صحيح أن العبء هو مناصفة و يقع على عاتق الجميع، وأن الله سوف يحاسب كل إنسان على ما قدم من عمل في حياته بغض النظر عن سلم المسؤولية، لكن يجب التأكيد على أن الشعوب لايمكنها أن تنقاد نحو ساحة الإبداع دون دافع خارجي، وحافز داخلي، فالسيارة لا تستطيع السير في الطريق إذا لم يكن هناك محرك يدفعها نحو الأمام لتشق طريقها.فكذلك فإن المسؤول المباشر على هذا الانحطاط وعلى هذه الردة هي الحكومات العربية التي لم تعد منذ أكثر من خمسين سنة تدرك ما لها وما عليها، وما يجب ان تفعله كي تجنب الخطر المحدق الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من كل شبر من الأراضي العربية.
وأحيانا الشعوب العربية لا يقع عليها اللوم بعد الذي تراه من هذه الحكومات، فكما يقال المرء على دين خليله، وبما أن الحكومات العربية لم تفعل شيئا نظير أن ترى مساعدة من هذه الشعوب التي طلقت الدنيا بالثلاث، وانخرطت في عالم مثالي خاص بها، فإنه من المنطقي أن ينفرط العقد، وتتشتت الرؤى وتتمزق الأوصال وتضيع البوصلة، وتكون الشعوب في واد والحكومات في واد آخر.وينطبق ذلك على الوالد الذي لا يرعى أولاده بالتربية الحسنة، فمن المنطقي جدا أن يلقى بعد سنوات قليلة عقوقا بالآباء من قبل أولئك الأولاد، لأن النتائج سلبية كانت أم إيجابية هي دائما من إفرازات المقدمات.
لكن يجب الإقرار في الوقت ذاته أن الحكومات العربية مهما تنازلت عن دورها المنوط بها، فهذا لا يعني أن ينحرف الجميع عن المسار، فمدام الوعي موجودا فلا بد أن يكون هناك ضمير أخلاقي يحرص ما تبقى من واقع الحياة العربية ، وإذا انحرفت الحكومات وتخلت عن واجباتها، فهذا ليس مسوغا البتة أن تتخلى الشعوب عن دورها في إكمال الحياة على أحسن وجه.
عندما أنظر إلى واقعنا وأحاول مقارنته بواقع غيرنا من دول الاستكبار التي تستهوي حكامنا الميامين الصناديد، أصل إلى نتيجة مفادها أن إشكالية التغيير في العالم العربي، ومن وراء هذا الإخصاء الشامل الذي مس كل فرد من بني قومنا، أجد حله بيد الفرد نفسه، لأن الشعوب العربية نفسها لم تعد تهتم كثيرا بما يجري حولها، كما لم تعد تهتم بمستقبلها رغم علمها أن المستقبل سيكون أشد ظلاما بما أن الحاضر نفسه مظلما، زد على ذلك أن هناك مساحات شاسعة مسموح بها لم يعد الإنسان العربي يخوضها.
وخذ مثلا الفن كالغناء والسينما والمسرح والأدب الذي شهد هبوطا حادا في العشرية الماضية، وزاده الذوق العام الذي أضحى في حدود الصفر إذا لم يكن تحت الصفر. فحتى هذا المجال لم يعد الفرد العربي قادرا على ولوجه رغم أن الحكومات العربية لا تقف في وجه من يغني أو يرقص بل تشجع مثل هذه الأمور، ورغم كل التشجيع الذي يلقاه من يسمي نفسه مطربا أو راقصة، بيد أن الرداءة هي المسيطرة، فبالكاد تستطيع أن تجد مطربا أو فنانا له من المواصفات المطلوبة.
وعندما تجد من يسوق لأغنية “أبوس الواوا” و”أحبك يا حمار”، وتجد في المقابل من يتلقف هذا النمط من الأغاني ويتلذذ حين سماعها نفهم لماذا الوضع العربي العام على هذه الحال. هناك من يقول إن الشعوب العربية تحاول من خلال تتبعها للأغاني الهابطة الهروب من واقعها المرير، وكثير من الناس من إذا حدثتهم عن السياسة ووجوب التغيير يتقززون ويعدونك من الشواذ الذين يخرفون، لأن الأمر حسبهم لا يعدو أن يكون محاولة فاشلة، بعد أن تمكنت الحكومات العربية من استحكام قبضتها على كل شاردة وواردة داخل المجتمع العربي.
وقد قال لي أحد المثقفين أن التغيير الذي ننشده نحن -الصحفيين والإعلاميين – لا يجدي نفعا لقاء ما تقوم به الحكومات من تيئيس ممنهج و محسوب بدقة، ورغم إيماني بأن ما يقوله هو جزء من الصواب، لكن هذا المثقف خالف القاعدة الربانية الخالدة التي تؤكد على أن لا تغيير في المحيط الخارجي دونما تغيير على المستوى النفسي.
وليس فقط هذا المثقف بل جحافل من المثقفين لم يعودوا مؤمنين بالتغيير عن طريق العمل والتعب والتوعية الحضارية، فكل ما هنالك أن التغيير الذي ينشدونه هو التغيير التلقائي الذي قد يحدث مع الزمن، ناسين أو متناسين أن التغيير التلقائي دائما يكون سلبيا.
ويستندون إلى ذلك حسب زعمهم أن الشعوب العربية اليوم تعيش حالة يأس وحالة تعب نفسي وعليه فإن أي تغيير نحو الأفضل بالطرق المعروفة هو مجرد مخض ماء. بكل تأكيد أن الشعوب العربية اليوم هي يائسة وناقمة، وتعيش وضعا لا تحسد عليه في شتى المجالات، لكن هذا لا يعطيها الحق أن تتمرد على الواقع، و تظل في سبات عميق، وترضى بما هو موجود. وصحيح أن الحكومات العربية لا تزال تمارس زرع الإحباط واليأس، وتحاول بكل ما تقدر على إخصاء وإقصاء الفحول من هذه الأمة، لكن هذا أبدا ما كان سببا في أن تترك الساحة فارغة تعربد فيها الحكومات الفاسدة بمفردها.
والخلاصة التي أردت أن أصلها إلى هذا المثقف الفاشل الذي أراد ضمي إلى زمرته الفاشلة، هو أن العمل المثمر لا يهم من أي مصدر كان ويكون، ومما قلته له بعد أن قال لي أن الكلمة لم يعد لها في هذا الزمن الأغبر مكان يذكر، وبعد أن أوضحت له أن الكلمة هي فعليا تخيف الحكومات العربية وغير العربية، ولو كان غير ذلك لتوقفت عن محاربة الصحفيين والإعلاميين الذين يصدعون بالحق، وذكرت له العلماء والكتاب الذين سجنوا بسبب الكلمة التي يلومني عليها هذا الفاشل، لقد قلت له إن الحكومات العربية نجحت نسبيا في زرع اليأس والإحباط وتفتيت القدرات الخيرة وأنت واحد منهم، لكنها لم تنجح ولن تنجح في أن نحبها ونواليها ونصفق لما تروج له من سياسة رعناء بكل المقاييس.
عبدالباقي صلاي
جريدة الشرق
25 يوليو 2007
المصدر
http://www.al-sharq.com/DisplayArticle.aspx?xf=2007,July,article_20070725_5&id=columnist&sid=abdulbakisalae