ما أجمل أن يكون العدل أحد أسماء الله الحسنى.

ألمْ تبيّن سورة الحديد الجليلة، في الآية 25، أنّ مولانا الكريم أرسَل الرّسل وأنزل معهم “الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط”؟

فحيثما كان العدل ـ المعتبر ـ كان شرع الله!

كأنّ القسط متوَّجٌ “مقصد المقاصد” الأصولية الأساسيّة.

بل سيّدنا عمر لم ينل مكانته المتميزة في وجدان الأمّة، عبر القرون، بفعل زهده الاستهلاكي، بقدر ما اكتسبها ربّانيا، من حسّه الاستثنائي إزاء العدل.

وانظروا إليه وهو يقيم أحَد الحدود الشرعية على فلذة كبده!

وكيف لا يكون التلميذ كذلك وهو يسمع معلمّه البشريّ الأوّل ـ صلى الله تعالى عليه وسلم ـ يقول: “والله لو أنّ فاطمة بنت محمّد سرقت لقطعت يدها”!

*

ولكنّ القسْط لا يقبل القسْم!

فما خلا ميدان من العدل إلا وترك ذلك أثرا على باقي الميادين.

إذ لا ينفع عدل اقتصاديّ يوزّعه طاغية!

ولا خير في حاكم يُحسن سياسة الرجال، إن كان لا يجيد عِياسة المال!

بل غفل لحظة عقل كبير مثل ابن خلدون وهو يركّز على الظلم الاقتصادي سبباً في خراب العمران…

لقد نسي صاحب “المقدمة” أن الفساد الاقتصادي توأمُ شقيقٍ يسمّى الضيم السياسي ـ كما عاشت مصر ذلك مع فرعون: “وإنّ فرعون لعالٍٍ في الأرض وإنه لمن المسرفين”!

لكن القرآن ذكر الظلم ـ دون تخصيص ـ سبباً في الهلاك: “فتلك بيوتهم خاويةً بما ظلموا”.

الظلم على سبيل العموم.

فالحيف هو الحيف، سواء أغيَّبَ الإنصافَ في هذا الصّعيد أم في ذاك.

من أجل ذلك، كان القسط شاملا، يأبى الحضور هنا والافتقاد هناك.

فمتى ينعم بنو آدم ـ من جديد ـ بصوَر العدل متكاملة، فلا يكاد يحسّ الغبنَ مستمرّا مسلمٌ ولا كافر مسالم؟

تلك الصوَر البهيّة التي منّ بها الله الكريم على خلقه تحت قيادة نبيّ أو خليفة!

*

إنّ أوْلى هذه اللوحات الجميلة بالتحقيق لـَلـّتي ارتبطت بالتوحيد.

“يا بُنيّ لا تشرك بالله إنّ الشِرك لظلم عظيم”.

وهو قسط يبدأ بالشهادة والعبادة ولا يكتمل بدون الحاكميّة ـ أو”الأحكميّة”.

إنّ الله سبحانه لا يُظلم ولكن إلى متى إيذاؤه بإبعاد أحكامه الخالدة عن دنيا عباده؟

لئن تنكّبَ الحكّام الأوربيون عن الصراط ـ في شمال كافر ـ فوضعوا قوانينَ تسيَّر بها شعوبهم، فما لنا عليهم من عتاب، إذ ليس بعد الكفر ذنب!

ولكن “أيُشرِّع” ـ في جنوب مسلم ـ برلمان دُمى جائعة جاهلة، في مجالات تألقت فيها السنة بعد الكتاب؟

فمن “يشرّع” غير الله الحكيم؟ إذ ليس للإنسان إلا مجرد “الاستشراع” في المسائل المسكوت عنها كالتقنيات والتنظيمات…

وذلك هو القسط التشريعي!

فأيّ هزال إيمان حلّ بديارنا والشرع الربانيّ فيها معطّل، وخط قانون نابليون لدى القوم مبجّل؟

كبُرت “وثنيّة سياسية” تخرج من مجالسهم المترفة الغافلة!

*

لا يزال شقاء الشعوب المسلمة واصباً ما لم يتحقق فيها القسط السياسي ـ فلا تُحكَم عنوة. فإن لم تكسر القيد تظلّ منقسمة إلى أقليّة أرباع سادة يرعبهم أولياؤهم في الأطلنطي، وجموع أشباه عبيد لا يصيبها إلا رذاذ من الغاز والنفط!

لا يزال اغتصاب الكرسي أمّ السرقات. وقالوا بومدين نظيف اليد.

لا جرم أن المنقلب على بن بلة لم يكن حكمه كله سيئات، ولكن لمَ يختلس الدولار والدينار والجزائر كلها ملك يده؟

ألم يدعُ، مطلع السبعينات، كل من ضاقت عليه سماء الجزائر إلى الرحيل إلى سماء أخرى!

