على كل ليس مجالنا التفصيل في حيثيات المجازر ولا نظرية "من يقتل من؟" التي جعلت مطلب تشكيل لجنة حقوقية على الأقل تصعيدي وضع النظام في موقف لا يحسد عليه، ونحن بصدد إعداد ملف حول هذه النظرية ومخلفاتها وتداعياتها وأسرارها مستقبلا، لكن وجدنا من الضروري التعريج عليها حتى نصل لصلب ما نحن بصدد الحديث عنه، والمتعلق باللجنة الأممية المشكلة أخيرا من طرف الأمم المتحدة للتحقيق في التفجيرات التي مست بعثتها…
إن إقدام الأمم المتحدة على هذا القرار له جذوره وهي تلك التي أوردناها في إشارات عابرة سابقا، من أن السلطة متمثلة في أجهزتها الأمنية المختلفة لها الدور البارز في كل ما يحدث من عنف في البلد، وطبعا زاد تلك الشكوك يقينا تصريحات وزير الداخلية الجزائري نورالدين يزيد زرهوني عقب التفجيرات العنيفة التي ضربت المجلس الدستوري والهيئة الأممية، من أن مصالحه كانت على "علم مسبق" بما حدث وهو ما أسال الحبر وتلقفته التأويلات المتناقضة، لقد جعل الإحتمالات المختلفة تضرب يمينا وشمالا، فبينهم من ذهب إلى أن مصالح الأمن قصرت كثيرا بالرغم من علمها المسبق في تفادي العملية وإحباطها وهو ما يدين زرهوني وكذلك المدير العام للأمن العقيد علي تونسي، وبينهم من ذهب إلى حد إتهام السلطة بالتورط في ذلك، حيث أرادت أن تحدث المجزرة لأجل أطماع سياسية تتعلق بالعهدة الثالثة والتعديل الدستوري لأجل بقاء الرئيس بوتفليقة في الحكم، وهو ما يروج له عبر الأرصفة خاصة… آخر ذهب إلى حد اتهام الوزير زرهوني بالخبل وأنه من الصدمة صار يهرف بما لا يعرف، آخر برر أن الوزير لا يعرف الحديث باللغة العربية لأن تكوينة فرنسي، فقد خانته الجمل في تركيبها جيدا حتى حمل تصريحه على غير ما أراد توصيله الوزير… لكن ما يسمى "تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" أكد في بيان له مثير للريبة من أن مصالح الأمن عرفت بما يخطط للمجلس الدستوري والهيئة الأممية من خلال هاتف نقال المكنى سفيان فصيلة أبو حيدرة واسمه الحقيقي زهير حراك وهو "أمير العاصمة" ومسئول خلية الإنتحاريين في تنظيم درودكال، والذي قضت عليه مصالح الأمن في 06 أكتوبر 2007 بين بوغني وذراع الميزان، ومن دون أن يوضح البيان الكيفية التي عرفت بها، حتى خيل للبعض أنها مراقبة تصنت ليس إلا، لكن بعدها وفي 07 جانفي الجاري صرح مصدر أمني لم يكشف عن هويته ليومية "الجزائر نيوز" أن الأمر يتمثل في صور ثابتة للمقرات المستهدفة في الهاتف النقال الذي عثر عليه مع سفيان فصيلة لما قتل…
التضارب وعدم الوضوح الظاهر للعيان حول معرفة مصالح الأمن للعملية قبل حدوثها، جعل الشكوك تحوم كثيرا ويتحمل مسئوليتها الوزير زرهوني، الذي تعامل مع الموضوع بطريقة دأب عليها النظام الجزائري حيث تجده يتعامل بلا شفافية يشوب التعتيم المتعمد كل ما يهم أمر الجزائريين، وبلغة الألغاز وكأن العالم كله يحمل عقله ويفكر بتفكيره، وإن كان زرهوني معروف بشطحاته المختلفة وسقطاته التي لا تنتهي، فهو الذي أشعل فتنة كبرى في بلاد القبائل لما إتهم الضحية قرماح بأنه تلميذ كسول وسيء المستوى، غير أنه ثبت في ما بعد عكس ما روج له الوزير، وغيرها من التصريحات التي تؤكد إما جهله الفاضح بما يحدث في قطاعه أو أن الرجل به مس من التخلف الذهني والفكري