الانحطاط الفكري لأي أمة على وجه الأرض في أي زمان ومكان هو مقدمة فعلية للانحطاط الحضاري الشامل على صُعد عدة، وعلى أوسع المستويات.
والحضارة بكل ما تعنيه الكلمة من معان ومضامين إذا ما أردنا تحديد اتجاهاتها، ومنطلقاتها الأساسية، نجد أنها ببساطة لا تتأسس على أرضية رخوة من الخراب الثقافي، والأخلاقي، أو تنطلق من الرماد السياسي الذي يتخلف من معارك السياسيين ومن شابههم في ذلك. وإنما تتأسس الحضارة وتنطلق من مبدأين اثنين هما المبدأ الأخلاقي والمبدأ الجمالي، ولهذا كانت الأمم التي عمّرت حضاراتها قرونا طويلة على وجه الأرض أول ما اعتنت به، وحرصت عليه، الأخلاق، والجمال. ثم تلا ذلك العلم والمعرفة.
لأن الأخلاق مجلبة للسكينة، محفزة للعقل على التفكير، أما الجمال فهو الحديقة التي منها ينتشر العطر الفواح، وتتلاقى فيها أصناف الورود، والزهر، وجمال الخضرة، وفي ظل هذين المبدأين المذكورين آنفا ينتشر العلم وتسود المعرفة، وتطول الحضارة.
ومن يقرأ التاريخ الإسلامي بإمكانه الوصول إلى نقطة واحدة مؤداها، أن الحضارة الإسلامية مادامت ثلاثة عشر قرنا ونيّف إلا بجناحي الأخلاق والجمال، ويكفي المسلمين الأوائل فخرا أنهم نشروا في العالم تعاليم الإسلام بفضل أخلاقهم العالية، كما علموا الغرب على وجه الخصوص الأبجديات الأولى للاستحمام، بعد أن كانت أجسامهم تخشى الماء من شدة القذارة، أما عن الجمال فالدلائل شاهدة على أن العالم لم يعرف حضارة اعتنت بالجمال وجسدته على أرض الواقع كالحضارة الإسلامية، ولم يعرف وجه الكرة الأرضية شعوبا عشقت الجمال وافتتنت به كالمسلمين الأوائل.
رواد الحضارة الحالية اعتنوا هم أيضا بعامل الجمال لكن دون الاعتناء بعامل الأخلاق وفق الرؤية الإسلامية – يجب التنويه هنا إلى أن الأخلاق نوعان أخلاق عامة التي يشترك فيها العالم كله كالصدق مثلا وحب العمل، وأخلاق خاصة تخص كل مجتمع بعينه مثل الحجاب الإسلامي عندنا نحن المسلمين – وقد ساعدهم في ذلك التطور التكنولوجي الرهيب الذي لم تشهده صراحة حقبة حضارية في التاريخ البشري، فضلا عن اهتمامهم بالعلم وتطبيقه والاستفادة من تطبيقاته على أرض الواقع.
ورغم أنهم أولوا عناية كبيرة لعامل الجمال من زاويتهم الخاصة، بيد أنهم شوهوا بعض ما قد يدخل في عنصر الجمال، على سبيل المثال تصويرهم للمرأة عارية وهذا حسبهم جمال وفن، لكن في ثقافتنا ليس إلا عهرا وقلة حياء، بل إن ثقافتنا الإسلامية تقول وتؤكد على أن الجمال الحقيقي هو في التغطية وليس في التعرية ولهذا نجد جل العلماء يؤكدون على أن الإنسان عندما بدأ يتحضر بدأ يتغطى، ودليلهم أن شعوب ما قبل التاريخ كانوا أغلبية عارية، لكنهم يحاولون كلما سنحت لهم الفرصة أن يتغطوا.
والشعوب على مر العصور بعد أن تطور العلم وجدوا أنفسهم تلقائيا يتغطون، لأن ذلك يدخل ضمن صميم الفطرة التي لا يستطيع أن يتنكر لها أي إنسان على وجه الأرض.