فما أكذبَ المِلكيّة العامّة الاصطناعية!

“قصر… الشعب”!

اقتربْ منه أيّها الجزائري المستضعف لتعرف كيف تُضرب فيه ـ عفوا لتُضرب في… “قصرك”!

وأين العدل السياسي في حُكم شخص استأثر بنحو أربعة مناصب، وقد فرض على الجزائري التنازل عن وظيفته البسيطة في الإدارة إن تمسّك باستغلال أرضه الزراعية ذات الأربعة هكتارات؟

إنّ “العدل الأفقي” ـ بين الشعب والأهالي ـ لا يكفي ما لم يكن متداخلا مع “العدل العمودي” ـ بين القاعدة والقمّة!

ولا تستغربْ بعد ذلك كيف أنّ المسؤول الفظ لا تصله معاناة المستضعفين وهو بذريعة الانضباط يُصدر أوامر قاسية على جيوبهم ـ لا على حسابه البنكي الممتلئ!

ألمْ ترَ كيف أصبحت غرامة الامتناع هنا عن مراقبة السيارة تقنيا ضِعف نظيرتها في فرنسا ذات الدخل الفردي العالي؟

أفلمْ تكن سلطات الطرق والعمران أولى بتلك العقوبة، وهي تَألف الحُفر التي تكاد تبلع عجلة؟

كم تمنّى بعضنا إدراج بند في دستور البلاد غدا يمنع عن الرئيس ومن والاه إعلان حالة الوغى ما لم يكن مثلا أحد أبنائه في جبهة القتال!

ذلك أنّ الحرب سهلة بأولاد الناس، ما دامت الذريّة في مأمن وهي تتقلب بين شوكولاطه بلجيكية ومثلجّات “هاغنداس”؟

فلقد تعلمناها من السلوك النبويّ اللصيق بالقرآن المجيد: “فقلْ تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم…”.

*

إنّ المناصب مُطغية مُنسية.

وانظر في مبدإ “الطبّ المجاني” البرّاق الكاذب.

الطبّ المجاني الذي ينعم به الملأ فيطيرون إلى مصحات سويسرا الرّاقية ـ استجماما ـ أو إلى مستشفيات فرنسا المشهورة ـ استشفاء!

فالسرقة قبيحة، ولكن ما أشد قبحها وهي تتدثر بالقانون!

الطبّ المجاني الذي تشقى به، في قريتك أو في حيّك، وأنت تستلم أقراصا من ذلك المستوصف البائس ـ إن وُجدت!

الطبّ المجاني الذي يخشاه الزّمْنىَ ـ بله مرضى السرطان وهم يتدافعون في أقسام العلاج الكيميائي القليلة وفي يد الواحد منهم موعد العلاج بعد أشهر تليها أشهر!

إيه، يا ليلة عصيبة طويلة! متى تنجلي عتمتك فيؤمر في الحين ببناء مستشفيات طارئة تستجلب معدّاتها ـ كيمياء وأشعة ـ في طائرات النقل العملاقة؟

يا لجنة التكفل الطبّي بالخارج: لمّا يعمّ القسط هذه الربوع الطيّبة، فإنّ كل مرَض يعالج هنا، لا كفالة فيه بالعملة الصعبة ـ كائنا من كان المعني بها!

وكل داء عجزت عنه مصالح الصحة الجزائرية يُسفّر صاحبه ـ ولو كان من أهلنا السّابلة الشّعث الغـُبر، الذين يحتمون بمداخل العمارات من الحَرّ والليل القـَرّ!

فقد سَعتهم أشجار حديقة وأقواس نهج، ولم تتسع لهم شقق شاغرة بناها ـ يا للعار! ـ صينيّون بعد الافرنج!

يا ويلتنا! ما لنا نعجز عن محاكاة عصفور خفيف ونسر كاسر وهما يعدّان العش الصغير والوكر المنيع؟

*

لقد اعترف الفرنسيس أنّ ثورة نوفمبر صقلت نفسيّة الجزائريين على روح المساواة.

وطـُف بالدنيا كلها هل تجد لدى القريب أو البعيد نظيرا يكافئ لفظ “الحُڤرة” الجزائري!

ابتعدْ عن ظلم ابن الجزائر يُعطِك قميصه!

ولتأكل غدا القيادة أمامه البصل، ليقنع بالاقتيات بالثوم ـ كي يتكاثر ادّخارٌ فاستثمار!

