زمن المصابرة

بعد تعرّضه للمطاردة من قِبل مصالح وزير الداخلية الفرنسي شارل باسكوا، الذي باشر فور تنصيبه في أواخر مارس/آذار عام 1993 حملة اصطياد للجزائريين المعارضين للانقلاب، خلّفت العديد من الضحايا، من بينهم مرحّلي فولمبري، والمنفيين إلى بوركينا فاسو، اضطرّ مراد دهينة إلى مغادرة بلدة سانت-جوني الفرنسية التي كان يقيم فيها، ليلجأ إلى جنيف، وفي الوقت ذاته فقدَ وظيفته في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، الواقعة على الحدود الفرنسية السويسرية والخاضعة جزئيا للدولة الفرنسية. ومنذ تلك اللحظة، بات مراد دهينة وأفراد عائلته، الذين لم يحصلوا على وضعية اللاجئين السياسيين، يواجهون حياة صعبة غير مستقرة، استمرّت أكثر من عقد من الزمن [36].

وفضلًا عن هذه الصعوبات، تعرّض مراد دهينة لحملة تشهير من قِبل النظام الانقلابي ووسائل الإعلام التابعة له، في الجزائر وفي أوروبا. وكان من آثار حملة الدعاية المروّعة التي روّجها ونسّقها الجيش في خضم عمليات الإبادة الجماعية التي نفذها هذا النظام [37]، أن أُصيب أفراد المجتمع بالجمود، حيث شُلّت حركتهم بفعل الرعب الذي نفذ إلى نفوس قطاعات كبيرة من المجتمع. كما أنّ خوف المواطن على حياته، أو من التعرّض لحملة تشنيع وتجريم من قِبل وسائل الإعلام التابعة للانقلابيين، أو حرصه على المحافظة على ضروريات الحياة والموارد المالية لضمان إعالة أفراد عائلته، أو حسابه للمصلحة السياسية، قد يُشعر المواطن حينذاك بضرورة فكّ الارتباط مع كلّ ما له علاقة بالجبهة الإسلامية للإنقاذ. لكن موقف مراد دهينة كان خلاف ذلك، حيث آثر العمل وفق ما يمليه عليه ضميره، وبما يتّفق مع المبادئ التي تحدّد في اعتقاده ما هو حقّ وما هو باطل.

إنه قدر المعارضين الشامخين الذين يأبَون الخضوع، والذين يواجهون الصعاب ويتحمَلون المِحن وحملات الافتراء التي تنسجها الديكتاتوريات، فقد اتّهم مراد دهينة في البداية، في عام 1994، بتقديم الدعم اللوجستي، بل وحتى الأسلحة، إلى الجماعات المسلّحة في الجزائر، استنادًا إلى تقرير أحد أفراد الشرطة في جنيف. وأتضح لاحقًا أنّ الشرطيّ المعني كانت له اتصالات بعنصر من أجهزة الأمن الجزائرية يقيم في سويسرا، وكان العنصران قد أعدّا قائمة تشمل أسماء العشرات من المواطنين الجزائريين الذين يقيمون في سويسرا، الأمر الذي نتج عنه العديد من عمليّات القتل خارج القضاء في الجزائر.

وتمّ القبض على العميلين في ديسمبر/كانون الأول 1994، حيث تولّت النيابة العامة في الكنفديرالية السويسرية التحقيق في القضية، وأقرّت بعد ذلك المحكمة الاتحادية السويسرية بأنّ العميلين “مدانان بتهمة التجسّس والعمل في مجال الاستخبارات السياسية وانتهاك قواعد سرّية المهنة”، وحكمت عليهما في 5 نوفمبر/تشرين الثاني 1997، بعقوبة السجن وبأن يقدّما لمراد دهينة “تعويضًا عمّا لحِق به من ضرر معنوي” [38]. وفي الوقت نفسه، أصدرت العدالة الجزائرية الخاضعة للأوامر العسكرية حكمًا غيابيًا بحقّ مراد دهينة بالسجن لمدة 20 عامًا، وكلّفت البعثات الدبلوماسية المسخّرة لخدمة الجنرالات بتقديم طلب تسليمه.

في معظم الهجمات الإعلامية التي تعرّض لها مراد دهينة، تمّ وصمه “بالإرهابي”. وردًّا على هذه الافتراءات المغرضة، كان جوابه:

« أعلم أن والدي رحمه الله كان يسمي “فلّافا” و”إرهابيًا” و”مجرمًا” من طرف الاستدمار الفرنسي لأنه لم يرض بالذلّ والرضوخ تحت الاحتلال، وبعد خروج فرنسا تغيّر الوضع والحمد لله. فالشتم والنعوت التي يُراد بها الحط من قيمة الإنسان وتجريمه أمر معتاد واستعمله الظلمة منذ القِدم للنيل من معارضيهم، بل وحتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم ينجَوا من هذه المعاملات، فضميري مرتاح من هذا الباب ولا أعتبر نفسي إرهابيًا حسب التعريف المفروض اليوم ولم أخض أبدًا في أيّ أمر يمسّ بحقوق الناس، خاصة الضعفاء منهم والمظلومين والمستضعفين الذين كانوا أكثر الناس تضرّرًا من الحرب التي فُرضت على الشعب الجزائري بفعل من يرون أنفسهم أوصياء على هذا الشعب. » [39]

