المسار العلمي

تابع مراد دهينة دراسته بامتياز وتفوّق في ثانوية ابن رشد بالبليدة، وحصل على شهادة الباكالوريا في عام 1979، شعبة الرياضيات، بدرجة جيّد جدًا، فكان ضمن المتفوّقين الذين استقبلهم الرئيس الشاذلي بن جديد وكرّمهم بجوائز. ثمّ تابع دورة دراسية مدتها أربع سنوات للحصول على شهادة الدراسات العليا في الفيزياء، شعبة الفيزياء النظرية، في جامعة العلوم والتكنولوجيا بالجزائر العاصمة، أنهاها في شهر يونيو/حزيران 1983، واحتلّ مراد دهينة المرتبة الأولى ضمن دفعته ، فحصل على منحة دراسية لمرحلة ما بعد التدّرج لمتابعة دراسته في الفيزياء في الولايات المتحدة [16].

غادر مراد دهينة الجزائر في خريف عام 1983 متوجّهًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد دراسة اللغة الإنجليزية لفترة قصيرة انضم إلى معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، بالقرب من بوسطن، ويُعتبر هذا المعهد أفضل الجامعات في العالم في مجال العلوم والتكنولوجيا. تحصّل مراد دهينة في على درجة الماجستير في الفيزياء في غضون سنة واحدة (1985)، لينضم بعد ذل  ك إلى فريق البروفيسور صموئيل تينغ، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1976 [17]، وذلك من أجل الحصول على درجة الدكتوراه، وكان محور أطروحته في فيزياء الجسيمات التجريبية، تحت إشراف البروفيسور تشن مين، حول قياس القوة الأساسية من خلال إنتاج الهادرونات المتولّدة عن تصادم الإلكترونات والبوزترونات ذات الطاقات العالية. ويقع مصادم إلكترون/بوزيترون بترا ([18]PETRA) الذي استخدمه مراد دهينة لإجراء عمليات القياس، في معهد ديزي ([19]DESY: Deutsches Elektronen-Synchrotron)، وهو أكبر مركز ألماني للأبحاث في فيزياء الجسيمات في هامبورغ. وتحصّل مراد دهينة على درجة الدكتوراه في أبريل/نيسان1987، أي في غضون أقلّ من عامين [20].

 معهد مساسيوشتس للتكنلوجيا، بوستن، الولايات المتحدة MIT  السنكروترون الألماني بهامبرغ، ألمانيا DESY
 البروفسور صموئيل تينغ، جائزة نوبل في الفيزياء 1976  مراد دهينة بجامعة أم. أي. تي، مساسيوشتس

في شهر يوليو/تموز من نفس السنة، تمّ تعيين مراد دهينة كأخصائي في الفيزياء التجريبية في قسم الفيزياء المرموق التابع للمدرسة الفدرالية متعدّدة التقنيات في زيوريخ [21](ETHZ) ، وفي هذا الإطار ساهم في الأعمال الجارية حول الكاشف L3 والمتعلّقة بمصادم إلكترون/بوزترون الكبير (LEP)، الذي كان يُعتبر أقوى مسارع جسيمات في ذلك الوقت، بمحيط قدره 27 كيلومترًا، وعمق حوالي 100 متر تحت موقع المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية (CERN)، بين فرنسا وسويسرا.

وقد شارك مراد دهينة في إطار تعاون دولي، كان من إنجازاته العشرات من التجارب حول تحديد معلمات القوة الكهروضعيفة، واختبار نظريات القوى الكهرومغناطيسية والقوية، وعن بوزون هيغز، وساهم كذلك في عمليات قياس لاستكشاف مدى وجود جسيمات وقوى جديدة [22]، فضلًا عن نشره للعشرات من الأوراق العلمية [23].

ورغم انخراطه في مجال الأبحاث العلمية المتطوّرة والشيّقة، لم يستسلم مراد دهينة لنزوة الإغراء لضمان مستقبله المهني، ولسحر النجاح الشخصي، فمنذ مغادرته البلاد، لم يفتأ يفكّر ويتحدّث إلى مواطنيه عن كيفية النهوض بالجزائر والقفز بها إلى المرتبة التي تليق بها على المستوى العلمي، ومن هذا المنطلق كان ينشط ضمن شبكة أنتا [24] التي تضم مهندسين وباحثين جزائريين في أمريكا الشمالية وأوروبا والجزائر، وتعمل على تسهيل نقل التكنولوجيا إلى الوطن.

وتشمل المبادرات التي قام بها مراد دهينة مشروعًا لتشكيل مجموعة وطنية معنية بالفيزياء التجريبية، والسعي للحصول على أموال لتكوين علماء فيزياء جزائريين في المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية، وكذا تقديمه اقتراحًا لتطوير شبكات اتصالات سلكية ولاسلكية طليعية في ذلك الوقت، وإرسال أجهزة كمبيوتر للطلاب، بالإضافة إلى المشورة التقنية وما إلى ذلك [25]. وقد كشفت له اتصالاته بالمؤسسات الوطنية التي كان يسعى من خلالها إلى تقديم نصيبه من المساهمة لنقل التكنولوجيا، وكذا العوائق التي واجهته من هذه الأطراف، أنّ العلم والتكنولوجيا لا يمكن لهما أن ينشآ ويزدهرا في بيئة سياسية تستعبد الإنسان والعقول [26].

لقد تمّت هذه الأنشطة خلال “الفسحة الديمقراطية”، وهي تسمية ساخرة تُستخدم في البلد لوصف “الربيع الجزائري” المبكّر، في الفترة ما بين 1988 و 1991. وفي أكتوبر/تشرين الأوّل 1988 تعرّضت الجزائر لهزّة عنيفة نتيجة انتفاضة للشباب ردّت عليها قوّات الجيش بعنف مفرط وأخمدتها في حمام من الدماء [27]، مخلّفة المئات من القتلى والمئات من ضحايا التعذيب [28]. وقام حينها الجيش، الذي استولى على السلطة منذ استقلال البلاد، بمحاولة إعادة الشرعية لنفسه من خلال التظاهر بموافقته على إجراء تحوّل ديمقراطي، فانسحب من اللجنة المركزية للحزب الأوحد، جبهة التحرير الوطني، مع تعيين وزير للدفاع لإعطاء الانطباع بأنه قد فكّ ارتباطه عن الإدارة السياسية للبلد. وفي هذا السياق تمّ سنّ دستور جديد (1989) يكرّس التعدّدية الحزبية، فتراجع سيف الرقابة، وتزايد صدور الصحف الخاصة وتأسيس الجمعيات غير الحكومية، كما صدر قانون جديد يؤكد استقلالية القضاء، فكانت بحقّ فترة شهِدت تحرّر الطاقات، فساور جيلًا بأكمله حلمٌ زاهر جعله يؤمن بأنه بإمكانه بناء جزائر في مستوى تاريخها لتتبوّأ المكانة التي تليق بها.

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version