والدراسي، وهو حال أغلب المسئولين العرب المتخرجين من الثكنات العسكرية وبلا مستويات تذكر… صحيح أنه وزير لا يعرف فن التعامل مع الصحافة أو إدارة الندوات ويكفي ما جرى في الندوة الأخيرة التي أعلن فيها نتائج الإنتخابات المحلية، حيث ظهر في صورة لا تشرف أبدا النظام الجزائري، فالرجل لا يفهم أسئلة الصحفيين ولا يسمع ولا يدرك ما يريده السائل، بل أكثر من ذلك يتعامل في أجوبته مع صحفيين يعملون بكبرى القنوات الفضائية كأنه يتعامل مع شرطي مرور لا يعرف إلا الصفارة أو الإشارة بالتوقيف، أو ربما يتعامل مع مدمنين معتقلين في أحد مخافر قطاعه… لكن هذا كله لا يبرر أبدا ما حدث، فزلة لسان من طرف وزير للأسف هو وزير الداخلية قد لا تمر بسهولة أبدا، فالهيئة الأممية لا تراه كما تراه الرئاسة أو الحكومة التي تلتمس له مليون عذر، فهو عضو لطاقم حكومة يحمل رتبة وزير دولة تميزه عن زملائه ويدير حقيبة ذات حساسية مفرطة، وكل كلمة تلفظ بها دخلت للمخابر وقرئت بين سطورها من طرف محترفين يتقنون فن الطبخ الصحفي والسياسي والدبلوماسي… نعم… لقد أدرك يزيد زرهوني أن تصريحاته هي التي دفعت الأمم المتحدة إلى هذا القرار والذي لن تستطيع الجزائر رفضه بسيادة كما يدعى، فذلك قد يفتح عليها أشياء أخرى لا تزال في أرشيف الهيئة الأممية، كالمجازر والمفقودين والتعذيب والخطف والقتل خارج أطر القانون والسجون السرية… الخ، فلقد راح يصرح هذا الوزير تحت قبة البرلمان بما يبرر به فشل مصالحه في الحفاظ على أرواح الأبرياء، وأعطى مثالا لا مكان له في الشأن الجزائري والمتمثل في أحداث 11 من سبتمبر 2001 والتي غيرت العالم وقلبته رأسا على عقب، فالوزير جعل من أن علم مصالحه المسبق ليس دليلا على تقصير مصالح الأمن، فهم علموا بما سيحدث من تفجيرات ولكن لا علم لهم بالتاريخ حتى يتسنى لهم إفشال العمليات، وهنا نجد أنفسنا مضطرين لمعاتبة تنظيم درودكال الذي كان من المفروض أن ينشر بيانا قبل الموعد ويعلن فيه التاريخ والساعة بالضبط، حتى تستطيع مصالح زرهوني النجاح في تحمل مسئوليتها… إنه تفكير عبثي من ناحيته السياسية ومن الناحية الأمنية وحتى من الناحية المنطقية، وخاصة المقارنة العجيبة من ان مصالح الأمن كانت تعلم بالتفجيرات كما كانت تعلم مصالح الإستخبارات الأمريكية بالتفجيرات التي نسفت برجي نيويورك، وهنا يكشف هذا الوزير "العبقري" شيئا مهما حول 11 سبتمبر، ووجب أن يؤخذ بعين الإعتبار لدى لجنة التحقيق بالكونغرس لتراجع الكثير من أوراقها وإن كانت قد وجهت أصابع الإدانة لمصالح أمنها في كثير من المحطات ومن طرف شخصيات أمنية وفكرية وسياسية، ولم تنتظر الوزير زرهوني حتى يأتي بعد 5 سنوات بما قد يحمل تدخلا في شؤون أمريكا الداخلية… أمر عجيب أيضا أن الوزير زرهوني إستهزأ بطريقة غير دبلوماسية لا تليق أبدا به كوزير دولة ولا تليق بهيئة أممية عندما قال بسخرية كاملة أن أعضاء لجنة التحقيق إن أرادوا الذهاب إلى جبال سيد علي بوناب "على حدود ولايتي بومرداس وتيزي وزو" فستقوم مصالحه لنقلهم إليه، هذا بعدما غمز اللجنة بأنها لا تملك العصا السحرية للقضاء على ما يسمى بـ "الإرهاب"، وهو ما يؤكد أن الموقف الجزائري من اللجنة مضطربا للغاية، وفي هذا إشارة إلى أن اللجنة قادمة لا محالة للتحقيق في التفجيرات، أمر آخر لا يجب إهماله وهو إن كانت مصالح زرهوني تستطيع الذهاب لمعاقل القاعدة لأجل التوصيل فلماذا لا تذهب هي بدباباتها وطائراتها وصواريخها لأجل القضاء عليهم مادامت تعرف مكانهم بالتدقيق؟ !! وهل الحقيقة تظل غائبة في معاقل القاعدة أم ماذا؟
