لقد استغرب الناس كيف ظلت ِشعوب “الله أكبر” تستثني نفسها وهي ترزح تحت نير “الاستِخْمار” الداخلي، بعد أن دحرت ربّانيا مختلف عناوين “الاستعمار” الخارجي.

فأيّ قوم لم يكسرُوا القيود المحلية على الجبابرة، إلا ما كان أساسا من مليار أهل الملة وهم يقنعون بـ”استقلال”، لم يتغيّر فيه أحيانا كثيرة إلا لون العصا الزرقاء والعناوين الايديولوجية الرّقطاء!

أم إنّ نفوسنا هانت علينا، فرضينا بالتشبه مثلا بكوبا أو كوريا الشمالية حتى صرنا كالميّت ما لجرح به إيلام؟

كم طالت قرون الحُكم الجبريّ وهو لا يغادر الدِّيار ـ مورِّثا الاحتلال الغريب، ووَارثـه!

وضجّ الخلق في مشرق وفي مغرب: ما لنا لا نلتحق ـ جميعا ـ بالفضاء السياسي الحر الذي دخلته شعوب أمريكا الجنوبية أو أهالي البلدان الشيوعية التي استعبدها السوفيات؟

ثم جاء الربيع في 2011…

الربيع الذي لا يزال باردا.

ولكنه أكثر دفئا وازدهارا من صقيع ذلك البيات الشتوي الذي لم يكد ينتهي!

فلقد قطعت شعوب شقيقة مقهورة نصف الطريق وهي تتخلص ربّانيا من جبروت تلك الأنظمة الظالمة!

ومن هنا بدأ همّ صبح الثورة!

ذلك أنّ نصف الطريق الثاني مليء بالأشواك والحفر والثنايا والرمل الأدهس المدلّس!

سمُوها “ثورة مضادة” أو ألاعيب سامرّي متجدّد أو انتقام “فلول”!

و كان حقا على أمناء الثورات تقدّم ساحة الوغى طلبا للنزال الذي يربك العدى ويثـّبت الله تعالى به الأقدام!

فلكِ الله ربّنا يا قيادة وأنتِ تحرسين العهد الجديد ـ فلا بناء يحترق ولا مؤسسات تُخترق ولا مناصب تُسترق!

تلك القيادة التي لا تغـْني عنها المؤسسات والآليات الضرورية!

إنّ غد الثورات الشعبية السلمية عقبة كؤود لا ينفع معها السير بتلك “السرعة الميتة”، كما يقال في سياقة السيّارات!  

فمصر قبل الانقلاب الأخير لم تكن بريطانيا الهادئة!

وتونس صيف 2013 ليست الولايات المتحدة عراقةَ مؤسسات وثباتَ حُكم!

من أجل ذلك تحتاج الثورة في ساعات نهارها الأولى إلى قيادة استثنائية توفّر لها محرّك “التيربو” الذي يزيدها قوة إلى قوّتها!

إنّه الدفع الرّباعي الذي لم تستغن عنه الولايات المتحدة مع جورج واشنطن قبل روزفلت، ولا فرنسا المحتلة مع ديغولهَا، ولا بريطانيا الخائفة مع تشرشل، ولا ألمانيا مع أديناور!

كلاّ! إنه نقيض الدعوة إلى هرقلية جديدة.

فـتبّاً لرائحة أمثال شرطيّ تونس الهارب ليلا، وسُحقا لبقيّة من أشباه ربيب كمب ديفيد!

ولا خير في قيادة ـ مهما أوتيت من قدرات ـ وهي تضرب عُرض الحائط آليات منع الطغيان!

الطغيان الذي يجتثه، مثلا، تحديد السلطة من حيث المدّة والامتداد والمدى…

أجيال بعضها من بعض، تخدم الأمّة ساعة وتنظر إلى قبور العالية دقائق!

فلله درّ قيادة تزور المدافن ليلا ـ تأسّيا بالسيرة النبوية ـ فتصبح في الناس وقد ازدادت بُعدا مِن مختلف صور الظلم!

وما أجمل ضبط مدّة الرئاسة بثلاث سنوات كي لا يتعجّل أمثال ذلك القوميّ الذي يحكي مواء بطل حرب 1967، وقد تحالف هذا الصيف بمصر مع التليد القادم من فيينا!

وانظر إلى مانديلا وهو يتنحّى مختارا عن كرسيّ القيادة بعد أن اجتاز بلده محنة السنوات الأولى من التغيير الجذري السّلس!

فكم تساوي الرئاسة مع التربّع على عرش قلوب مئات الملايين في إفريقيا وخارجها؟

ولكنّ مثل هذا الكلام يُعتبر جنونا لدى الأعراب الذين يكادون يحتمون، من منكر ونكير، بالجنائز الرسميّة الملأى بالمزامير!

