وبدلا من الانسياق نحو توظيف الإمكانات المتاحة من أجل بناء الفرد كعنصر فاعل في الدورة الحضارية للمجتمع،كان الانسياق الأعمى نحو تغليف الأخطاء بالأخطاء،وإحلال الفشل محل النجاح،والتعامي عن الفجوات الحاصلة داخل المجتمع،زد على ذلك الاهتمام المفرط بتحسين صورة النظام في الخارج كما في الداخل على حساب المجتمع برمته. بربكم هل توجد في الوقت الحاضر سياسة عامة مدروسة تهتم بالفرد الجزائري ضمن منظومة قيمية أصيلة،حتى نتمكن من وضع حد لهذا الانهيار الشامل في الأخلاق وفي ما يتعلق بها من انهيار مجتمعي بائن،وحتى نوقف هذا السيل الإجرامي الجارف؟. إن العلماء يؤكدون على أن أي مجتمع مهما كانت ديانته ونحلته كي ينهض علميا ويشق طريقه نحو المجد والسؤدد عليه أن ينتظر خمس عشرة سنة كي يجني الثمار المرجوة،هذا في الجانب العلمي،أما في الجانب الأخلاقي فيجب أن تكون المدة ممتدة إلى نحو أربعين سنة. ولننظر إلى الفارق الكبير نسبيا هنا بين الأمرين أمر العلم وأمر الأخلاق،ولهذا السبب كانت النبوات تأتي تترى إلى الأمم لتعلم الناس الأخلاق والمبادئ السماوية الصحيحة،وما قاله عزوجل في الرسول محمد صلى الله عليه وسلم” وإنك لعلى خلق عظيم” دليل رباني آخر على أن إرسال النبي محمد عليه الصلاة والسلام هو من أجل تكملة لمكارم الأخلاق.
إن ما كان للأسف الشديد من قبل النظام الجزائري على مدار أكثر من أربعين سنة هو تحديث اللاوعي لمتطلبات الفرد الجزائري أخلاقيا،وقد وجد الفرد الجزائري نفسه حيال هذا اللاوعي يتيما يحاول من تلقاء نفسه أن يقترب بنفسه نحو الأخلاق ومكارمها،لكن هيهات أن يفلح مادام النظام نفسه يشجع ما من شأنه أن يزيد من منسوب العنف والجريمة في المجتمع بعلم أو بغير علم. أليس استيراد الخمور من موجبات تحويل العقل السليم إلى عقل يترنح ليجنح نحو العنف بتلقائية مفرطة، أليس الظلم الاجتماعي بأشكاله مولد للضغينة وللجريمة،أليس تزوير الانتخابات دافع قوي كي يشعر المرء بأن حقه مهضوم في اختيار ممثليه ما يجعله يفسر القانون من زاويته الخاصة بحكم تفسير السلطة نفسها للقانون بما يخدمها ويخدم مآربها السلطوية الضيقة. لقد استفقنا سلطة وشعبا على اتساع رقعة العنف في الجزائر من دون مقدمات تذكر، فبعد أن خرجنا بشكل نسبي من دوامة العنف الأعمى، وفوضى الهمجية الدموية، دخلنا في نفق آخر لا يقل ضراوة عما سبق. وكثير من المحللين ينظرون إلى ظاهرة الإجرام الجديدة على المجتمع الجزائري كإحدى إفرازات الواقع الذي لم يعرف يوما استقرارا على مستوى الجبهة الاجتماعية،بل هناك من يذهب إلى وصف هذه الظاهرة الإجرامية على أنها من مخلفات الأزمة الدموية والكبت الذي عرفه المجتمع الجزائري خلال عشرية الدم والدموع والبارود.