سبب آخر زاد من إصرار الهيئة الأممية على اللجنة وهو ما صرح به كمال درويش رئيس برنامج الأمم المتحدة الإنمائي من أن السلطات الجزائرية تجاهلت طلبا من المفوضية لممثليات المنظمة الدولية، حيث أن مسئول الأمن في الأمم المتحدة طلب من السلطات الجزائرية إجراءات أمنية خاصة بينها الحواجز على الطرق المجاورة لمكتب المفوضية، ولكن السلطات قابلت الطلب بالرفض المغلف بالتجاهل طبعا… فسلطات تعلم بالعملية وتتجاهل طلب التعزيز الأمني ولم تتحرك لأجل إبطال ذلك، فهو يعني لمن يحمل أدنى تفكير منطقي على تورط هذه السلطة في المجزرة، فإما أنها تريد العملية لحسابات سياسية وأمنية مخطط لها سريا وفي هذه الحالة يجب أن تحاسب ولا طريق سوى هذه اللجنة الأممية حتى تكون الإدانة شرعية ودولية، إحتمال آخر وهو أن السلطة تستهين بأرواح الناس والمدنيين والأبرياء وفي هذه الحالة وجب أن تجبر على الإستقالة في أقل الأضرار الممكنة، وبين هذا وذاك وجب أن نجدد فتح الملفات السوداء التي حدثت في الحرب الأهلية خاصة ما يتعلق بالمجازر والمفقودين والإغتيالات لشخصيات مهمة على غرار محمد بوضياف وعبد الحق بن حمودة وقاصدي مرباح وحردي وغيرهم من الوزراء والشخصيات السياسية والعسكرية والإعلامية والثقافية والفنية، التي ذهبت أرواحها هباء في ظل عنف أشعل فتيله نظام عسكري انقلابي غاشم…
أن يأتي الرد على لسان رئيس الحكومة عبدالعزيز بلخادم ولم يأت على لسان وزير الخارجية مراد مدلسي أو حتى بيان تصدره هذه الهيئة المخولة دبلوماسيا، هو في حد ذاته أمر مثير للغاية، فإن كان الوزير زرهوني لم يعلن رسميا موقف السلطات في تصريحاته الأخيرة بالبرلمان، حيث عزف على كل الأوتار بلا موقف صريح، ومسئول الإعلام في الخارجية أكد من خلال مصادر صحفية أن رئيس الحكومة عبر عن الموقف الرسمي الجزائري، إلا أن بلخادم رفض هذه اللجنة التي لم يستشر فيها الجانب الجزائري، وهو ما ظهر من مواقف الأحزاب التي هبت تدين هذه اللجنة في بيانات اغلبها ذات طابع حزبي ضيق النطاق تريد منه استغلال الموقف لصالح برنامج إنتخابي يسير على قدم وساق بينه الظاهر واغلبه خفي… هنا نضطر بالعودة إلى الوراء بعض الشيء ونتذكر موقف الرئيس بوتفليقة من تصريحات وزير المجاهدين محمد الشريف عباس، الذي تحدث عن الأصول اليهودية للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ودور اللوبي اليهودي في وصوله لقصر الإليزيه، وهو الموقف الذي أثار ضجة كبرى بفرنسا وكادت أن تعصف بزيارة ساركوزي للجزائر، وهو ما دفع بوتفليقة للإعتذار الرسمي جاعلا تصريحات وزير المجاهدين شخصية ولا تلزم الدولة في شيء، لأن السياسة الخارجية من صلاحيات الرئيس بوتفليقة لوحده وليس من صلاحيات وزير المجاهدين ولا حتى المسمى تجاوزا وزير الخارجية… السؤال المتبادر للذهن في ظل هذه السفسطة التي لا نجدها إلا في الجزائر: أين موقف بوتفليقة من لجنة بن كي مون مادام هو صاحب الشأن في السياسة الخارجية؟ !!