إنّ التنويه بدور القائد القويّ الأمين ليس بدْعا من المواقف عبر الأمم.

فهذا الشعب الصّيني يرى في خطإ الطبيب مقتل شخص، ويجد في خطإ القائد السياسيّ مصرع أمّة!

ولقد وعاها مِن قبْلنا ذلك الرجل الصالح وهو يكاد يتحسّر في القرن الأول: “لو كانت لي دعوة مستجابة لجعلتُها للسلطان”!

ولكن القرآن المجيد أدقّ من هذا ومن ذاك: »…و أحَلوا قومَهم دارَ البوار«.

و لم تغب السنة الشريفة عن مثل التبيان وهي تـَعد القائد المحسن بالأجر المزدوج وغريمه المسيء بالإثم المتعدّد!

“أسلمْ تسلم يؤتِك الله أجرَك مرتين”.

“…فإن توَليتَ فإنّ عليك إثم الأكّارين”…

القيادة الأمينة المرجوّة تكون قويّة.

قيادة قويّة إيمانيّا، فلا تخشى “ذئبا” عوى، ولا “ضبعا” به الداخل استقوى!

قيادة قويّة حضاريّا، فلا تتأثر بكتاب حبّره شيوعيّ ملحد فتـُدخل البلاد في تيه اشتراكية كاذبة خاطئة، لم تفقْ منه الأمّة إلا وهي تساق سَوقا إلى اقتصاد رأسمالي ماحق…

خمسون سنة أضاعوها علينا وأيّ شعب أضاعوا!

كوريا ـ “عميلة الامبريالية” ـ تزهو بـ”سمسونغ” وهيونداي”، والجزائر تستورد فومَها وثومها وعدسها!

قيادة قويّة نفسيّا، وهي لا تسمح لرئيس إفرنجي يجلس قـُبالة ضيفه وحذاؤه ملء وجهه!

قيادة قويّة نفسيّا، لا تستنكر تلميع امرأة سوْقاء زوجها، بدعوى العدالة الاشتراكية، ثمّ ترضى بحمل الخدم حذاءها في مدخل جامع كبير يوم عيد؟

قيادة قويّة نفسيّا، لا تستنكف عن تحسين مظهر حذائها بنفسها، وقد علمتْ كيف كانت النعل تـُخصف في البيت النبويّ الكريم بتلك اليد الشريفة الغالية!

قيادة قويّة نفسيّا، لا تلهو بنرجسيّتها بين خيّاط أوروبي وحلاّق استثنائيّ وطبّاخ حصريّ!

فما الذي تفعله امرأته إذن يومها؟

أم إنّها تكون لها “طبّاخة الطبّاخة”، مثلما يعبث المترفون بما يبدو في الأعالي “سائق السّائق”!

قيادة قويّة سياسيّا، لا تطلب الدعم الخارجي وقد أغناها الله تعالى بالأصوات الشعبية السّخيّة!

قيادة قويّة علميّا، فلا تجلس في المؤتمرات وسط قيادات الغرب وهي توزّع الابتسامات الفارغة، بدل الدخول معها في حديث عن فيلسوف إغريقي أو عالم نفس أمريكيّ أو مُنظّر اقتصاديّ انجليزيّ أو عالم اجتماع إيطالي…

قيادة قويّة همّةً وهموماً، ذلك أنّ وقتها وقت الأمّة، لا تضيعه في مسامرة ممثل فرنسيّ عربيد و لا في مجالسة فنـّانة مردتْ على التسهيد!

قيادة قويّة أخلاقيّا، إذ لا تستشرع بالمراسيم الضرورية، بقدر ما تستنبت في الناس سلوكات يعجز عن فرضها، أحيانا، تلويح بسجن أو تخويف بتغريم!

فإذا أضفتَ إلى ذلك شبحَ تعدد الحضور الافتراضي، استقام صاحب الشطط ونشط الكسول واستيقظ النائم!

يومئذ نقترب تدريجيا من صورة مجتمعية لن تضيع فيها زجاجة عطر واحدة في مطار ولا في ميناء، ولن يؤكل سحْتاً دينارٌ يتيمٌ في طرق البلاد، ولن يغامر قاض على بناء قصر مشيد!

ولن ينعم يومَها إطارٌ سام ولا مسؤول كبير بالعطلة السنويّة في كوت دازير!

ولن يملك عندئذ أحد الكبراء مسكنا قرب الشانزيليزي ولا بطاقة إقامة في فرنسا!

كل ذلك يأتيه الناس رَغبا أو رَهبا!

فعندما لا يسرق الكبار، يعفّ الصغار.

حينئذ يسمع الشباب نداءات: لا تسرق، لا تنتحروا، لا تتقاتلوا، لا تتكاسلوا عبر حراسة موقف أو بيع تبغ!

