادم حصيلتها حتى تحاسب على تسيير دولة غنية لحد يفوق التخيل؟ ما هي إنجازات عبد العزيز بلخادم على مدار سنتين من العبث والسياسة الفاشلة؟
الطاقم الحكومي هو نفسه ولم يغادر لـ "مهام أخرى" سوى ثلاث وزراء، أما البقية فبقيت تتداول على كراسي الريع المستباح… فنجد مثلا السعيد بركات الذي عرف قطاع الفلاحة في عهده فضائح لا يمكن تخيلها، وكنا ننتظر إقالته ومحاكمته على غرار المدير العام للديوان الوطني للحبوب بسبب فضائح كبيرة مست قطاع هذا الوزير، حتى نعرف خفايا ما يجري في هذا القطاع الحيوي للجزائر عبر قاعات الجلسات وليس على صفحات بعض الصحف أو في الأرصفة، فقد حلت الكارثة بالفعل ولا باكي لها حيث نزح الفلاحون للمدن حسب الإحصاء السكاني الأخير، فتم تسجيل 80% من السكان يقيمون في المدن، أي أن 20% هم الذين يسكنون الأرياف ولا يعني أن أغلبيتهم يمارسون الفلاحة، فأين يا ترى ذهبت 40 ألف مليار التي قدمت كمساعدات للفلاحة والفلاحين خلال السنوات الأخيرة؟
ترى هل سيكون في جعبة هذا الوزير الفاشل ما يقدمه إلى قطاع الصحة المريض والعليل الذي ذهب إليه؟
لقد خلف الوزير عمار تو الذي هو أيضا ترك واقعا مزريا في القطاع جعله كلما أحس بأعراض الزكام يهرب لباريس للعلاج ولا يثق في قطاع يسيره ويشرف عليه بنفسه، طبعا الوزير هذا كافأه بوتفليقة وحوله لقطاع النقل الذي لا يختلف واقعه عما عليه وزارة الصحة أو الفلاحة، حتى صار وكرا لمافيا تسترزق من أرواح الجزائريين، فبدل أن يقال عمار تو ويقدم للمحاكمة لمعرفة خيوط الفضائح التي تضرب قطاع استيراد الأدوية – مثلا – والذي يسيطر عليه الجنرالات طبعا بينهم أمال العماري بنت الجنرال الراحل "إسماعين" الذي صورته وسائل الإعلام من قبل بـ "الزاهد" رقم واحد في الجزائر وربما في العالم، ذهب إلى قطاع النقل وفضائح الميترو لا تزال تتململ في الظل…
ترى من المسؤول عن تجريب أدوية على مرضى السرطان بمركز بيير وماري كيري، وهي أدوية غير مجربة ولم تمر على الجمارك ولا المخبر الوطني لمراقبة الأدوية ولم تسجل حتى في الصيدلية المركزية للمستشفيات؟
لو أردنا أن نتحدث عن فضائح الوزير جمال ولد عباس الذي رقيت وزارته وانتفخت حقيبته بالرغم مما كانت عليه هذه الوزارة من البؤس والنهب والفساد، كذلك الوزير بن بوزيد وقطاعه المشوب بكل الفضائح، أو الوزير زرهوني أو غيرهم ما كفانا هذا المقام، وللأسف لم يشملهم لا التعديل ولا التغيير بالرغم من الأسى الشعبي المتنامي يوميا على النظام برمته، وظهر من خلال المظاهرات التي ضربت وهران وبريان والشلف وتبسة وقسنطينة وتيارت وورقلة… الخ، وسوف تكبر يوما بعد يوم مادام هذا النظام لا يتذكر الشعب إلا في مواسم الانتخابات فقط، ولقد كانت فرصة من ذهب للرئيس بوتفليقة – على الأقل – لو أقدم على إقالة رئيس الحكومة ومنه إقالة طاقمه، وتعيين وجوه جديدة لم تتلطخ في الدم الجزائري ولا هي محل اتهام في كثير من الفضائح، ولكن على ما يبدو أن الرجل عينه على العهدة الثالثة مهما كان الثمن، ولا يستطيع تجاوز هؤلاء لأنهم يسيطرون على الأحزاب التي توصف بالكبرى بالرغم من أنه لا شعبية لهم، ورصيدهم لم يتجاوز مليون ونصف صوت في تشريعيات 17 مايو 2007، نقول ذلك بالرغم من يقيننا أن الفساد والإفلاس مس النظام كاملا ولا يختصر في حكومة بلخادم أو أويحيى أو حتى لو جيء بأنزه رجل في الجزائر، إن وجد طبعا في ظل انقلاب معايير النزاهة والخلق والثقة.
قد لا نلوم بوتفليقة في شيء واحد أنه يكون قد فتش عن رجل واحد نزيه ممن هم حوله، يأتي به لقيادة الحكومة وتطبيق ما يسمى برنامجه وربما لم يجد سوى حميد بصالح وزيرا للبريد وتكنولوجيات الإعلام والإتصال، فترك الوجوه نفسها تعبث بمستقبل البلد بلا حسيب ولا رقيب، وإن كان هذا الذي حدث فسنلوم حد السخط بوتفليقة إن بقي متشبثا بحكم يعلم علم اليقين بمرضه مرضا لا يرجى منه الشفاء أبدا… فهل هذه هي الحقيقة؟
إذن جاءت حكومة أويحيى من سرداب نادي الصنوبر او المنطقة الخضراء الجزائرية ليواصل مهمته في إنجاح بقاء بوتفليقة في قصر المرادية وبأي وسيلة كانت، ثم تعود بنا القاطرة من جديد إلى الوراء ونجد أنفسنا على أعتاب 1999 ولكن بخزينة تسيل اللعاب، وان كانت قراءة أخرى تذهب إلى حد وجود أطراف تريد إشعال فتيل المظاهرات والحرق بالشوارع ولا يوجد مثل أويحيى يتقن فن إشعالها وهو الذي أحرق السجون لما كان وزيرا للعدل، وهو ما يسهل لهم نهب المال العام وخاصة عائدات النفط الخيالية التي فاقت 130 مليار دولار، ويكفي ما يروج له من إنجازات وخاصة من طرف أكبر بوق في البلاد الممثل في التلفزيون، والحقيقة عكس ذلك تماما وما يقال هو كذب واحتيال ثبت للعيان ولا يحتاج إلى تزويق أو تمجيد…
السؤال الذي يبقى معلقا:
ماذا أراد الرئيس بوتفليقة من إعادة أحمد أويحيى إلى قصر الحكومة وهو الذي أقاله يوما لفشله في تسيير الشأن العام؟ ما هي حسابات الرئيس في ذلك والتي لا يحق للرأي العام معرفتها وهو يضع عنقه تحت شفرة مسؤول ينفذ المهام القذرة؟ ومن يقف وراء بقاء هذا الرجل صامدا تلجأ له سرايا الحكم في الأوقات الحاسمة من عمر النظام المريض؟ الإجابة نلمسها بلا شك خلال أيام فقط لما يعلن تعديل الدستور والانتخابات الرئاسية القادمة على الأبواب.
أنور مالك
24 جوان 2008