ولا يقتصر الإجرام حسب ما يتصور البعض على بسطاء الناس الذين لم تعد لديهم الجريمة هم أيضا–سواء جريمة السرقة أو جريمة القتل أو جريمة الترويج للمخدرات والحبوب المهلوسة- بالأمر الجلل بقدر ما أضحت هذه الجريمة بكل تفرعاتها من أبسط الأشياء،إذ أن الفرد لم يعد يجد عناء يذكر في أن يقتل إنسانا مثله من أجل هاتف نقال،أو من أجل فنجان قهوة،بل الإجرام في معناه الاصطلاحي أصبح مسألة الكبار الذين يتحكمون في كثير من القضايا المتعلقة بآفة الإجرام،ورذيلة التستر عليها،لأن الذي يستورد الخمور ليس ذاك الرجل البسيط الذي بالكاد يجد لقمة العيش،أو الشاب الذي يبحث عن منصب شغل يسترزق منه بمعية عائلته. وعندما أحاول فهم ظاهرة الإجرام التي من الواجب أن لا يسكت عنها في الوقت الحاضر،لا أجد لها تفسيرا سوى أن السلطة لا تريد التعامل مع هذه الظاهرة إلا بمنطق النعامة،وإلا كيف نفسر ما يحدث عند كل مناسبة عيد حيث يتم الإعفاء عن الآلاف من المجرمين بقرار رئاسي يدخل ضمن إطار ما يسمى” العفو بمناسبة العيد”. لأنه من غير المنطقي إطلاقا- ولو كان هذا من صلاحية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة- أن يتم العفو على من أدين في جرائم كثيرة،ليعود كرة أخرى إلى جريمة ربما أفظع من الأولى.
صحيح أن ما يقوم به الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من إصدار عفو في حق الكثيرين من المساجين في كل مناسبة عيد كأحد أشكال التسامح الذي نتمنى أن يسود كل ربوع الجزائر،لكن هذا لا يعني الإفراط في التسامح مع فصيلة مجرمة استمرأت الإجرام،واستمرأت ترويع الآمينن في الطريق العام أو داخل بيوتهم. سألني أحد العوام عن تنامي ظاهرة الإجرام والسبيل إلى الحد من انتشارها كالنار في الهشيم،فقلت له بأنها حقا ظاهرة لأنها غير مألوفة لدى مجتمعنا الجزائري المسلم المسالم،لكن السبيل إلى الحد منها يكون على عاتق السلطة بكل مؤسساتها،ولا يكفي الترقيع الذي تقوم بين الفينة والأخرى بتسخير قوات الأمن للوقوف حيال هذا الإجرام. ولو أننا لا نقلل من أهمية ما يقوم به رجال الأمن الساهرين على راحة المواطن لكن هذا غير كاف بالمرة بحكم ما تعرفه الظاهرة من ارتفاع في المنسوب بشكل مذهل، لأن المعالجة الجذرية للظاهرة لا تكون أبدا أمنية بقدر ما تكون بوسائل أخرى العلماء والخبراء أدرى وأعلم بها من السلطة. فهلا استشارت السلطة يوما المختصين والعلماء والخبراء في مثل هذه القضايا حتى نتمكن من تفكيك هذه القنبلة الملغومة التي توشك أن تفجر أركان المجتمع الجزائري من الأساس،وهلا وضعت برنامجا طموحا يكون مبنيا على تصور موضوعي بعيد كل البعد عن الشطحات السياسية والمناسبات الانتخابية المقيتة؟.
عندما تقر السلطة وعلى لسان رئيس الجمهورية نفسه بأننا نعيش حالة خطيرة جراء هذا الإجرام الذي أصبح معششا في الأزقة والطرقات يطارد ويتربص بالآمنين، فهذا يعني أن الظاهرة أصبحت في حكم العادة الواجب التعود منها بمحاربتها من الجذور كما حورب الإرهاب. وفي أحايين كثيرة تستبد بي الدهشة حينما أحاول مراجعة شريط الأحداث الإرهابية التي حدثت في الجزائر،لماذا لا تقوم السلطة قبالة هذه الحالات الإجرامية بنفس ما قامت به مع المسألة الإرهابية عندما جندت لها كل الإمكانات المتاحة،ولماذا هذا التماطل مع هذه المسألة على الرغم من أنها- أي السلطة- تتحدث في كل مناسبة وغير مناسبة عن الاستثمار الأجنبي؟. نعم نحن متيقنون من أن الاستثمار الأجنبي لن يتأثر بمثل هذه الحالات الإجرامية، لأن الظاهرة نفسها لا تتعلق بشكل مباشر بهذا الاستثمار بقدر ما تتعلق عضويا بحياة المواطن الجزائري الغلبان الذي يكابد الحياة من أجل قوت يومه،والسؤال المحوري: هل مس الإرهاب حاسي مسعود مدينة أكبر احتياطي بترولي في الجزائر في عز الأزمة الدموية،حتى يمس الإجرام الذي هو محصور فقط في زاوية مجتمعية،الاستثمار الأجنبي؟
7 أغسطس 2007
المصدر:
http://echoroukonline.com/modules.php?name=News&file=article&sid=9962