أما اليوم، والدنيا أمامهم ظالمة مظلمة، فكأنّ آذانهم أصابها صمم!

تلك قوّة لا تمنع تواضعا، كالنجم المنعكس نوره في النهر وهو رفيع!

حسِب الألمان أنفسهم بمفازة من الباطل وهم يصرخون: “الدولة قوّة!”

وما أدركوا معشار قيمة ما اقترحه الفرنسي “ب. فاليري” وهو يتوجّس من القوة والضعف في آن: “إذا كانت الدولة قوّية سَحقتنا، وإذا كانت ضعيفة هَـلكْنا”.

فهلاّ وجدوها متوازنة عند الصديّق وهو يوزّع بالقسطاس رفق السلطة حينا وعنفوانها حينا آخر: “القويّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قويّ عندي حتى آخذ له الحق”!

وهذا عُمر، الشديد في الحقّ، يكتب الكتاب إلى واليه فيحدد المرسِل والمرسل إليه: “من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص…”.

الخليفة يذكّر نفسه بعبوديته لله، خشية الغرور بالحُكم الذي لا يعلوه بشريّا حُكم!

والوالي، بدون صفة “عبد الله”، لأنّه مرؤوس يعلم محدوديّة سلطته!

إنّه أمير المؤمنين الذي يُنسب إليه تعريف القيادي بذاك الذي يُجهل حاله في المجلس لتواضعه، وبذلك الرجل من عامّة الناس الذي يحسبه القوم أميراً لقوّة حضوره…

فأين من هذا النقد البصير حديثُ أهل الغرب عن الكاريزما؟

لا يمكن أن تكون أمثال هذه الأقوال إلا امتدادا لمشكاة النبوّة…

إنّ القيادة المقتدرة لا تستغني عن الخبراء، ولكنهم لا يعبثون بها.

وأنّى لها الفرح بعلمها المحدود ونبيّنا المعصوم ـ صلى الله عليه وسلم ـ يسأل أيام الحديبية عن رجل يدلـّهم على الطريق؟

وكيف تستكفي بما أتاها الله تعالى وهي تعلم كيف استفاد سيدنا سليمان ـ عليه السلام ـ من قدرات ذلك الهدهد الرائع؟

القيادة المقتدرة لا تحوز إحاطة بالفيزياء النووية، ولكنها تعرف مضار المفاعلات الذريّة القديمة ومساوئ الجديد منها المسمى “أ.ب.آر”.

القيادة المقتدرة لا تملك فنون شق الطرقات السيارة، ولكنها لا تـُلدغ على مستوى المواصفات والأسعار.

ولن يرى الناس في طرق الغد السيّارة غـَوْلا ماليّا ولا غلولا!

القيادة المقتدرة تفتقد الإلمام بالصناعة الحربيّة، ولكنها تستطيع المفاضلة بين طائرة التموين الجويّ الأمريكية “كاي.سي 135” ونظيرتها الأوروبية بصيغتها غير المدنيّة.

القيادة المقتدرة لا تضيع وقتها في الوقوف على تقنيات المحاسبة العالمية، ولكنها لا تنام والواردات ـ لاسيما الخدمات منها ـ تكاد تنفجر انتفاخا تجاريا وكذبا ماليا.

فإلى متى والبلد مهان باستجلاب الإبرة وعود الأسنان؟ وهلاّ اقتربنا قليلا من مصنـّعات تركيا أو أيدي ماليزيا الصّنـَاع أو نسيج بنغلاديش وباكستان؟

القيادة المقتدرة تحترم خبراء الصناعة الصيدلانية، ولكنها لا تسكت عن واردات الدواء وهي تجري ـ مثل أهل السباق الأولمبي ـ نحو ملياري دولار!

القيادة المقتدرة لا تتقن إنشاء البنوك، ولكنها لا تغمض العين عن عبد مؤمن ولا عبد كافر وهو يغترف من المال العام.

و لينظر المستقورون إلى ديغول وهو ينفي تمكّن البورصة ـ “السلة” ـ من القفز على سياسته…  

لا يسأم المرء من ترديد تساؤل خُتمت به ورقة الأسبوع الماضي: “فهل ترى منا الدنيا غدا نموذج حُكم تظهَر فيه للناس، من بعيد، عيّنات من عهد الفاروق؟”

وهي القيادة المنتظرة التي تختصر الطريق الحضاريّ الطويل، رغم مقولة غالبريث في التقنوقراط، وتسرّع التاريخ لنخرج نهائيا من “اللاتاريخ” ـ بعد أن تدحرجنا من درجة الشهادة على الناس إلى درك المشاهدة أمام تلفاز دنيا يصنعها، في غياب المسلمين، مشرق ضالّ ومغرب كافر!

أحمد بن محمد
13 أوت 2013

التعليقات مغلقة.

Exit mobile version