وبهدف رسم صورة مشوّهة عنه باعتباره إسلاميًا “جاهلًا” و”ظلاميًا”، عمدت حملة الدعاية ضدّ مراد دهينة أيضًا إلى نشر تهمة أنه يرفض إدانة “اغتيال المثقفين”، عِلمًا أنّ شكوك خطيرة تحوم حول دور جهاز دائرة الاستعلام والأمن [40]، في هذه الجرائم. وردًّا على هذا الاتهام يوضّح مراد دهينة قائلا:

« قلتُ: “إذا كان هناك قتلى، ينبغي أن نرثي جميع موتانا ونشجب جميع الجرائم؛ وأنا أوّل من يشجب كافة الجرائم التي تسببت في وفاة مئات الآلاف من إخواننا الجزائريين. (…) في وقت معيّن من المقابلة، تحدثّت عن “المثقّفين اليساريين”، وتجدر الإشارة إلى أنّ ثمة انقطاع في ذلك الشريط وكنتُ قد ذكرت مصطلح “المثقفين اليساريين” لأنه كان ذلك يجري في إطار نقاش بيني وبين الصحفي، لم يتم بثه في الفيلم الوثائقي، حول من يكون هؤلاء المثقفين اليساريين. وقال محاوري يوم ذاك، إنهم “مثقفون يساريون”، فقلت حسنا، تلك وجهة نظرك، فإن أصررت على تسميتهم كذلك، فلا مانع لديّ. (…) أنا أرفض الانتقائية، لا ينبغي أن نتحدث عن وفاة “س” ثم نغضّ الطرف عن وفاة “ع” مهما كان هؤلاء الأشخاص، بالنسبة إليّ كلّ الجزائريين الذين قُتلوا أثناء تلك المأساة التي شهدناها يستحقّون الاحترام ويستحقّون أن نكشف الحقيقة حول ما حدث لهم، كما أنني لا أقبل النعوت التي تُلصق جزافا بهذا الطرف أو ذاك: من جهة نتحدّث عن مثقّف قتِل على يد أصولي، ثمّ يتمّ عرض الوقائع على نحو يرضي سلطة معينة، ويروق لاتجاهات سياسية محددة. أنا لستُ ممّن يتعاطون المزايدة السياسية على حساب الضحايا، وأعتبر أنه ينبغي إدانة جميع الجرائم. واليوم، لم تعد الإدانة تكفي، وهنا تحديدًا أتوجّه إلى جميع من يسمّون أنفسهم مثقفين وديمقراطيين: تعالوا لنبحث معًا عن الحقيقة حول ما حدث في بلدنا، لأنه لا يمكن بأيّ حال من الأحوال، التغاضي عن مسألة البحث عن الحقيقة، وهنا أعرب عن التزامي شخصيا فيما يخصّ البحث عن الحقيقة الكاملة وأقبل بما يتمخّض من نتائج عن هذه العملية أيًا كانت طبيعتها، لأننا مدينون كلنا لذاكرة جميع الضحايا.”» [41]

وكمثال عن الخطاب الذي يرمي إلى نزع طابع الإنسانية عنه، وتلك وسيلة تُستخدم للتبرير الأخلاقي لعملية القمع، تمّ اتّهام مراد دهينة أيضًا بتأييده للهجمات التي وقعت في باريس في عام 1995، والتي تبيّن أنها قد تكون على الأرجح من تدبير وتنفيذ مديرية الاستعلام والأمن الجزائرية [42]. وفي هذا الصدد يوضّح مراد دهينة:

« تعرّضت مرة أخرى لنفس النوع من الانتقادات في مقابلة مع قنوات تلفزيونية فرنسية، في أعقاب هجمات عام 1995 التي وقعت في باريس، حيث جاءت القناتان الفرنسيتان الأولى والثانية، (Antenne 2, TF1) لإجراء مقابلة معي لمعرفة “لماذا لا أدين تلك الهجمات؟ “، فقلتُ لهما حين ذاك: “إنّ المشكلة ليست في إدانة هجمات باريس، فالمشكلة بالنسبة إليّ، باعتباري مواطنًا جزائريًا، هي لماذا تلتزمون الصمت إزاء أربعين ألف قتيل؟”، حيث كنا نعتقد في ذلك الحين أنه هناك أربعين ألف قتيل، لكن يبدو أنّ الحصيلة الفعلية للأسف الشديد أثقل من ذلك بكثير، وأضفتُ: “فأنتم تلتزمون الصمت فيما يتعلّق بالمجازر التي وقعت عندنا، وتريدون مني أن أتدخّل لأعرب عن حزني وأبكي على الضحايا الثمانية الذين لقوا مصرعهم في باريس”. بالطبع، لا أحد يشعر بالفرح إزاء وفاة أيّ شخص، في أي مكان في العالم، ولكن ما أقوله أنه ما يحزنني الآن، ويُدخل في نفسي بالغ الأسى في الوقت الراهن، هي المآسي التي يشهدها بلدي. » [43]

 

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version