إذا بناء على ذلك نرى أن موقف بلخادم هو شخصي أيضا وربما حزبي بصفته الأمين العام لحزب جبهة التحرير ولا يلزم الدولة في شيء، بالرغم من أنه تحدث بصفته رئيسا للحكومة، وربما سيعاتب عليه أو يعجل برحيله من على رأس الحكومة في تعديل مرتقب وطبعا لحسابات أخرى مجهولة ولا تكشف للشعب المغلوب على أمره، مما يجعلنا نذهب إلى رؤية أخرى أشد وضوحا وتتمثل في أن شعارات السيادة والتدخل الأجنبي في الشئون الداخلية التي حملت من قبل في ظل مطالبة الهيئات الحقوقية للتحقيق في العنف الذي يضرب البلد حينها، هي الآن في إجازة مفتوحة وما يقال سوى ضجة هي في الأصل إنتخابية يراد منها تجنيد الشعب بشعارات طارئة تستغل في تعديل دستوري مرتقب ليس إلا…
نحن نعرف أن هذه اللجنة المشكلة هي في الأصل وسيلة ضغط دولية تصب في منحى أنصار التواجد الأجنبي في إفريقيا، وفي شكل القاعدة العسكرية أفريكوم الأمريكية التي لا تزال تبحث عن فضاء لها في المغرب العربي، لأنه لو كان السبب هو إستهداف الهيئة الأممية فهي لم تشكل لجنة للتحقيق في مقتل ممثلها الدبلوماسي البرازيلي سيرجيو دي ميلو بالعراق من قبل، وإن كان الأمر يتعلق بقتل أبرياء فهي لم تشكل لجنة للتحقيق في مقتل حوالي 200 ألف قتيل بالجزائر خلال العشرية التي مضت، وإن كان الأمر يتعلق بمواقف ومبادئ دأبت عليها الهيئة الأممية فهي التي شكلت محكمة دولية في مقتل الحريري بلبنان وتجاهلت إغتيال بوتو في باكستان، بالرغم من انهما بدرجة رئيس حكومة سابق، وفي الجزائر نفسها أغتيل محمد بوضياف في ظروف غامضة وهو يحمل رتبة تعادل رئيس دولة ولم تتحرك هذه الهيئة، بالرغم من ان القاتل المفترض بومعرافي لمبارك عسكري حوكم مدنيا، ونجد علي بن حاج وعباسي مدني مدنيان حوكما عسكريا، ولا يزال بومعرافي مستأنفا للحكم القاضي بإعدامه منذ أكثر من عشر سنوات، وهي سابقة قضائية خطيرة تتنافى وكل المعاهدات الدولية التي وقعت عليها الجزائر…
على كل الحديث في الموضوع طويل ويحتاج إلى متسع أكثر مما هو متاح هنا، لكننا مجبرون في الختام على الإشارة إلى أن لجنة بان كي مون لن تصل لشيء في ظل مغامرات البوكيمون الجزائري الذي أتقن على مدار حرب أهلية مدمرة كل فنون السياسة المتعفنة والنتنة، فهي ستدخل الجزائر وستحقق وستعلن نتائجها والتي ستكون بلا شك في صالح النظام المتهم منذ زمن بعيد في كثير من القضايا، وهو ما يعطيه بلا شك مصداقية يجعلها حصان طروادة للمضي نحو عهد الدستور الجديد، وطي المفلفات السوداء التي لا تزال عالقة في رقبته، وما الرفض الذي يتبجح به بلخادم إلا جعجعة في طحين لا تقدم ولا تؤخر شيئا ستوجد لها المبررات السياسية والإنتخابية من بعد… والأيام سجال بين هذا وذاك.
أنور مالك
18 يناير 2008