قوى الشعوب إيمانا وأخلاقا، تعليما وثقافة، سياسة وإدارة، اقتصادا وتجارة، فردا ومجتمعا، دفاعا وتآلفا… تلك القوّة المتعددة الأوجه التي إن لم تملك من تنوّعها هذه الأمّة أو تلك، قدرا كبيرا من عناصرها، دحرجها التاريخ إلى مقاعد “المشاهدة”، وهي ترى الأقوياء يرفسونها أبدانا ويزدرونها نفوسا…

كم عرفت أمّة الإسلام في القرون الأولى من كبوات سرعان ما عدّلت بها نتيجة المنازلة التاريخية الإجمالية، قبل أن تتفوّق في عين جالوت وأخواتها.

حتى إذا انبلجت الثورة الصناعية في أوروبا وجد المسلمون معهم سيفا تركيّا مظفـّرا أنساهم مقتضيات سورة الحديد الحضاريّة.

لقد اختصر الإنسان الغربيّ المدنيّة القويّة ـ طريقا وكلفة ـ فامتلكَ أسباب التفوّق الحربيّ والمعيشيّ.

ثم أطلّ “الاستعمار” ترجمة لأشدّاء جدد لا تكلّ أيديهم ـ بطونهم جائعة تطارد البُؤسى، وأمامهم شعوب غنيّة نعسَى!

يرحم الله تعالى ابن نبيّ وهو يخفف من وطأة الجرح التاريخي عندما تحدّث عن “القابلية للاستعمار”.

فلقد كان الأمر شرخا نفسيّا لا يكفي معه إلا تسمية “الاستنعاج”!

استنعاج مسّ مثلا أسُود البحر المتوسط الجزائرية التي سمحت للغزاة الفرنسيس الهَمج بدخول سيدي فرج.

جنى الأجداد الفارّون من الموت، بقيادة ذلك الداي الخوّار، على حريّتهم وأمنهم، قبل أن يؤذوا الأجيال من بعدهم تأخّراً معيشيّا، التقى فيه العمق والتنوّع، حتى جاء الفجر الربانيّ عبر شهداء نوفمبر!

ومنذ ذلك المسخ النفسيّ الذي طال العالم الإسلاميّ، والمسلمون في الأذلـّين، يسومهم الإفرنج سوء العذاب ـ هويّة بها يُلعب وأجساداً تـُلهب وأقطارا تـُنهب!

فلمّا غادر الاحتلال ديار المسلمين في إفريقيا أو آسيا، ترك فيها خدَما ـ أو ضعافا ـ ومعهم عـَلم ونشيد وعملة محليّة وأختام، ليفرح الناس بـ”الاستقلال”!

ما ضرّ “الاستعمار” تخلفٌ سياسيّ يراه في مستعمراته غير المباشرة، ما دام أنبوب النفط مضمونا، والبنت المدللة آمنة في تل أبيب وقرب مُفاعل ديمونا، ودولار المحروقات في بنوك الشمال مصونا؟

إنّ لسان حالهم يقول: زوّروا الانتخابات! فنزاهة الاقتراع لا تليق عندهم إلا بالمحيط الغربيّ الطويل العريض!

أما الخدَم، فمتى كانوا يُنتخبون؟

فكم ملك جالس أمام نزيل البيت البيض وهو يحدّث نفسه عن مليارات الدولارات التي يمتلكها الضيف اللصّ في بنوك عمّهم “سام”!

و كم مرّة احتقرت واشنطن ولندن حاكما “صبغ شعره أو بلل ثوبه” وهو يعضّ على الكرسيّ بالنواجذ!

سبحان الله! القلوب فِعلا بين أصبعين من أصابع الرحمن!

فمن كان يظن أنّ سحابة ركمتها اصطناعيّا كرة قدم، تجلوها بين الشعبين الجزائري والمصري ثورة اقتلعت فرعون، قبل أن يمتدّ بينهما جسر التآخي المتجدد ومزاج أولاد ثورة نوفمبر العام بين متعاطف مع المظلومين ومستنكر انقلاب جنرالات كمب ديفد.

وهو مزاج لا يخلو من تأسّف على ما يسيء إلى مظلمة “الإخوان”.

وهل يؤخـِــر النصرَ على الظالمين إلا محاكاتهم؟

فقد يأكلها الذئب ويقال أكلها الراعي!