إذن فكل تعرية سواء كانت امرأة أو رجلا هي شكل من أشكال التخلف الحضاري الممقوت، وأسوق هنا ما كنت قد سمعته من أحد العلماء الكبار، أن الدكتور أحمد القاضي جراح القلب المشهور بالولايات المتحدة الأمريكية، توصل في بحث له عن المرأة التي ترتدي الحجاب والمرأة العارية المتبرجة، أن المرأة المتحجبة لا تصاب بأي مرض جلدي عكس المرأة المتبرجة التي تصاب بمرض سرطان الجلد الأسود الذي يمس كل الأطراف العارية. وأحسب أن ما توصل إليه الدكتور أحمد القاضي يتطابق مع ما توصل إليه ألكسيس كاريل في بحثه" الإنسان ذلك المجهول" الذي يؤكد ويجزم أن خلايا الرجل وخلايا المرأة لا تتشابه أبدا، وحقا لو كانت خلايا الرجل والمرأة تتشابه لأمر الله أيضا الرجال بأن يرتدوا الحجاب!
الغربيون وكما أوردنا سلفا اهتمامهم بالجمال الزائد عن حده، يعتبرون كما تقول ثقافتهم الغربية، أن العري هو عين الجمال، فلهذا السبب تجدهم ينجرفون وراء تخليق الموضات التي لا تعري ولا تغطي، لكن في مضمونها وأهدافها هذه الموضات هي تعرية مع سبق الإصرار والترصد، وحدث ولا حرج عن الموضات التي تقتنيها النسوة، تلك الموضات الموسومة بالخلاعة وتشجيع الجنس.
وصراحة لم يثرني موضوع موضات الألبسة التي تركز على عري المرأة بقدر ما أثارني موضوع السراويل الممزقة التي تملأ عالمنا العربي، ولا يهمني في واقع الأمر أيلبسها الآخرون أم لا يلبسونها بقدر ما يهمني الشباب العربي المسلم، الذي تدنى إلى مستوى أصبح يقتني سروالا ممزقا.
هذه السراويل الممزقة التي تملأ واجهات المحلات وبأغلى الأسعار، تذكرني بأحوالنا ونحن أطفال نلعب مع أقراننا الصبية، لقد كنا نستحي أن نلبس سروالا ممزقا، كما نتألم لرؤية أطفال في سننا يلبسون سراويل ممزقة، وما أكثر السراويل الممزقة التي كان أقراني يلبسونها. لقد تفاديت حرج لبس السراويل الممزقة لشيء واحد فقط كون والدي كان مهاجرا في فرنسا، وكانت ألبسة طفولتي تأتيني من فرنسا، لأنني كنت الابن البكر الوحيد ساعتئذ.
ولا أذكر أن سروالي تمزق إلا مرة واحدة في الملعب، عندما كنت أحاول مع أترابي تقليد رابح ماجر في تسجيل هدفه في مرمى الألمان بكأس العالم بإسبانيا عام 1982، وقد دفعت الثمن بعد ذلك في حضرة والدتي بصفعات لقاء استهتاري بلباس جديد في لعبة كرة القدم.
لقد كنا رغم حداثة سننا، وهذا ربما كان من الموضات أيضا، نعاف الألبسة المهترئة فضلا عن الممزقة، فإذا بها اليوم تصبح – ويا سبحان الله – موضة تباع بأغلى الأثمان.
قد يعتبره البعض حضارة، وهذا هو العجب العجاب، وقد يعتبره البعض حالة من حالات افتقاد للذوق الجمالي الذي تتقزز منه النفس البشرية، والإنسان إذا ما فقد حاسة الشم تساوت لديه الورود الطبيعية والورود الاصطناعية، ونفس الأمر عندما يفقد حاسة السمع فقد تبدو له كل الأصوات واحدة ولو كانت موسيقى جميلة.