فما أجمل روح “العدل النفسي” الذي جسّده نبيّنا العزيز ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يأكل على الأرض “كما يأكل العبيد”…

فأيّ مفعول تتركه في نفسيّة أصحاب الأعمال اليدوية مكنسة يمسك بها قائد منتخب ـ غير مُنتجَب ـ وهو ينظف مصلّى في دار الرئاسة أو ممرّا

كم تألمّ أحدنا وهو يقارن بين الحِداد الرسمي المفروض على الشعب أربعين يوما بعد وفاة بومدين وبين تلك الأيام المعدودة حزنا على نحو ثلاثة آلاف قضوا في زلزال الشلف الحالية!

أليس كل واحد منهم نفسا؟ أم إننا في جنوب إفريقيا أيّام العنصرية؟

جاء النذير يوما يَنعَى الوزير بن يحيى بعد سقوط طائرته قرب المالي، فانطلق الناي يبكي على أمواج الأثير، قبل أن يُسكت: لقد نجا ابن الملإ ـ وليهلك من بعده من هلك من باقي الرّكاب المساكين!

ولكن لمَ العجب والعالية نفسها توفـّر للكبراء مربّعات ذات قبور مرتبة وممرّات عَشيبة، بعيدا عن مدافن الأهالي المجاورة، حيث الأشواك اليابسة والمسالك غير السلسة!

يا ناس! لا وجود لقبور خمس نجوم ـ وعند الدّود الخبر اليقين!

*

عندما تحلّ تباشير القسط بهذا البلد الطيّب، يتكفل الكمبيوتر بتعميقه في التعيينات والإعفاءات والحجوزات…

فلا وزير يختطف لابنه منحة دراسة بلندن، ولا مدير يتفاهم مع مموّن سلع، ولا كبير يستولي، عن طريق الأحباب، على الصفقات الخُرافية!

*

كم اشتقنا إليك أيّها “العدل القضائي” وأهل المَقاضي يجمعون عن الكبراء استقلالا وعلى الحق إفضَالا!

العدل القضائي الذي لا يزمجر فيه قاضٍ أمام مستضعف من الأهالي، بعد أن تصطك رجْلاه في مكتبه وهو يتلقى الأوامر من “الأعالي”!

العدل القضائي الذي لا مكان فيه لنيابة تأمر بالحبس، ولا لقاضي تحقيق متحامل ذي بأس، ولا لقاضي جلسة، بواسطة سركاجي ينتقم للنفس!

العدل القضائي الذي لا تُعبد فيه ما تسمّى “قوة الشيء المقضي به”، وقد جعل بعض المسْتلبين أحكامَ الكتاب العزيز مادة للتندّر!

العدل القضائي الذي به تزول تلك المادة الجاهلية السمجة التي جعلت القانون قبل قواعد الشريعة العصماء!

العدل القضائي الذي يتغيّر فيه اسم تلك الوزارة إلى وزارة القضاء ـ ذلك أنّ العدل ليس مؤكَّدا فيها ولا حكرا عليها!

العدل القضائي الذي لا يطالـَب فيه المواطن البريء بـشهادة “السوابق القضائية”، وهو بدونها ـ لا قتلا ولا سرقة ـ ولا ينوي أن تكون له لواحق!

أما كان تعبير “السّجل القضائي” أدقّ لغة وأليَق أدبا؟

حتى إذا شانته جنحة، قيل عن صاحبه، مثلا، إنّه “سوابقيّ”، على وزن عشائريّ ـ لا “مسبوق”، كأنما تأخرَ عن صلاة الجماعة!

*

لقد بدأت مساحة المقام تضيق بالمقال ولمّا تكتمل هنا صوَر القسط ـ أنواعاً ومجالات.

فحسبنا منها اليوم أن نضيف إليها، مثلا، الإنصاف الاجتماعي، فلا يبغض حينئذ الشبابُ المحبط الأوضاعَ في بلده وهو يرى “بورش” المسروقة تشتم في الطريق سيارة هنديّة اشتراها سائقها بالحلال!

*

إنّ أهالينا ينتظرون بشغف حمَلة المشروع الإسلامي على صعيد القسط المتنوّع.

هو الامتحان الأوّل، فإن نجحوا فيه، كانوا لاجتياز غيره أهلا.

فالجماهير تصبر على شظف العيش لو رأت القدوة في القيادة.

أمّا أن يكون الأمر حَشفاً وسوء كيلة، فلا!

ولنتذكّر جميعا أنّ أولى الناس بالرعاية غدا لـَلذين سمّونا “إخوة”.

فالإسلامي خادم المسلم ـ لا يستعلي عليه نظرة ولا يسبقه حقوقا.

فهل ترى منا الدنيا غدا نموذج حُكم تظهر فيه للناس، من بعيد، عيّنات من عهد الفاروق. عندئذ يحمدون ربّه الكريم ويُصلون على من علـّمه ويُسلمون عليه تسليما…

أحمد بن محمد
6 أوت 2013

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version