ما هذا البؤس المؤسساتيّ الذي يوقف الورشة الرئاسية في ربعها الأوّل؟ بل ما هذه البدعة السياسيّة التي اخترعها لائكيون/علمانيون بمصر وتولّى كبرها “فلول” جسّدت نظاما متأمركاً لم يَع الإخوان أنّ له “سبعة أرواح”!

يا ليلا بهيما! ما لطولكَ يأبى انقطاعا؟ وما لِلظاكَ تزداد اتساعا؟       

و لكن علامَ التعجب والداء أدوَاء، لم يكد يسلم منها عضو من أعضاء جسد الأمّة الوسط؟

فلقد أبغضنا الغرب ـ شعوبا ـ وهو يحتقرهم ـ “محكومات”!

ربما يقول بعض الأوروبيّين: ألمْ نحدّثكم عن “الاستبداد الشرقيّ”؟

ألمْ يقلدنا كبراءُ عسكرهم المتخلفون وهم يفتحون النيران في ميدان رابعة على جموع أمنت فيها القواعد من النساء، والمحيطون بهنّ من الذراري؟

يا من لا يدري الناس ألِواء أنت أمْ لوَى: ما لطائراتكم ترغب عن سيناء تحليقا وما لدبّاباتكم تحْرن أمام قناة السويس، فلا تطلب لها في رمالها طريقا؟

أم إنّ تلك الأباتشي لا تحسن التحليق إلا فوق ميادين القاهرة، دون أن تجرح شعور الصهاينة، وهي لا تقرب محيط سفارتهم بها؟

ضبع عليّ وفي الحرب قلب دجاجة…

كم امتهن الغرب من سليْطات منشأة في جنوب البحر المتوسط وهي تحارب دعاة دولة الإسلام ـ بخلاف الصهاينة الذين يصرّون على طابع دولتهم اليهوديّ!

فهلاّ كان أشباه الحكام مثل أصدقائهم اليهود الذين لا يسمّون داعي تطبيق التلمود أصوليّا ولا متخلفا ولا إرهابيّا؟

وهل سمع الناس بجيش تل أبيب يقتل يهودا أو بشرطة “شين بيت” تحصد بالرّصاص يهوديّات؟

يا أمّة ضحكت من حُكمها الأمم…

ألم يسعد الغرب المؤسّساتيّ وهو يرى أولياءه يفطنون ـ “ديمقراطيا” ـ لجعل السلطة عدّة أقسام، وثلاثتها تشبه أحيانا السوَاقٍي التي تتفرّع عن النهر الواحد؟

ألمْ تحتقر واشنطن إحدى تلك “السلطات” وهي تتكفف خبرات أمريكية في مجال تحسين مستوى “البرلمانيّين”؟

و كم استصغر أهلُ أوروبا من ثمار “الاستقلال” وهم يرون المقود في أيدي أشخاص لا يقوون على تحرير دستور في غياب مِراس أساتذة الحيّ اللاتيني بباريس!

و ما أكثر ما ضحكوا على ذلك “الاستقلال” المشوّه وهم ينظرون إلى نصوص القانون تـُحرّر أصلا بالفرنسيّة قبل أن تترجم!

وسرعان ما تتحوّل ضحكات الافرنج إلى قهقهة وهم يشاهدون قوانينهم مستنسخة في المسائل الكبيرة، وهي مختومة بتاريخ هجريّ تمويهيّ ـ 17 شوال، مثلا ـ قصد تبيان سيادة كاذبة أو بغية إخفاء أصل تلك “التشريعات” ـ كما يقولون!

وكيف لا يضحك أصحاب القرار في الغرب وهم يشاهدون في الأنظمة السياسيّة المتخلفة ملهاة ذلك التعدّد الحزبيّ المصطنع الذي يشبه، في الجزء الأكبر منه، تنوّع المتزاحمين على إطالة أعراس سلطاتٍ تعرف كيف تردّ الجميل للمغنيّ والرّاقص والعازف والمصفـّق!

وكيف لا يسخر رجال المحاكم الأوروبية من الجهاز المقضي به في أمصار البؤس العام والقضاء فيها مستقـَلّ ـ بفتح القاف ـ لا يردّ طلبا لِجرس هاتف ولا لِرنـّـة درهم أو دينار!

و كم تنافس الغرباء في الشمال على صفقات “أسلحة” دسمة تبتاعها منهم مثل الخردة الموقوتة محكومات متخلفة، فلا تستعملها ـ سياسيا ولا تقنيّا ـ إلا في الحروب البينيّة أو الداخليّة!