يقول مالك بن نبي: "ولعل من الواضح لكل إنسان أننا أصبحنا اليوم نفقد ذوق الجمال، ولو أنه كان موجودًا في ثقافتنا، إذن لسخرناه لحل مشكلات جزئية، تكون في مجموعها جانبًا من حياة الإنسان".
وعندما أقرأ مثل هذه العبارات لصاحب كتاب" شروط النهضة" وأمعن النظر في تلك السراويل الممزقة التي انتشرت بشكل كبير ورهيب في أوساط شبابنا هذه الأيام، أكاد أجزم أن الانحطاط لم يمس فقط الجانب الفكري، لأن ذلك مرده الفكر والتفكير في قضايا قد تكون كبيرة، ولكن مس حتى رؤيتنا للأشياء وفق طبيعتها الحقيقية.
وقد أشبه من يرضى أن يلبس السراويل الممزقة، ويخرج بها أمام الناس، بإنسان محترم له مكانة مرموقة في المجتمع، وليكن مدير جامعة كبيرة على سبيل المثال، لكن هذا المدير يحب الجلوس على قارعة الطريق يأكل من قشور البصل، أو ما شابه ذلك من الخضر!
فكيف هي نظرة المارة إلى هذا المدير الجامعي، وكيف هو احترام الطلبة له، ألا يلعن بين الروحة والإياب، ألا يبصق عليه من فرط التناقض المفرط الذي يحياه.
لقد حاولت أن أفهم سلوك هؤلاء الشباب الذي يرضى أن يقتني مثل هذه السراويل التي لو أعطيتها لأي مجنون على وجه الأرض لشتمك واعتبرك تتهكم به، فضلا عن أن يحاول ضربك ما استطاع إلى ذلك سبيلا. لكن لم أجد تفسيرا لذلك سوى أن الذوق الجمالي العام كما أشرنا سابقا قد أصبح في الحضيض، وليس تدني الجمال فقط هو في لبس هذه السراويل الممزقة، ولكن للأسف الشديد أصبح في كل شيء فما رأيكم في أغنية "أبوس الواوا"، "أحبك يا حمار"، ما رأيكم في الفوضى التي تملأ الشوارع العربية من المحيط إلى الخليج، ما رأيكم في الأوساخ التي تملأ العواصم العربية.
الغربيون إن سوّقوا للشباب العربي المسلم هذه السراويل الممزقة، فلأنهم اقتنعوا بأنهم شبعوا من لبس السراويل المتقنة بأناقة لا نظير لها، واقتنعوا بأنهم قادرون على بيع منتجاتهم الخردة لمن هم تفكيرهم خردة أيضا.
عندما أرى امرأة عربية غزا الشيب رأسها، لكن تتحايل عليه بشيء من الصباغ، تلبس سروالا ممزقا من ركبتها، وتضغطه عند رجليها الشبيهتين بأرجل الماعز، يستفزني صراحة ذلك المنظر وأنا أعيش بين ظهراني مجتمع مسلم له من التاريخ والإرث الحضاري ما يقدر أن يكون قائدا لا مقودا وبسراويل حقيقية يلبسها الرجال وليس الذكور، وفي نفس الآن أتذكر ما قاله مالك بن نبي"لا يقاس غنى المجتمع بكمية ما يملك من أشياء بل بمقدار ما فيه من أفكار، ولقد يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة كأن يحدث فيضان أو تقع حرب فتمحو منه عالم الأشياء محواً كاملاً أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة على عالم الأفكار وهنا يكون الخراب ماحقاً. أما إذا استطاع أن ينقذ أفكاره فإنه يكون قد أنقذ كل شيء، إذ أنه يستطيع أن يُعيد بناء عالم الأشياء"، فهل فهمتم أن مشكلتنا هي في أفكارنا وإلا ما قبل عقل أن يلبس سروالا ممزقا يعد في قانون العاقلين مكانه المزبلة.
عبد الباقي صلاي
14 نوفمبر 2007
المصدر: http://alhaqaeq.net/default.asp?rqid=200&secid=5&art=81553