يا أهل أوروبا المؤسّساتيّة، ما لكم تجمعون في هذا الشأن نرجسيّة ومكرا؟

تلغون في أوطانكم عقوبة الإعدام، وأنتم تصدّرون الموت إلى الآلاف أو الملايين المتقاتلة في بلداننا على الأوهام!

لقد ازدرى قادة الإفرنج محكومات الجنوب وهي لا تعبأ بأبناء بلدانها، فيهلك في البحر و”الجبل” من يهلك وينجو من ينجو!

فهل نسي الناس كيف طار ذلك الرئيس الفرنسي ـ ناهيكَ بِالمُستشارة الألمانية ـ إلى جنوده بأفغانستان يصطحب معه القتلى بعد أن اطمئن على الجرحى؟

أمّا المسلمون، فهم “كثير”! ولا يحزن المسؤول فيهم أن ينقص منهم آلاف أو ملايين!

و انظر إلى مأساة عشرات وعشرات الآلاف من أهلنا في دارفور كيف تمضي بالمنطقة إلى أتون الانفصال، و”الرئيس” يرقص بعصا الماريشالية بعد أن أضاع على السودان نحو رُبعه في الجنوب!

و لا تعبأ الدوائر الرسميّة في عواصم الأطلنطيّ بحلفاء دمشق، وابن أبيه يقتّل أهل سوريا بعشرات الآلاف، ما دام مختبئا في أحد القصور وقادة الطائرات اليهوديّة يطلقون عليه رذاذا من ـ كيف أقولها؟ ـ وقودها!

وكم عاصمة انتشت بها تلك الأوساط الغربيّة، في ازدواجية ماكرة، وهي تسمع أصحاب نيرُون الشام يُحذرون من التدخل في “الشؤون الداخليّة”!

تلك “الشؤون الداخليّة” التي لا تعني لدى سرّاق الحكم سوى خوصصة العباد والاشتراك مع الحُماة في تملـّك البلاد!

و كيف لا يستقذر حكّام الغرب سلوك أشباه نظرائهم حول البحر المتوسط والخليج، وهم يودِعون  لديهم مدّخرات الأمّة بعد خصم مخصّصات اللصوص المترفة؟

فممنوع على المسلمين أن يعرفوا كم استلمت الضّباعُ ـ “ودائع” ـ من مال الله الذي آتاهم من باطن الأرض، وكم أخذ “الرّعيان” المتواطئون.

إنها “أسرار الدولة” ـ حسابات بنكيّة وملفات صحيّة ـ تـُخفى على الشعب ويعلمها قادة الغرب!

وكيف لا يتندّر غربيّون بأشباه حكّام وهم لا يستطيعون تسيير فندق كبير إلا أن يتداركهم إسبان!

يا ويلتنا، أيعجز مجتمعنا عن تعليم فِتيانِنا الكرامة والاقتدار في تقديم فنجان قهوة بفندق أو طبق كسكسي بمطعم؟

وكم مجلسا شهد تضاحك الفرنسيس في نواديهم الخاصة وقد أعطاهم بلد “الفڤارة” ـ ذات الامتداد القـُرونيّ ـ صلاحية تسيير المياه، بعيدا عن عنت بناء السدود؟

ومن يستبعد تغامز أهل باريس وهم يرون عناصر الملإ يتزاحمون على مستشفيات تداوَى في بعضها بيجار وماسي، وقد كانوا يستطيعون بناء عشرات المصحّات الراقية ـ يطلب فيها العلاجَ “الصغيرُ” قبل “الكبير”!

هل فهم الناس الآن لماذا لا تخشى فرنسا طلب الاعتذار؟

أم تريدون أن يقطع القوم غصن الشجرة الذي هم عليه جالسون؟

ولا تسأل عن المطارات التي استلمها أهل باريس ـ تنظيماً وإشهارا!

وتمالك نفسك بعد ذلك، إن استطعت، أمام تضخم فاتورة الواردات من خدمات، للدخيل والعميل “حَبّها”، وللشعب “تبْنها”!

ولكن لكل ليل فجر يطلبه حثيثا.

ثم يليه صبح لا يجد فيه أهل الغرب إلا أبناء البلد الغالي أندادا لهم وزيادة!

ولن يُستغفل وقتها ممثل أمّة بزجاجة مُدام، ولن يُشترى بمضجع حرام ولا بدولار سام.

ذلك أنّ الحرّ لا يبيع أهل المِلة بخبز مَلة!

أحمد بن محمد
20 أوت 2013

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version